تؤدِّي مؤسَّسات المُجتمع المدني دَورًا محوريًّا في منظومة التنمية واستراتيجيَّات البناء الوطني، وهي تُمثِّل مع غيرها من مؤسَّسات الدولة مسارًا تكامليًّا في مَسيرة البناء والتطوير، ولقد أعطت الدولة منذ سبعينيَّات القرن العشرين مؤسَّسات المُجتمع المدني حضورًا واسعًا انطلاقًا من أهمِّيتها في مَسيرة العمل الوطني، جاء ذلك متناغمًا مع سياسات الدولة الداخليَّة والخارجيَّة وترسيخ نُهُج دولة القانون والمؤسَّسات، ودَوْرها كشريك في التنمية وترسيخ الوعي وتعظيم الحوار الاجتماعي وترقيته، واضعة في أولويَّتها تحقيق أفضل الممارسات في تحقيق الشراكة الفاعلة وضمان تحقيق الثوابت العُمانيَّة والهُوِيَّة الوطنيَّة المُجسِّدة لمبادئ التكافل المُجتمعي والشراكة المؤسَّسيَّة والعمل التطوُّعي، حيث وجدت الجمعيَّات والمؤسَّسات الأهليَّة لتكُونَ عنصرًا أساسيًّا في تحقيق تنمية مُجتمعيَّة مستدامة قائمة على تأطير قِيَم الانتماء والولاء والوحدة الوطنيَّة، والتعاون والترابط والتفاعل بَيْنَ كافَّة شرائح المُجتمع.
على أنَّ ملاح الدَّور الاستراتيجي لمؤسَّسات المُجتمع المدني في تحقيق رؤية عُمان 2040 جاء متلازمًا مع كُلِّ حلقات بناء الرؤية وصياغة أبجديَّاتها ومفاهيمها وفلسفة عملها ومحاورها وأهدافها الاستراتيجيَّة ومستهدفاتها التنفيذيَّة والتشغيليَّة، جنبًا إلى جَنب مع القِطاع الحكومي والقِطاع الخاصِّ والأفراد، حيث جاءت الرؤية خلاصة لهذه الشراكات والجهود، وبالتالي يُمكِن تلمُّس هذا الدَّور في كُلِّ مفاصل عمل الرؤية ومن خلال محاورها، ومنها: محور «الرفاه والحماية الاجتماعيَّة» وتحقيق أهدافها الاستراتيجيَّة «شراكة فاعلة بَيْنَ القِطاع الحكومي، والقِطاع الخاصِّ، والمُجتمع المدني في مجالات التنمية الاجتماعيَّة» والهدف « مُجتمع مدني ممكّن ومشارك بفاعليَّة في التنمية المستدامة وإطار تنظيمي فاعل ومحفّز لعمل مؤسَّساته»؛ ومحور «تنمية المحافظات والمُدن المستدامة» وعَبْرَ تجسيد عملي لدَوْر المحافظات في العمل الاجتماعي وتقوية التكافل والعمل الخيري، وتعزيز ثقافة العمل التطوُّعي ويؤسِّس لدَوْر أكبر للجمعيَّات في المساهمة في تعزيز الوعي الاجتماعي، ويستمرُّ هذا الدَّور في محور «المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنيَّة» ودَوْرها في تعزيز الهُوِيَّة والقِيَم والأخلاق العُمانيَّة، وترسيخ المبادئ والثوابت وتعميق حضورها في حياة المُجتمع، واستنطاق القِيَم الدينيَّة والوطنيَّة واستنهاض الروح الإيجابيَّة في سلوك المواطن في التعامل مع المستجدَّات المرتبطة بالمخاطر والأزمات والأنواء المناخيَّة والحالات الطارئة، أو كذلك ما يرتبط بدَوْرها في حفز الشَّباب والمُجتمع على الالتزام بتحقيق الوحدة الوطنيَّة والتآلف والتضامن والسَّلام بَيْنَ أبناء المُجتمع. ويستمرُّ هذا الدَّور في مساعدة المُجتمع في التعامل مع الضغوطات النفسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الناتجة عن ارتفاع الأسعار والإجراءات الاقتصاديَّة وظروف المعيشة، وما يمكن أن تقدِّمَه مؤسَّسات المُجتمع المدني (جمعيَّة المرأة العُمانيَّة) في الترويج للمنتج العُماني ومنتجات الأُسر محدودة الدَّخل والأُسر المُعسرة وأُسر الضمان الاجتماعي، أو ما يتعلق بالوعي بقِيَم الاستهلاك الرشيد وتعزيز سلوك الاعتدال في الثقافة الشرائيَّة، أو ما يتعلق منها بالجوانب الاجتماعيَّة المرتبطة بارتفاع المهور أو التكلُّف في مصاريف الأعراس أو العزاء، ودَوْرها في مساندة أُسَر الضمان الاجتماعي ومحدودة الدخل من خلال لجان العمل الخيريَّة المنتشرة بالمحافظات والولايات، بل يتعدَّى دَوْرها اليوم إلى خلق وتعزيز مفهوم أعمق للحوار الاجتماعي التشاركي في كُلِّ ما يتعلق بالمواضيع التي تهمُّ المواطن في المجالات السياحيَّة والثقافيًّة والفكريَّة والاجتماعيَّة والسلوكيَّة والثقافة العامَّة، الأمْرُ الذي يجعل من هذه المؤسَّسات خيوط التقاء فاعلة تعمل مع مؤسَّسات الدولة المعنيَّة والقِطاع الخاصِّ ومبادرات الأفراد في تعميق قِيَم الانتماء والولاء، وترسيخ المواطنة والحسِّ الوطني، وترقية مفاهيم المبادرة والمبادأة في فِقه الشَّباب.
لقد رافق تحقيق التحوُّل الشامل في مؤسَّسات المُجتمع المدني محطَّات تطويريَّة جعلت منه قِطاعًا واعدًا في ظلِّ اكتمال البناء المؤسَّسي والتشريعي، حيث جاء في المادة (٤٠) من النظام الأساسي للدوَلة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021) ما نَصُّه: «حُريَّة تكوين الجمعيَّات مكفولة، وذلك على أُسُس وطنيَّة ولأهداف مشروعة وبوسائل سلميَّة وبما لا يتعارض مع نصوص وأهداف هذا النظام، ووفقًا للشروط والأوضاع التي يبَيِّنها القانون. ويحظر إنشاء جمعيَّات يكُونُ نشاطها معاديًا لنظام المُجتمع، أو سريًّا، أو ذا طابع عسكري، ولا يجوز إجبار أحد على الانضمام إلى أيِّ جمعيَّة». وجاء التنظيم المؤسَّسي لهذا القِطاع من خلال إصدار قانون الجمعيَّات الأهليَّة الصادر المرسوم السُّلطاني رقم:(14/2000) وتعديلاته الصادرة بالمرسومَيْنِ السُّلطانيَّيْن رقمَي:(30/2001 و23/2007)، واللذَيْنِ حدَّدا الإطار الفلسفي والمفاهيمي للجمعيَّات الأهليَّة في المادة (1) منه، والمرجعيَّة أو الجهة الإداريَّة لهذه الجمعيَّات في المادة (3) وهي في ظلِّ إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة والاختصاص تتبع وزارة التنمية الاجتماعيَّة والصلاحيَّات الممنوحة للوزير في المادة (4) بشأن مجالات عمل هذه الجمعيَّات.
وتُشكِّل الجمعيَّات الأهليَّة أحد أهمِّ مُكوِّنات مؤسَّسات المُجتمع المدني، وقد حدَّدت المادة (1) في قانون الجمعيَّات الأهليَّة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (14/2000) أهداف هذه الجمعيَّات في القيام بنشاط اجتماعي أو ثقافي أو خيري، ويشمل ذلك الصناديق الخيريَّة والجمعيَّات والأندية الاجتماعيَّة والثقافيَّة والتي تنشئها الهيئات الخاصَّة أو الشركات أو المؤسَّسات أيًّا كانت التسمية التي تطلق عليها». وحدَّدت المادة (4) من القانون مجالات عمل هذه الجمعيَّة في: رعاية الأيتام، ورعاية الأمومة والطفولة، والخدمات النسائيَّة، ورعاية المُسنِّين، ورعاية الفئات الخاصَّة والمعوّقين، ومجالات أخرى يرى الوزير إضافتها بعد موافقة مجلس الوزراء؛ وإيمانًا بالمستجدَّات والتحوُّلات الحاصلة في منظومة العمل الوطني ذات الصلة بعمل الجمعيَّات من جهة، والتنوُّع الحاصل في أعداد هذه الجمعيَّات واختصاصاتها ومجالاتها الذي أدَّى بدَوْره إلى التنوُّع في أنشطتها وبرامجها، بات يطرح اليوم أهمِّية مراجعة التشريعات والقوانين النافذة بالشَّكل الذي يتواكب مع التطوُّر الحاصل في هذه الجمعيَّات ويتناغم مع الأهداف التنمويَّة المرجوَّة مِنها ويُحقِّق ما أشرنا إليه من مستهدفات رؤية عُمان 2040م، وبهذا يتَّسع مفهوم مؤسَّسات المُجتمع المدني في سلطنة عُمان ليشمل: جمعيَّات المرأة العُمانيَّة، والجمعيَّات المهنيَّة، والجمعيَّات والصناديق الخيريَّة، والمؤسَّسات الخيريَّة، وأندية الجاليات، والتي تقع مسؤوليَّة الإشراف عليها وفق قانون الجمعيَّات الأهليَّة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (14/20009) على وزارة التنمية الاجتماعيَّة حاليًّا. وحسب المادة (2) من قانون الجمعيَّات الأهليَّة المشار إليه، «لا تسري أحكام هذا القانون على الهيئات الأهليَّة والجمعيَّات والأندية الثقافيَّة والفنيَّة التي تنظِّم أوضاعها قوانين خاصَّة»، ما يشير إلى أنَّ مفهوم مؤسَّسات المُجتمع المدني يتَّسع ليشمل هيئات أهليَّة وجمعيَّات وأندية ثقافيَّة وفنيَّة ومؤسَّسات أخرى خارج إشراف وزارة التنمية الاجتماعيَّة، لا تسري عليها أحكام هذا القانون، حيث تنظِّم أوضاعها قوانين خاصَّة. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ الأندية الرياضيَّة والثقافيَّة التي تشرف عليها وزارة الثقافة والرياضة والشَّباب، وكذلك النقابات العمَّاليَّة التي تقع تحت إشراف الاتِّحاد العامِّ لعمَّال سلطنة عُمان الصادر بالمرسوم السُّلطاني. على أنَّ ارتفاع أعداد مؤسَّسات المُجتمع المدني في سلطنة عُمان يُعبِّر عن ظاهرة صحيَّة وطنيَّة لنُموِّ هذا القِطاع، والذي يُشكِّل جزءًا رئيسًا من منظومة العمل الوطني جنبًا إلى جنب مع القِطاع الحكومي والخاصِّ والأفراد، بما يعنيه ذلك من رقمٍ صعْب وحضور قويٍّ في مَسيرة العمل الوطني، وسيكُونُ لها دَوْرها الفعَّال في تعزيز الحراك الوطني الاجتماعي نَحْوَ تحقيق التحوُّل الشامل في منظومة العمل والابتكار والريادة وتحقيق الاستدامة والتنويع الاقتصادي والحماية الاجتماعيَّة وغيرها، حيث تشير إحصائيَّات وزارة التنمية الاجتماعيَّة إلى أنَّ عدد جمعيَّات المرأة العُمانيَّة مع الفروع في مختلف محافظات سلطنة عُمان بلغت حتى نهاية سبتمبر عام 2022 (60) جمعيَّة، وعدد الجمعيَّات الخيريَّة (21) جمعيَّة، وعدد المؤسَّسات الخيريَّة (10)، وعدد الجمعيَّات المهنيَّة (31)، وعدد الأندية الاجتماعيَّة للجاليات (13)، كما تُشير إحصائيات الاتِّحاد العامِّ لعمَّال سلطنة عُمان إلى أنَّه بلغ عدد النقابات العمَّاليَّة في سلطنة عُمان (323) نقابة، وأنَّ عدد الاتِّحادات العمَّاليَّة القِطاعيَّة في سلطنة عُمان بلغ (7) اتِّحادات حتى نهاية عام 2022.
أخيرًا، تبقى مؤشِّرات الارتفاع في أعداد الجمعيَّات والهيئات وتنوُّع مجالاتها، وارتفاع عدد أعضائها، وانتقالها من كونها قِطاعًا خيريًّا صرفًا، إلى أن أصبحَ قِطاعًا تنمويًّا منتجًا يُسهم في تحقيق التنمية المستدامة، وإعادة إنتاج وهيكلة الممارسة المُجتمعيَّة المُتَّجه نَحْوَ العمل الاجتماعي والتطوُّعي والخيري لتكُونَ وفق مرتكزات أكثر مهنيَّة وإنتاجيَّة وتقنينًا وتنظيمًا، يضاف إلى العادات والتقاليد والممارسات التطوُّعيَّة الأصيلة التي يقوم بها المُجتمع العُماني، وتُعبِّر عن هُوِيَّته وقِيَمه وثوابته الوطنيَّة، محطَّات للمراجعة والحوار الاجتماعي الذي يُفضي إلى تشخيص وتحليل واقع هذه الجمعيَّات والهيئات بمختلف مجالاتها وتخصُّصاتها والتحدِّيات التي تواجهها، والعمل على تذليل الصعوبات التي تواجهها، بحيث تتَّجه خطوات العمل القادمة نَحْوَ ثلاثة مرتكزات أساسيَّة، أوَّلها: الإسراع في حوكمة هذا القِطاع من خلال ضمان تطوير القوانين والتشريعات المنتجة والمساهمة في تعزيز الجودة والكفاءة والمهنيَّة والتنافسيَّة والشراكات الاستراتيجيَّة الفاعلة في منظومة العمل الوطني، وترقية الممارسات المهنيَّة الداعمة للتحوُّل الشامل في دَوْر مؤسَّسات المُجتمع المدني بما يُحقِّق أولويَّات رؤية عُمان 2040، ويؤسِّس لمرحلة متقدِّمة من إعادة هيكلة هذه المؤسَّسات وتمكينها، ومنح هذه الجمعيَّات الصلاحيَّات المناسبة لتحقيق أهدافها، وضمان مشاركتها الفاعلة في سنِّ القوانين والتشريعات، وثانيها، تبنِّي سياسات وطنيَّة في تفعيل برامج الدعم الحكومي والحوافز المقدَّمة لهذه الجمعيَّات، ودَوْر القِطاع الخاصِّ في تفعيل المسؤوليَّة الاجتماعيَّة نَحْوَ مؤسَّسات المُجتمع المدني، في تحقيق أهدافها الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، ورفع درجة كفاءتها التشغيليَّة، وضمان قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الإداريَّة والماديَّة للمُجتمع والعاملين المتعاونين والمتطوعين فيها. أمَّا ثالثها فيرتبط بمأسسة العمل التطوُّعي في سلطنة عُمان، فإنَّ معطيات الواقع الوطني بالرغم من أنَّها تضع العمل التطوُّعي اليوم كرَديفٍ للمسؤوليَّة الاجتماعيَّة للأفراد والمؤسَّسات، إلَّا أنَّها تستدعي تحقيق معايير الاستدامة والتنوُّع والواقعيَّة والاتساع والعمق فيه، وهو ما لا يتأتَّى إلَّا من خلال تمكين العمل التطوُّعي في واقع عمل مؤسَّسات المُجتمع المدني، من خلال بناء سياسات وطنيَّة مستدامة في العمل التطوُّعي والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة، وسَنِّ القوانين والتشريعات وأنظمة العمل التي تحافظ على سلامة القائمين عليه، في ظلِّ ارتفاع نسبة المخاطرة في الأعمال التطوُّعيَّة من جهة، بالإضافة إلى توفير الحماية القانونيَّة والممكنات الضبطيَّة التي تساعدها في تحقيق أهدافها بكُلِّ أريحيَّة واحترافيَّة ووفق القانون.
د.رجب بن علي العويسي