من أجل أن يكون الشخص أكثر فاعلية في اختياره لطريق نشر تعاليم الإسلام، يجب أن يتعلم ما يدافع عنه، حيث يتطلب هذا قراءة المواد ومشاهدة الأفلام الوثائقية وحضور الندوات ووسائل التعليم الأخرى من أجل خدمة القضية بشكل أفضل، لأنه عندما ندافع عن قضية ما، فيجب الإلمام بكل الأسلحة التي يجب أن نعرف كيف سنصوبها وأين الهدف، لكن لا يمكن فعل ذلك بنجاح إذا لم نكن على علم بمحتوى ومضمون ما نقدم، وأن نكون قادرين بالحقائق والرد على الانتقادات الشائعة.
ومن المعروف أن من عوامل إسهام الكتّاب الذين لمع نجمهم في القرن الماضي، كانت مصر تعيش فترة نهضة كبيرة، وبدأت تتشكل ملامح شخصياتها الذين تركوا إرثاً كبيراً في الأدب والشريعة والتاريخ والصحافة والعلوم المختلفة، وبنفس الوقت في ذات الفترة، نجد أن هناك صراعات داخل البيت الواحد، بين النمط التقليدي للفكر الديني الذي كان هو السائد في مصر، وبين الفكر الليبرالي أو التنويرين، فكان ثمة صراع مع دخول ألوان جديدة لم يألفها الشارع المصري آنذاك.
هذا الأمر ولّد حراك في مصر، وبرزت مدارس مهمة جداً، لدينا مدرسة الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا، وعبدالله النديم وغيرهم، هذه المدرسة من الممكن تسميتها بـ “المدرسة العقلية”، التي نهلت العلوم المختلفة وبنفس الوقت تمسكت بأصول الدين والعادات والتقاليد الأصيلة، هنا أعتقد أن على أي شخص أراد أن يبتكر في مجاله، يجب أن ينطلق من بيئته يتطور وفق ما تقتضي الضرورة، فلا يجب أن ينغلق على أمور قديمة، بل إن امتلك الأدوات ليستثمرها ويتطور معها، ويخرج عن النمط التقليدي، مع الحفاظ على روح القديم بلمسة عصرية، فالأزهر الشريف مدرسة متكاملة وجامعة أكاديمية تشجع على العلم، منفتحة ضمن ضوابط قل نظيرها.
لن أسترسل في مقدمات طويلة، لأن كل حرف وكل كلمة تستحق أن تكون موجهة لشخصيتنا الرائعة، هذه الشخصية التي تلفت تربية أزهرية كان لها التأثير الأكبر على مسيرة حياتها، إنها كاتبة الدراما الدينية، التي تمنت إعادة التاريخ “أمينة الصاوي” رحمها الله، فأن تكون ابنة شيخ أزهري، وتدخل معهد فنون مسرحية فهذا قمة الانفتاح والرقي.
شخصية ظُلمت رغم إبداعها، في حين لمعت أسماء، كانت هي تعمل بصمت، متمسكة برسالة المرأة المسلمة الخلوقة المؤمنة، تربيتها الأزهرية دفعتها لابتكار أعمال تلفزيونية هادفة لم تقتصر على مصر فقط، بل جالت كل أرجاء الوطن العربي، والعالم الإسلامي، لم تكن كنساء جيلها بل اختارت التميز من خلال تبسيط مفاهيم أمهات الكتب الدينية الإسلامية وحولتها إلى نصوص درامية مشوقة.
من هي أمينة الصاوي؟
هي ابنة عالم أزهري كبير، الشيخ مصطفى الصاوي، داخل منزله هناك مكتبة كبيرة وضخمة تضم الكثير من الكتب الدينية والعلمية، التي جذبت أمينة بطبيعة الحال، هذه المكتبة كانت الملهمة للكاتبة العظيمة، ففي هذا المخزون الكبير، رأت أمينة أن هذه الكتب كنز ثمين يجب أن يصل لجميع الناس، وفي هذا رسالة كبيرة حملتها على عاتقها منذ ذلك الوقت، ومن هنا كانت البداية.
ولدت أمينة مصطفى الصاوي في محافظة الشرقية عام 1922، لأب أزهري كما أشرت أعلاه، والذي تتلمذ على يديه أهم علماء الأزهر، من بينهم، الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي، الذي كان بدوره له بالغ الأثر في مسيرة كاتبتنا الكبيرة، حيث نهلت من علمه، علوم كثيرة وقرأت الدين، وتعلمت منه الخطابة وحفظ القصائد، ثم اختارت أن تقوي مسيرة تعليمها، حيث التحقت في المعهد العالي للفنون المسرحية واختصت في دراسة النقد، ولتفوقها حصلت على الميدالية الذهبية ثم أصبحت أستاذة للإعداد والتاريخ الدرامي في المعهد، لم تتوقف أمينة هنا، واصلت مسيرتها وبدأ قلمها يخط أهم المقالات، وعملت على تقديم معالجات درامية ومسرحية لكثير من الكتب والمسرحيات من بينها: (قنديل أم هاشم، وزقاق المدق، وغيرهما)، كما قدّمت خلال مسيرتها 17 كتاباً، والعالمة الفارقة أن شهد لها الأديب الكبير، نجيب محفوظ الذي قال إنها أفضل من حولت رواياته إلى أعمال مسرحية.
كتبت أمينة الصاوي بعض الأعمال الدرامية على شكل تمثيليات إذاعية وعندما شعرت أن في كتابتها جهداً كبيراً بعثت بإنتاجها لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين فبعث إليها رسالة قال فيها إنك تحسنين الحوار على نحو توفيق الحكيم وإنكِ بالغة منه شأناً عظيماً إذا درستِ التمثيل، وكانت هذه الرسالة نقطة تحول في حياتها، من هنا نجد أنها تلقت المديح من أهم الكتّاب في ذاك الزمان وإلى يومنا هذا، وهل من فخر وأهمية أكثر من ذلك، من أن تتلقى نقداً بنّاءً إيجابياً ليكون حافزاً لها على إكمال مسيرتها التي اختارت.
إذاً، إن أمينة الصاوي هي من أهم كتّاب الدراما الدينية، في زمانها وأعتقد إلى يومنا هذا لم تنجب مصر أو أي بلد عربي بمستواها، فكان لشهر رمضان ارتباط مع هذا الاسم اللامع، في حقبة الثمانينات من القرن العشرين، مع الإشارة إلى أن تلك الفترة كانت فترة لامعة للفن المصري عموماً وكانت الكاتبة أمينة الصاوي إحدى أهم أعمدة الفن المصري عن نصوص الدراما الدينية.
ربما كثيرون منا شاهد أعمال دينية خلال أشهر رمضان المنصرمة، لكن قلّة منا من يعرف أن من كان يقف خلفها مبدعة كأمينة الصاوي، على عكس الأعمال الرمضانية في الحقبة الأخيرة، التي تنقل الأعمال الدينية بكثير من الخطأ والتشويه، ظناً منها أنها يمكن أن تحقق ربحا ًوكسباً سريعاً، فهذا الإنتاج تحديداً يحتاج إلى عدة اختصاصات معاً فلا تكفي الحبكة الدرامية والمواقع التصويرية، بل يجب التأكد من دقة النص والمعلومات خاصة فيما يتعلق بسير الأنبياء والرسل، وقصص القرآن، وحتى الصحابة أو القادة الإسلاميين.
كثيرُ منا أيضاً قرأ كتاب “على هامش السيرة” لعميد الأدب العربي، طه حسين، أمينة التي حولت هذا العمل إلى مسلسل ديني، كان عليه إقبالاً شديداً ومتابعة قد نسميها في يومنا هذا “ترند” ما دفعها إلى مواصلة هذا النهج من الأعمال، لتلحق بالمسلسل الديني المسلسل الآخر والذي حمل عنوان “لا إله إلا الله” من خمسة أجزاء، مستعينة بنص الأستاذ عبد الحميد جودة السحار ولازال هذا المسلسل بأجزائه الخمسة من أشهر المسلسلات الدينية، وكذلك العملين الرائعين “الأزهر الشريف والكعبة المشرفة”، بعد وصولها إلى ما وصلت إليه أضافت أمينة الصاوي لنشاطها بعداً تنظيرياً مهماً كان ضرورياً ليتناسب مع ما حققته من شهرة فألفت كتاب “التفسير الدرامي للقصص القرآني” (1984)، لنتأمل هذه الأسماء لهذه الأعمال، من اسمها نعلم تماماً أنها ستتضمن حكماً وأدباً ومواعظ كثيرة، ستنشئ أولادنا على القيم والتعاليم السمحة، ستنمي مدارك أطفالنا، وتعزز معرفتهم بدينهم بطريقة سلسلة وصورة وكلمة وصوت وإبداع، شخصياً أعشق هكذا أعمال الموجهة بشكلها الصحيح وأتمنى إحياؤها أو العمل على غرارها في أيامنا هذه.
تقول أمينة الصاوي عن أعمالها الدينية إنها أرادت أن تخدم الدين فتوسلت بالدراما وأنها كانت صادقة في رغبتها ومن ثم كانت الدراما وسيلة موفقة سمحت لها أن تقدم لها خلاصة جهدها في هذه المنطقة.
الأطفال كان لهم حصة مهمة في مسيرة الراحلة أمنية الصاوي، عندما قدمت عملاً مهماً لهم بعنوان “من قصص القرآن”، حيث فسرت القصص القرآنية بطريقة درامية مشوقة، لكن كل ما قدمت لم يغفر لها خطأ اعتبره القيمون في وقتها أنه أمر جلل، فقد تعرض مشوارها إلى هزة كبيرة عندما اختارت أن تعالج مسرحية لكتاب عن القرامطة التي انشقت عن الدولة الفاطمية للكاتب على أحمد باكثير في حقبة الستينيات من القرن الماضي، الأمر الذي اعتبروه أنها تشير لليسارية والماركسية بطريقة مسيئة، لكن حقيقة الأمر أنها قامت بإسقاطات سياسية على الفكر اليساري في عهد عبد الناصر، ربما اختيارها لهذه المعالجة في فترة حرجة من تاريخ مصر وهي فترة النكسة كان له الأثر بما تلا لاحقاً في وضع ومكانة أمينة الصاوي، لأننا نعلم في تلك الفترة كانت الأوضاع السياسية في مصر مليئة بالتقلبات السياسية بين ظهور لأحزاب وحركات وتقلبات من الملكية إلى الجمهورية ودخول نماذج كثيرة في الحياة السياسية، فكان لذلك الأثر البالغ عليها لأنه على إثر ذلك تم فصلها من العمل في التلفزيون لتقرر ترك الساحة والتوجه إلى السودان.
خسرت مصر كاتبة كبيرة، وغنمت بها السودان، فقد قدمت خلال تواجدها هناك أعمالاً مبدعة للإذاعة السودانية، ذلك فتح لها آفاقاً واعدة حيث انتبهت لها المملكة العربية السعودية آنذاك، لتكون محطتها التالية هي مدينة جدة التي مكثت فيها فترة طويلة بعد السودان، أعطاها تواجدها في المملكة خلال عملها في الإذاعة تأثيراً روحياً كان مرزه مكتبة والدها دون أدنى شك، لتعود بعد ذلك إلى مصر بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وتستكمل كتاباتها الدرامية للإذاعة والتلفزيون المصري.
الكاتبة العظيمة مثلها مثل أي امرأة حالمة، لقد حملت أمنية في داخلها وهي أنها كانت تتمنى أن تقدم عملاً درامياً ضخماً عن نهر النيل، حاولت تحقيق هذه الأمنية لواقع حيث اجتمعت مع عدد من العلماء والكتّاب للعمل على هذا المشروع الذي يعرض تاريخ نهر النيل من الناحيتين التاريخية والجغرافية وهذا يفهمنا دون أدنى شك أنها ستتطرق إلى الحضارات القديمة والمجموعات البشرية التي سكنت قرب النيل وحوضه، والصراعات التي دارت بسببه، لكن وفاتها حالت دون تنفيذ هذا المشروع مع شديد الأسف، لأنه لو تحقق لكان سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه.
كل هذه المسيرة لم تقف عائقاً أمام تلك السيدة العظيمة التي كانت تواظب على صلاتها في وجودها الأخير في مصر في أحد المساجد في منطقة السيدة زينب الذي بنته أسرتها، لترحل عن عالمنا في العام 1988 بعد أن قضت مسيرة طويلة من عمل يتمنى الجميع لو أنه حظي بربع ما تملك من مخزون ديني وثقافي وعلمي، فهي امرأة لن تتكرر، واسمها لن يتكرر، هي كاتبة مرموقة حجزت لنفسها موقعاً إلى جانب كبار الكتّاب من أمثال نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم من الأسماء التي خلّدها التاريخ.
أمينة الصاوي امرأة مسلمة من بلادي العربية، امرأة حديدية، متميزة مشرقة، ظلموها سابقاً، لكن سننصفها ما استطعنا، تستحق منا الإبراز والاهتمام والإضاءة على أعمالها، فهي لم تكتب إلا بعد أن نهلت علوماً وثقافة كبيرة، هي من تستحق التكريم وشهادة نوبل في زمانها وكل الأزمنة، لا أبالغ لأن ما قدمته لوحدها تتكفل به اليوم مؤسسات وشركات تحوي عشرات إن لم نقل مئات الكتّاب والموظفين، لكنها بقلم واحد حققت ما عجز عنه الكثيرون، رحمها الله وأحسن مثواها، إنها أيقونة ستبقى مشعة في تاريخ الدراما الدينية ما حيينا، فكثير من الجيل الحالي ربما لم يسمع بها ويجب أن تخرج أقلام تحيي هذه الأيقونة عبر إحياء تراثها وهي التي في جعبتها 17 كتاباً يجب أن يُعاد نشرهم ففي مجالها هي أم النقد والمسرح والدراما الدينية علّنا ننهض بأعمال تحيي هؤلاء العظماء فحقها الأدبي علينا أن نحيي أعمالها لأن مصر مهد الثقافة والحضارة أعطتنا أهم الأسماء الخالدة التي لا تسقط بالتقادم.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.