في كل زمانٍ ومكان، نلاحظ مسألة تعترض رجال القانون، وهي مسألة الجزاء، التي هي غالباً ما تكون نتيجتها أنها لا تجد حلاً قانونياً، لأن فاعلية القاعدة قد لا ترتبط في هذا المجال بالقانون وخصوصاً في موضوع الحريات العامة.
وبالتالي، في مسألة الحريات العامة، تكون فاعلية الجزاءات القانونية هزيلة جداً، الأمر الذي يجعل الضمانات الأفضل للمواطنين في تحقيق شيء آخر، وفي هذه المسألة يرتبط هذا الموضوع بالدرجة الأولى بنظام الدولة وتطورها الحضاري، والمدى الذي توصل إليه الشعب والمجتمع بما يضفيه على القانون من احترام الذي لا يعيش وينمو إلا في ضمير الشعب، وعلى ما تتمتع به السلطة القضائية من استقلالية وحصانة وفهم وإعداد.
دور القضاء
من المفروض والبديهيات أن يكون للقضاء الدور الأول في ضمان حريات المواطنين، وأن تكون قدرة القضاء لا محدودة، مع الانتباه إلى أن دور القضاء يختلف من بلد إلى آخر وبحسب ما يتمتع به من استقلالية وحصانة ومزايا، ومع نسبية الاحترام في هذا الشأن، لا يزال القضاء الجهة الأكثر تمتعاً بالثقة في ضمان الحريات.
وإذا كان دور القضاء لم يقتصر في كثير من البلدان على فض المنازعات الخاصة بين الأفراد، فإن دوره أخذ يمتد إلى صلاحيات أوسع، إذ أن بلداناً كثيرة تعارفت على قاعدة ترد بصيغة أو أخرى مفادها أن السلطة القضائية هي الحارس والضامن للحريات الأساسية والملكية الخاصة، وبالتالي ورغم ما سبق، فإن دور السلطة القضائية في نطاق حقوق الإنسان ما يزال عرضة للإنتقادات من جهات عديدة.
ومع زوال الفكرة القديمة على اعتبار القضاء العادي حصن الحريات وتساويه مع القضاء الإداري ضمن صلاحيات معينة، فإنه لا تزال هناك انتقادات ترد حول دور القضاء، منها:
أولاً، تعقيد قواعد الإجراءات الأصولية، منذ اختيار القاضي حتى مختلف الإشكالات التي ممكن أن تحدث في مراحل الدعوى، إذ لا يزال كثير من المواطنين العاديين الذين لا تتوفر لهم الوسائل المادية لتأمين دفاع قوي عنهم، يعانون من فقدانهم للحدود الدنيا من الضمانات الواردة في نصوص القانون.
ثانياً، التكاليف الباهظة في اللجوء إلى القضاء وعدم فاعلية مؤسسات الدعم القضائية المعروفة بعدد من البلدان بأشكالها المتنوعة.
ثالثاً، بطء العدالة الذي يعود لأسباب كثيرة تتعلق بعدد المحاكم وقصورها وبتكوين القضاة العلمي، حيث أن كثيراً ما تكون الأحكام التي تصدر في قضية ما، تمت بصلة لحقوق الإنسان قد أتت بعد وقت طويل من الحدث الذي مس بحق الإنسان هذا، فما هي الفائدة مثلاً من إلغاء قرار عرفي بتوقيف زيد من الناس بعد أن يكون أنجز مدة توقيفه؟ وما هي الفائدة من حكم يلغي قراراً إدارياً يمنع اجتماعاً معيناً بعد فوات موعد الإجتماع؟
رابعاً، ما هي الفائدة من حكم براءة إنسان تعرض للإهانة والتعذيب في بعض البلدان التي تسلك هذا المسلك في أعمال التحقيق؟!
كل هذه الأسباب وغيرها الكثير، تجعل الجزاء عن طريق القضاء يصطدم في بدايته بحدود واقعية مهما كانت النصوص القانونية مشرقة، فالقضاء لا يستطيع التدخل إلا بعد إنتهاك الحقوق. كذلك فإن هذا الوضع يمكن أن يتفاقم أيضاً ببطء الإجراءات اللازمة وتعقيداتها، وبالنتيجة تكون الحماية القضائية للحريات تشوبها العديد من النواقص.
وإذا كان المشرع في بعض البلدان المتقدمة قد حاول إيجاد بعض النصوص في سبيل تنفيذ سريع للأحكام التي تصدر عنه، فإن مثل هذه الأحكام بقيت بدون تأييد وبدون ممارسة وبالتالي بدون قيمة عملية، وهكذا فإن الأمر كله مرتبط بنظام الدولة وتطورها الحضاري واستعداد شعبها للدفاع عن حقوقه وعن احترام القانون.
عبدالعزيز بن بدر القطان مستشار قانوني – الكويت.