ينطلق طرحنا للموضوع من فرضيَّة وجود علاقة بَيْنَ الإجازات الصَّيفيَّة والأداء المؤسَّسي، وأنَّ هذه الإجازات المستحقَّة للموظفين قد تؤدِّي إلى بط العمل وتعطيله إن لَمْ تلتزم مسارات واضحة في تقنينها بما يضْمن كفاية الأعداد المتبقية من العاملين والموظفين على رأس العمل في الوفاء بمتطلباته والتعامل مع أعداد المراجعين أو طبيعة الاحتياج الاجتماعي الحاصلة للمؤسَّسة؟ حيث يثار في هذه الفترة من العام عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة أنَّ طاقة العمل الموجَّهة نَحْوَ تنفيذ المهام في المؤسَّسات الحكوميَّة غير قادرة على استيعاب أعداد المراجعين وتخليص المعاملات في الوقت المُحدَّد، الأمْرُ الذي أدَّى إلى تأخيرها والبطء في عمليَّات إنجازها، وزيادة الفاقد الزمني والوقت المستقطع للإنجاز مع زيادة فترة الانتظار، وأنَّ المراجع غالبًا ما يُواجِه في التعامل مع هذه المواقف الكثير من الحرج، خصوصًا في ظلِّ عبارات التحجج والمبررات التي يسمعها من قِبل الموظف القائم على العمل في مؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة وبشكلٍ خاص الخدميَّة مِنها، فيتحجج الموظف بأنَّ الموظف المختصَّ في إجازة أو أنَّ المسؤول المباشر في إجازة أو أنَّه يمارس دَورًا أكثر من وظيفة في الوقت نَفْسِه، أو أنَّ هذا العمل الذي يقوم به ليس من اختصاصه وإنَّما لسدِّ الفراغ الحاصل بسبب خروج الموظف المختصِّ في إجازة اعتياديَّة، ممَّا يترتَّب عليه قلَّة عدد الموظفين وتوقُّع وجود فاقد في سرعة إنجاز المهام والوفاء بالالتزامات ذات العلاقة.
هذه الصورة باتت وللأسف الشديد مرتبطة بفكرة لدى البعض، أنَّ إجازة الصَّيف تشهد انخفاضًا في أعداد المراجعين للمؤسَّسات نظرًا لخروجهم للسَّفر والسِّياحة والتنزُّه، وهو أمْرٌ قد لا يكونُ له ما يؤكِّده من إحصائيَّات، أو يثبته من دراسات، وقد تكُونُ الفكرة المعتاد تداولها بَيْنَ الناس غير صحيحة ذلك أنَّ خروج النَّاس في إجازات صيفيَّة قد يكُونُ فرصة للكثير مِنهم في تخليص معاملاتهم وإنجازها، ويجد في هذا الوقت مساحة أفضل في مراجعته لهذه المؤسَّسات، الأمْرُ الذي قد لا يتيسَّر له ذلك في غيرها من الأوقات، رغم أنَّ بعض المؤشِّرات لدى المؤسَّسات الخدميَّة كالإسكان والبلديَّات والتجارة والصناعة يضاف إليها شركات الكهرباء والمياه وغيرها تشير إلى ارتفاع أعداد المراجعين لمنصَّات الخدمة فيها بسبب استغلال هذه الإجازات، إلَّا أنَّ قناعة بعض المؤسَّسات المغايرة لذلك تأتي كنتاج لعدم ترتيب أوضاعها أو بقاء هذه الصورة حاضرة في ذهن موظفيها دُونَ تحديث، أو أنَّ هذه الفترة هي الفرصة الوحيدة للموظف في استغلال فترة إجازة الأبناء وفراغهم وفرصتهم للسَّفر والسِّياحة والتنزُّه، ناهيك عن أنَّ المواسم السياحيَّة تجعل لفصل الصَّيف ميزة تنافسيَّة نسبيَّة على غيره من فصول العام، ومع اليقين بأحقيَّة الموظف في الإجازة واستمتاعه مع أُسرته وعائلته، خصوصًا أنَّ البعض يجد في هذه الفترة مساحة للتغيير وإعادة هندسية السلوك، وفرصة للسَّفر والسِّياحة والتنقل، بما ينعكس إيجابًا على أدائه الذهني ونشاطه الوظيفي في قادم الوقت، إلَّا أنَّ تحقيق هذه المعادلة بَيْنَ رفع درجة التوقُّعات المُجتمعيَّة حَوْلَ نشاط المؤسَّسات وبرامجها الصَّيفيَّة وخفض درجة القلق أو حالة السلبيَّة الناتجة عن قلَّة وجود الموظفين في مواقع العمل، خصوصًا في مؤسَّسات الخدمة وما يؤدِّيه ذلك إلى تعطيل مصالح النَّاس، وتطويل سلسلة الإجراءات، والبطء في إنجاز المعاملات، كُلُّ ذلك وغيره يجِبُ أن يؤسِّس لمرحلة جديدة من العمل المشترك والتنسيق المسبق بَيْنَ مؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة حَوْلَ عمليَّات التنظيم والتقنين والضبطيَّة لهذا الموضوع وعَبْرَ تبنِّي مجلس الوزراء الموقَّر لمبادرة وطنيَّة تستهدف ضبط هذا المسار بَيْنَ مختلف مؤسَّسات الخدمة، وإيجاد بدائل وخيارات واسعة ومقننة وواضحة تحافظ على كفاءة وجودة سقف الأداء المؤسَّسي، ولا تفقده حيويَّته وجودته، وفي الوقت نفْسِه تحافظ على ثقة المواطن في هذه المؤسَّسات لتخليص وإنجاز معاملاته، وفي الوقت نفْسِه تُلبِّي احتياجات الموظف نَحْوَ تحقيق رغبته وإدارة مشاعره في الحصول على الإجازة الاعتياديَّة.
ومع التأكيد على أنَّ الإجازة الاعتياديَّة السنويَّة حقٌّ لكُلِّ موظف يشغل وظيفة عامَّة في الجهاز الإداري للدولة تختلف مدَّتها باختلاف الدرجة الماليَّة والوصف الوظيفي له، إلَّا أنَّ القانون لَمْ يحدِّد وقت هذه الإجازة في وقت الصَّيف أو غيره، لذلك ترك الأمْرَ لتقدير رئيس الوحدة واللائحة الداخليَّة في المؤسَّسة ونظام العمل بالمؤسَّسة وطبيعته ومتطلباته ومدى الحاجة لوجود الموظف في تلك الفترة من العام لتقديم هذه الخدمة أو تلك، وهذا الأمْرُ تختلف فيه المؤسَّسات بحسب طبيعتها ومهام عملها، غير أنَّ العادة قد جرت أنَّ معظم المسؤولين يأخذون الإجازات من أجْل الاستجمام مع الأُسرة والتواصل مع الأبناء والسَّفر للسِّياحة وغيرها، فهذه الفرصة قَدْ لا تكُونُ متيسرة بقيَّة العام، ويصعب تحقُّقها إلَّا في الإجازات الصَّيفيَّة، كما أنَّ قناعة بعض الأُسر أيضًا واعتيادها على أنَّ فترة الإجازة الصَّيفيَّة الطويلة التي يأخذها الأبناء تتطلب أن تتفهمَ الأُسرة وضعهم وحاجاتهم للاسترخاء وتغيير الروتين، إلى غير ذلك من المُبرِّرات والعادات الاجتماعيَّة ذات العلاقة بالأفراح واجتماع شمل الأُسر والرحلات العائليَّة وغيرها. وفي تقديري الشخصي لَنْ يُشكِّلَ هذا الأمْرُ تحدِّيًا مقلقًا يواجه منظومة الجهاز الإداري للدولة بالشَّكل الذي يؤثِّر سلبًا على كفاءة الأداء المؤسَّسي، إذا كان الأمْرُ يتمُّ وفق منهجيَّات عمل مؤسَّسيَّة واضحة، ومنظومة تشريعيَّة تقرُّها اللوائح التنفيذيَّة والتنظيميَّة الداخليَّة، وحوار اجتماعي تشاركي داخل البيت المؤسَّسي الواحد في تنظيم إجازات الموظفين وتحقيق العدالة في استمتاعهم بالإجازة في هذه الفترة من العام بما لا يعرقل استمرار العمل فيها بكُلِّ مهنيَّة وسلاسة، وبدُونِ الإخلال بأيٍّ من مسؤوليَّاتها أو المهام المعتادة التي تقوم بها في غير فترة الصَّيف، فإنَّ اتِّخاذ الموظفين لهذا الأمْرِ عادةً لهم لا يمنحهم الحقَّ في أخْذِ هذه الإجازة في الصَّيف، وإنَّما يمكن أن تتَّخذَ المؤسَّسات إطارًا لعملها بحيث تضع نسبة مئويَّة لعدد الذين يخرجون في الإجازة الصَّيفيَّة بحسب المهام والمستويات الوظيفيَّة والإداريَّة على أن يراعيَ في ذلك جملة من المتغيِّرات من بَيْنِها: تدوير الإجازات بحسب طبيعة العمل، والحاجة إلى وجود عدد من الموظفين في مواقع العمل في الصَّيف.
ومعنى ذلك أن تكُونَ المؤسَّسات مستعدَّة لتحمُّل النتائج المترتبة على غير ذلك، أو أن تكُونَ إجازة الموظفين والمسؤولين بها لها انعكاساتها السلبيَّة على الأداء وتأثيره على سَير العمل بالمؤسَّسة، وأن تمتلكَ المؤسَّسة الخططَ لتوفير البديل أو إيجاد التكامل بَيْنَ دوائرها أو تقاسم المسؤوليَّات لضمان تقنين عدد الإجازات الصَّيفيَّة في كُلِّ وحداتها وأقسامها بحيث يستمرُّ أداء الدَّور وتنفيذ المهام بكُلِّ جدارة ومهنيَّة، مع رفع سقف فرص خروج الموظفين للإجازات وبما يحافظ على درجة الكفاءة والجاهزيَّة المؤسَّسيَّة، فإنَّ كان الأمْرُ كذلك، ومضَتِ الأمور وفق منهجيَّات واضحة، وخطَّة محكمة، وأُطر دقيقة وضوابط عمل مؤطرة يعرفها المُجتمع الوظيفي ويضعها في أولويَّة التزاماته بها، ضِمْن قواعد العمل المؤسَّسي الرشيدة، واستمرَّت جهات الرقابة والمتابعة والإشراف بِدَوْرها على أكمل وجْهٍ في توجيه المؤسَّسات وضمان التزامها بالموجِّهات التي أشرنا إليه أهمِّية أن يعملَ مجلس الوزراء الموقَّر على اعتمادها كإطار للمؤسَّسات في إجازة الصَّيف، أو من خلال دَور المؤسَّسات الرقابيَّة بالدولة في الكشف عن أيِّ اختلالات أو ممارسات غير صحيَّة في هذا الشَّأن، فإنَّ الأمْرَ لَنْ يكُونَ له تبعاته السلبيَّة على الأداء المؤسَّسي، خصوصًا في ظلِّ التأكيد عليه من رئيس الوحدة ضِمْن ثقافة عمل المؤسَّسة، وتطبيق معايير ضبط الجودة وقياس الأداء المؤسَّسي وآليَّات عملها. ولعلَّ نشير هنا إلى أنَّه في بعض المؤسَّسات تقوم الجهات المختصَّة بتمرير استمارات على الموظفين قَبل فترة كافية من بدء الإجازة الصَّيفيَّة لتحديد إجازات الموظفين والمسؤولين بما قَدْ يساعد على التقليل من هاجس خروج الموظفين في الإجازات الصَّيفيَّة وفراغ مواقعهم في دوائر وأقسام المؤسَّسة، وبعكس ذلك إذا كانت قواعد العمل غير واضحة، والأمور متَّجهة للاجتهاد، والرأي في الإجازات متروك لكُلِّ مَنْ أراد بِدُونِ تحديدٍ أو تقنين، وأقفلت نُظُم المتابعة والرصد والتقييم والتقويم دَوْرها، فإنَّ الأمْرَ لا شكَّ سيكُونُ له تبعاته المؤسَّسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفرديَّة والأمنيَّة وقد ينعكس سلبًا على الموثوقيَّة في برامج المؤسَّسة والثقة في أدوات العمل.
أخيرًا، فإنَّ تأصيل ثقافة التعامل الواعي مع الإجازات الصَّيفيَّة والاعتياديَّة للموظف، يفرض على مؤسَّسات الجهاز الإداري للدولة سلوكًا اجتماعيًّا ومهنيًّا يتَّسم بتحقيق التوازن بَيْنَ الحاجة لتلك الإجازة الصَّيفيَّة للموظف العامِّ بجميع مستوياتهم الإداريَّة والوظيفيَّة، وبَيْنَ تفعيل دَور وكفاءة الأداء الحكومي في إنجاز مهامه وتحقيق الأولويَّات الوطنيَّة والتي مِن بَيْنِها الحرص على إنجاز مصالح المواطنين وعدم تأخيرها والبتُّ فيها بصورة فوريَّة متى استدعى الأمْرُ ذلك، لضمان بقاء خيوط التواصل مع المُجتمع ممتدَّة، وكسْب الثقة مستمرًّا باعتبارها نقطة القوَّة لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات، وهو أمْرٌ يفرض اليوم تعزيز مسار الحوكمة في إدارة العمل المؤسَّسي، وتبنِّي موجِّهات أكثر نضجًا في توجيه سياسات المؤسَّسة وخططها وبرامجها نَحْوَ إدارة متطلبات الواقع المتغيِّر في المُجتمع الوظيفي، ويفرض تحوُّلات نوعيَّة تعمل على توظيف الذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات الحديثة ومنظومة الدوام المَرِن والعمل عن بُعد كخيارات بديلة في تحقيق هذا المسار، وتوجيه المعنيين بإدارات ودوائر وأقسام المؤسَّسات إلى نهج إداريَّة مؤسَّسيَّة معاصرة قادرة على وضع السلوك المؤسَّسي وسياسات العمل أمام تقييم ونقد وتحليل مستمر، وتصبح القراءات ووجهات النظر والملاحظات التي تُقدَّم حَوْلَ عمل المؤسَّسة جزءًا من قِيَمها ومبادئها التي تتنافس في ضوئها وتتطوَّر، ويصبح تأخير معاملة أو عدم سرعة البتِّ فيها لغياب الموظف أو تمتُّعه بإجازة اعتياديَّة أمْرًا غير مبرَّر وسلوك غير مقبول في ظلِّ مرحلة تتَّسم بسرعة التغيير وحاجتها لقَبول منطق السرعة التي لا تقبل التأخير، والدقَّة التي لا تعرف للخطأ وجودًا. إنَّ القدرة على إدارة هذا الملف والتعامل الواعي معه مع الأخذ في الاعتبار، مسألة الحقوق والواجبات وإدارة المشاعر، ورفع الروح المعنويَّة للموظف مدخلًا للمنافسة وفرصة لصناعة التغيير.
د.رجب بن علي العويسي