المتابع للسياسة السعودية يرى بوضوح مدى تغيّرها، وهو تغيرٌ بالتأكيد إلى الأفضل والأحسن. ونُجمل تلك التغيرات في التوجه السعودي إلى الصين – المنافس الأبرز لأمريكا حاليًا – وكذلك الانفتاح على سوريا وإعادة العلاقات معها بعد عشر سنوات عجاف ودعوة الرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمة العربية التي عُقدت في السعودية، وكذلك إعادة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعد قطيعة استمرت سبع سنوات، وما تبع ذلك من إعلان الأدميرال شهرام إيراني قائد القوات البحرية الإيرانية الأسبوع الماضي إنشاء تحالف بحري مع دول خليجية بما في ذلك السعودية لحماية الملاحة في المنطقة؛ وهي الخطوة التي جعلت تيم هوكينز المتحدث باسم الأسطول الأمريكي الخامس والقوات البحرية المشتركة يصرح حسب موقع «بريكينغ ديفينس» المتخصص في الأخبار العسكرية، أنّ «التحالف الذي أعلنت إيران اعتزامها تشكيله مع السعودية ودول خليجية أخرى أمرٌ غيرُ منطقي ويتحدى العقل»؛ لكن الأبرز من ذلك كله – في التوجهات السعودية الجديدة – هو الشروط التي وضعتها للتطبيع مع الكيان الصهيوني، والتي رأتها مصادر إسرائيلية أنها «تعجيزية»، وتُفشل خطط بنيامين نتانياهو الذي تعهّد في نوفمبر الماضي بالتطبيع مع السعودية خلال فترة قصيرة، وتُفشل كذلك التفاؤل الإسرائيلي بإمكانية التوصل لاتفاق مع السعودية في غضون أشهر بوساطة أمريكيّة، «على خلفية الخوف من إيران الذي قرّب إسرائيل لدول الخليج»، طبقًا لصحيفة «يديعوت أحرونوت».
والسياسة السعودية الجديدة من باب أولى أنها تزعج واشنطن، لذا فقد أرسلت الإدارة الأمريكية إلى الرياض كلًا من جيك سوليفان مستشار الأمن القومي، وأنتوني بلينكن وزير الخارجية، ووليام بيرنز رئيس وكالة المخابرات المركزيّة، من أجل ممارسة ضغوط على الأمير محمد بن سلمان «ومنع وقوعه في أحضان الصين وما يُسّمى إسرائيليًا بـ «محور الشر بين إيران وروسيا»، كما أشار إلى ذلك ناحوم بارنبيع المُحلِّل السياسيّ في صحيفة «يديعوت أحرونوت». وطبقًا له، قدّم ابن سلمان لإدارة بايدن ثلاثة مطالب؛ الأول هو تنفيذ صفقة الأسلحة العملاقة التي أبرمها مع إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، وتشمل طائرات إف – 35، والثاني إقامة منشأة لتخصيب اليورانيوم في السعودية، كي تدخل النادي النوويّ، أما المطلب الثالث فيكمن في إدخال الفلسطينيين إلى المفاوضات، لذا يرى ناحوم بارنبيع أنّ تلك المطالب هي تعجيزية، لأنّ الرئيس الأمريكي يعلم أنّه سيكون صعبًا جدًا عليه أنْ يُقنِع الديمقراطيين بالموافقة على شروط الأمير محمد بن سلمان؛ فحسب مصادر في كلٍّ من واشنطن وتل أبيب على الرئيس الأمريكي «أنْ يقدّم شروط ابن سلمان إلى الكونجرس على ملعقة سكر.. وهذه الملعقة هي تنازل تقدّمه حكومة إسرائيل إلى محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، قد تكون استئناف العملية السياسية، ربّما تجميد إقامة المستوطنات، وربما كلاهما معًا».
وإذا كانت المصادر الإسرائيلية والأمريكية ترى في المطالب السعودية شروطًا «تعجيزية»، فإنّ الواقع يقول إنّ تلك المطالب هي مطالب عادية جدًا بل عادلة، إذ يحق لأيّ دولة أن تبني جيشها وتحمي منجزاتها، ولكن المشكلة تكمن في الالتزام الأمريكي لضمان أمن إسرائيل، بما لا يسمح بأيّ تفوق عربي على ذلك الكيان. وأهدافُ الحرب الأمريكية الإسرائيلية على البرنامج النووي الإيراني ليست خافية على أحد.
الضغوطُ الأمريكية على الدول العربية لكي تطبّع مع الكيان الصهيوني معروفة ومعلنة من خلال التصريحات الرسمية لكبار المسؤولين الأمريكيين، الذين يكررون دائمًا التزامهم «بأمن إسرائيل»، وهم يعلمون الثقل التي تمثله السعودية؛ لذا فاهتمامهم انصب على تطبيع السعودية علاقاتها مع الكيان، لتكون تلك الخطوة مفتاحًا للآخرين ليخطوا الخطوة نفسها، وهو ما أشار إليه أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكية في خِطاب ألقاه يوم الاثنين الماضي الخامس من يونيو 2023، أمام اللوبي الصهيوني في واشنطن بقوله إنّ «تطبيع العلاقات بين السعوديّة وإسرائيل يندمج ضِمن المصالح الأمنيّة للولايات المتحدة، ونُؤكّد التِزامنا الصّلب بأمن إسرائيل وأن كُل الخِيارات مفتوحة لمنع إيران من إنتاج أسلحةٍ نوويّة». ولكن يبدو حتى الآن أنّ التقارير التي تحدثت عن حدوث «انفراج» في تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، مبالغ فيها بشكلٍ كبيرٍ، فإيتمار آيخنر المراسل السياسي لصحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، يؤكد أنّ «ما هو على جدول الأعمال حاليًا هو محاولة للتوصل لاتفاقياتٍ بشأن الرحلات الجوية المباشرة من تل أبيب إلى جدة لحجاج فلسطينيي 48 لأداء الحج في مكة». وقد نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية الأسبوع الماضي، أنّ إسرائيل ستوافق على تسيير الرحلات الجوية بين مطاري بن غوريون وجدة لتسيير 4500 حاج من فلسطينيي 48، وهو ما اعتبره موشيه كوهين مراسل صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أنّه طريقٌ للتطبيع بين البلدين.
لقد سبق للصحف الأمريكية مثل «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، أن نشرت الشروط السعودية للتطبيع، والتي يراها الباحث السعودي عبد العزيز الغشيان «خطوة بلاغية»، مشيرًا إلى أنه «من غير المرجح أن يقوم المسؤولون السعوديون في الواقع بتسهيل تحقيق فوز كبير في السياسة الخارجية للرئيس بايدن، بالنظر إلى شكاواهم من إدارته، وأنّ القيادة السعودية لا تريد أن يُنسب فضل التطبيع السعودي الإسرائيلي إلى بايدن كرئيس للولايات المتحدة، لكنهم لا يمانعون بأن يتحمل بايدن اللوم في عدم وجود اتفاقية».
إنّ التوجه السعودي الجديد بتحسين العلاقات مع إيران جاء عكس الرغبات الأمريكية والإسرائيلية، في ظلّ بوادر التقارب المصري الإيراني، وهو ما ذهبت إليه صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية «بأنّ التوصل إلى اتفاق تطبيع بين إسرائيل والسعودية أصبح أولوية، في ظلّ مواجهة محتملة مع إيران»، وهي النغمة التي ترددت في السنوات الماضية طويلا عن خطر إيران – مثلما جرى الحديث سابقًا عن خطر العراق -، والغريب أنّ الدول العربية كانت تنساق وراء تلك التهديدات المزعومة حتى رأينا المنطقة تنقسم إلى فسطاطين؛ فسطاط مع إيران والمقاومة، وفسطاط مع إسرائيل وضد المقاومة، وهو الفسطاط الذي قادته إسرائيل ويعارض البرنامج النووي الإيراني، في وقت صمت فيه عن البرنامج النووي الإسرائيلي. ولكن مع تحسن العلاقات السعودية الإيرانية فإنّ ما ذكرته صحيفة «نيويورك تايمز» سابقًا أنّ المملكة العربية السعودية قد تسمح للقوات الجوية الإسرائيلية عبور مجالها الجوي لقصف إيران، قد أصبح خبرًا لا قيمة له، بل لا قيمة لأيّ ادعاءات لبعض التقارير الإخبارية عن وجود تعاون دبلوماسي واستخباري مكثف وراء الكواليس، سعيًا لتحقيق أهداف مشتركة ضد «العدو الإقليمي إيران»، ثم إنه لا معنى لتصريحات بنيامين نتانياهو رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي أكثر من مناسبة من أنّ تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية سيشكّل خطوة كبيرة «لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي»، فمثل هذه التصريحات سمعناها كثيرًا في العقود الأربعة الماضية دون أيّ فائدة، ونرجو ألا يتم ذلك التطبيع (وإن كان ليس مستبعدًا على المدى الطويل، وعلى المستوى الشخصي أراه مسألة وقت فقط).
إنّ فكرة إنشاء تحالف بحري لحماية المنطقة، يعيد إلى أذهاننا توجهات جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه، الذي كان يؤمن بأنّ مسؤولية أمن المنطقة هي مسؤولية أبنائها، وإن أتت فكرة إنشاء هذا التحالف متأخرة، فهو خيرٌ من ألا تأتي مطلقا، ولا بد أن أشير إلى أنّ الحديث الدائر عن تخلي دول المنطقة عن أمريكا، من الصعب تصديقه (على الأقل في الوقت الراهن)، لأنّ علاقات بعض الدول العربية بأمريكا متشابكة ومتداخلة ولها جذورها، فلا ينبغي «التسطيح» بالقول إنّ الدول العربية تتحدى أمريكا، ولكن آن للدول العربية أن تكون سيدة قرارها؛ فيكفي أنّ هذه الدول كانت غالبًا هي مفتاح الفوز لأيّ انتخابات أمريكية وإسرائيلية للأسف، وآن لدول المنطقة أن تعرف من الصديق ومن هو العدو؟ وآن لهذه الدول أن يكون لها القدرة على قول «لا»، وأن تعي مصلحتها. وباختصار آن لها أن تكون دولًا وطنية لا تتسول موافقة واشنطن على إنشاء أيّ برنامج نووي حتى لو كان سلميًا. والشعوبُ العربية – وأنا منهم ومعهم – مع أيّ خطوة تتخذها أيّ دولة عربية ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان: عدد الاثنين 12 يونيو 2023م