يطرح تناولنا لمنظومة الرقابة والمتابعة على الأداء الخدمي بالمحافظات جملة من التساؤلات من بَيْنَها: ما الدَّلالات التي تحملها معاناة الأهالي بالمحافظات حَوْلَ غياب بعض الخدمات أو ضعف كفاءة أدائها، أو التعامل معها من قِبل جهات الاختصاص؟ وأين تقف منظومة الرقابة والمتابعة على الأداء الخدمي بالمحافظات بالنظر إلى جملة الأساليب والأدوات والاستراتيجيَّات التي تستخدمها الجهات المعنيَّة في الرقابة والمتابعة على مشروعات البنية الأساسيَّة بالمحافظات، سواء من حيث استكمالها أو إصلاحها أو إعادة تطويرها بما يُحسِّن من كفاءة استخدامها؟ تساؤلات تبحث في ضمير المسؤوليَّة وعُمق الواجب الوطني، وموقع التكامل في الأداء بمنظومة العمل بالمحافظات.
ومع تفاؤلنا العالي وثقتنا بأنَّ قادم الوقت سوف ينبئ عن تغييرات إيجابيَّة في بوصلة الأداء بالمحافظات، رغم أنَّ واقع العمل الحالي لا يبرز صورة المستقبل الذي نريد، كما لا يعكس التطلُّعات الوطنيَّة المأمولة من تطبيق اللامركزيَّة، وتطلُّعات المواطنين حَوْلَ سَير تقديم الخدمات وآليَّة التعامل مع المواقف، ومستوى الاستجابة المقدَّمة من قِبل الجهات المعنيَّة بالمحافظات، ثم مستوى التكامل والانسجام الحاصل بَيْنَها بما يجسِّد الغايات الكبرى من إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة؛ إذ ما زالت هذه المعطيات تُنبئ عن ضمور في المسؤوليَّة، وتراكميَّة في الممارسة، وضعف في الابتكارية والتجديد؛ أو الجديَّة في إعادة إنتاج الواقع الجديد بما يتناغم مع معطيات المرحلة وأولويَّات رؤية عُمان 2040 فيما يتعلَّق بمحور المُدُن المستدامة وتطوير المحافظات أو بغيرها من المحاور التي باتت تؤسِّس لمرحلة جديدة في العمل الوطني القائمة على مبادئ الحوكمة والشفافيَّة والشراكة والرقابة والمسؤوليَّة، وهي موجِّهات بحاجة ـ كما أشرنا في مقالات سابقة ـ إلى نماذج وتطبيقات وشواهد عمليَّة تجسِّدها في الواقع، كما أنَّها بحاجة إلى وضوح في نُظم التقييم وآليَّات الرصد والتشخيص والتحليل والمراجعة وبرامج الأداء واستراتيجيَّاته، وهو أمر ما زال في تقديرنا الشَّخصي ـ في ظلِّ المعطيات الحاليَّة والتساؤلات التي يطرحها المواطن بصورة مباشرة أو عبر المنصَّات الاجتماعيَّة حَوْلَ دَوْر المحافظات وآليَّاتها في التعامل مع ملاحظات المواطنين وقضاياهم ـ لَمْ ينضج بشكلٍ كبير أو أنَّه بحاجة إلى مزيدٍ من الوقت والجهد وتجريب المواقف، ومزيدٍ من الحسِّ الوطني والعمل بروح الفريق، والتنازل عن بعض المنظورات الشخصيَّة كالأنانيَّة والفوقيَّة والسلطويَّة حتى يتحقَّق مسار اللامركزيَّة على الأرض.
لقد أشار مولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في لقاءاته بالمواطنين وشيوخ المحافظات، إلى أنَّ تجربة الإدارة المحليَّة للمحافظات جديدة على المواطن، ولذلك تبقى حاجة الكفاءات الإداريَّة لمزيدٍ من التعلُّم والتدريب وإكساب المهارات أحد هذه الموجِّهات التي ينبغي على الحكومة أن تتعاطى معها وفق برنامج وطني تدريبي وتأهيلي في الإدارة والتمكين والصلاحيَّات والمحاسبيَّة، وعَبْرَ تعريض القائمين على إدارة المحافظات لبرامج محاكاة واقعيَّة، لتمكينها من أداء مهامها والوقوف على اختصاصاتها، وبالتَّالي التغيير في الفكر الإداري الذي يدير المحافظات، والخروج به من عقدة المفاهيم والمصطلحات التقليديَّة والأفكار الأحاديَّة التي تُشكِّل عقبة كؤودًا أمام أيِّ إصلاحات قادمة أو توجُّهات للتطوير ومساعٍ للتحديث والتجديد، وإيجاد مرتكزات تضْمَن تكيُّفها مع متطلَّبات الشَّباب ورفع درجة الجاهزيَّة لدَيْه في تصحيح ممارسات الواقع وإعادة إنتاجها، وبما ينعكس إيجابًا على تجديد القناعات وتأصيل الفكر الخلَّاق والممارسة التأمليَّة، والتفكير الناقد، والبُعد عن التكراريَّة وفائض العمليَّات والاهتمام بالشكليَّات على حساب جوهر الأداء. وفي تقديرنا الشَّخصي ما زالت مسألة اللامركزيَّة تعيش إطارها النظري، ولَمْ تجسَّد بشكل عملي في واقع العمل، فالممارسة الحاصلة في مجالات الاستثمار وتخليص المعاملات والمشاريع الصغيرة والمتوسطة ومشاريع الشَّباب تبرز حالة من عدم التكامليَّة بَيْنَ المؤسَّسات في المحافظة الواحدة، ناهيكم عن أنَّ بعض التوجُّهات التي طرحت في الفترة الماضية ما زالت غير عاكسة لمفهوم المشروعات المنتج، والاستثمار الحقيقي، والاحتواء الاجتماعي، وتمكين الكفاءات وحفزها نَحْوَ المشاركة الجادَّة المبتكرة في بناء اقتصاد المحافظة.
لقد اتسعت الفجوة بشكلٍ أكبر، وعلى الرغم من التقدُّم التقني، ودخول منصَّات التواصل الاجتماعي في تشكيل الحدث التنموي، وقدرتها على تشخيص الحالة المُجتمعيَّة وتقديم صورة متكاملة حَوْلَ موضوع الحالة في أقصر وقت ممكنٍ، ناهيك عن وجود منصَّة إلكترونيَّة ومواقع وحسابات لكُلِّ المؤسَّسات والمحافظات والولايات ـ غير تفاعليَّة ـ إلَّا أنَّها لَمْ تستطع تشخيص المشكلة، إمَّا للافتقار إلى منظومة واضحة للمتابعة والرقابة على الإطار المشروعي الذي تُشرف عليه المحافظات، أو لتدنِّي مستوى التنسيق والتكامل الذي انعكس سلبًا على سرعة الاستجابة نَحْوَ القضايا العامَّة التي يطرحها المواطن والأهالي، سواء كانت حَوْلَ البنية الأساسيَّة وحاجتها للإصلاح أو الاستكمال؛ لتبدأ شرارة التغيير من منصَّات التواصل الاجتماعي بدلًا من داخل المؤسَّسات واحتوائها للموقف، لتبدأ الحركة والتنسيق والاهتمام، ليس الموضوع الذي طرحه قَبل أيَّام المواطن عبدالحكيم الصالحي والذي أطلق عليه اسم «حفر أثريَّة في ولاية السويق» هو الأوَّل والأخير، ولَمْ يكُنْ هو الطرح الوحيد له، والتفاعل المُجتمعي مع التغريدة جعل من وصولها للترند، محلَّ نظر من قِبل الجهات المختصَّة بمحافظة شمال الباطنة، لتبدأ عمليَّات إصلاح الحفر الأثريَّة بعد يوم واحد فقط من التغريد، بَيْنَما ظلَّت قائمة لسنوات طويلة رغم معرفة الجهات المختصَّة بها، فما المعنى والدلالات التي يفصح عنها هذا الأمْرُ؟ إنَّ منصَّات التواصل الاجتماعي شرارة تعجُّ بالكثير من القضايا التي يستدعي الالتفات لها من قِبل جهات الاختصاص ـ رغم أنَّها لا تكلِّف كثيرًا ـ كما أنَّ هناك العشرات من الموضوعات التي تطرح وتتداول عَبْرَ المنصَّات والوا تساب، في إشارة واضحة إلى وجود قصور في منظومة المتابعة والرقابة على الأداء الخدمي بالمحافظات، سواء في المشروعات المنفَّذة أو الإصلاحات في البنى الأساسيَّة.
ومع كُلِّ الفرص التي أتاحتها الحكومة للمحافظات، سواء في نظام المحافظات الصادر بالمرسوم السُّلطاني (36/2022) وقانون المجالس البلديَّة وتعديلاته الصادر بالمرسوم السُّلطاني (38/2022)، إلَّا أنَّ توظيف ذلك في تعزيز مسار الرقابة والمتابعة على الأداء الخدمي غير واضح؛ لأسباب كثيرة لا مجال للحديث عنها، الأمْرُ الذي يؤكِّد اليوم على أهمِّية إيجاد منظومة رقابة ومتابعة للأداء الخدمي للمحافظات وفق آليَّات عمل واضحة واستراتيجيَّات مبتكرة يقوم خلالها جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة بمتابعة عمل المحافظات ذات الصِّلة بالمشروعات، بحيث يقف الجهاز وعَبْرَ مؤسَّساته بالمحافظات بشكلٍ دقيق على مختلف تفاصيل المشروعات الإنمائيَّة والخدميَّة والإنتاجيَّة والتطويريَّة والإصلاحيَّة بالمحافظات، مع منح المحافظات الصلاحيَّات الكافية لمتابعة والرقابة على المشروعات الداخليَّة المنفَّذة بها جنبًا إلى جنب مع جهود الجهاز، وأقترح أن تتمَّ عمليَّات الرقابة والمتابعة من زاويتين. فمثلًا عندما يكون المعني بتنفيذ المشروع «المحافظة»، يُشكَّل فريق عمل متخصص بالمحافظة من القانونيين والمهندسين والاستشاريين في الموضوعات ذات الصِّلة بالمشروعات المنفَّذة، ووفق آليَّة واضحة بالمتابعة والرقابة على تنفيذ المشروع بكُلِّ تفاصيله، لِيكُونَ من ضِمْن محدِّدات الاتفاقيَّة مع المُنفِّذ أو المُطوِّر للمشروع الحقُّ القانوني للمحافظة في الرقابة والمتابعة واتِّخاذ القرار المناسب في حالة عدم وفاء المُنفِّذ للمشروع بالمواصفات والالتزامات ودُونَ الرجوع إلى الاستشاري المختصِّ في حالة تنصُّله من المسؤوليَّة، مع اطلاع الجهاز بكُلِّ تفاصيل العمل ومراحل التنفيذ؛ وعندما يكُونُ المشروع من الجهة المركزيَّة يؤسّس لنظام متكامل في المتابعة لتشمل المحافظة والجهة المختصَّة بالإضافة إلى الجهاز، في ظلِّ مرتكزات واضحة، وأُطر تفصيليَّة دقيقة تستهدف تحقيق السرعة والدقَّة والجودة والكفاءة والنوعيَّة في المشروع المستهدف، وسياسات التشغيل والجوانب الإنتاجيَّة ذات الصِّلة والقِيمة المضافة المتحقِّقة للمواطنين والأهالي في هذا الشأن.
إنَّ ما يرصده الواقع من تجاوزات في بعض المشروعات الإنمائيَّة والتي تتعدَّى جانب التأخير فيها إلى خلَلٍ في عمليَّة التصميم وعمليَّة الإنشاء والأدوات المستخدمة، يستدعي التفكير الجدِّي في إطار عمل وطني يضع المتابعة والرقابة على المحافظات في أولويَّة منظومة عمل جهاز الرقابة الإداريَّة والماليَّة للدولة، وفي المقابل مراجعة تقييميَّة موضوعيَّة يقوم بها الجهاز لعمل مؤسَّسات الرقابة والتقييم والمتابعة الحاليَّة بالمؤسَّسات المدنيَّة السياديَّة، وتعزيز سُلطة القرار الممنوح لها بحيث تعمل وفق منهجيَّة رقابيَّة واضحة لها نافذيَّة القرار، وصرامة تطبيقه في مختلف قطاعات التنمية، وتتدخل في أدقِّ تفاصيل الممارسة المؤسسيَّة، بما تمتلكه من قوَّة القرار وسيناريوهات عمل بديلة في التعامل مع أيِّ خلَلٍ في إنجاز المشروعات أو التأخير فيها ومواصلة تنفيذها بكُلِّ مهنيَّة، تُصحح مسارها وترسم موجِّهات عملها مستفيدةً من المبادرات المؤسسيَّة كمنطلق لتعرف الآليَّة السليمة في المتابعة ومراعية للخصوصيَّة الأدائيَّة لكُلِّ القطاعات بما يضعها في مستوى المسؤوليَّة والطموح في التحوُّل بمنظومة الرقابة والمتابعة والتقييم كحلقة أقوى في مشروعات التنمية القادمة.
ويبقى ما بات يطرح على لسان المواطن وصوته وتغريداته وملاحظاته المتكررة حَوْلَ مشاريع الطُّرق الداخليَّة والمناطق الصناعيَّة أو مرادم البلديَّة أو النظافة العامَّة أو السدود أو الطُّرق المتضرِّرة من الأمطار أو المتنزهات أو المطبَّات وكاسرات السرعة التي باتت تُشكِّل عائقًا كبيرًا للحركة السياحيَّة وانسيابيَّة التنقل وغيرها كثير، وفي ظلِّ المشاهد المتكررة للقصور الحاصل في سرعة التعامل مع المواقف والأحداث والقضايا العامَّة بالمحافظات؛ إيذانًا بأهمِّية وضع الرقابة والمتابعة في أولويَّة عمل المحافظة وأدوات تقييم المحافظات، وأن يكُونَ رأي المواطن ووجهات نظره وتشخيصه للواقع، ومستوى الاستجابة الفوريَّة من المحافظات، أحد المعايير التي يُمكِن من خلالها تقييم كفاءة المحافظات وقدرتها على تحقيق المنافسة واستحقاقات التحفيز، وبالتَّالي ضبط المسار وتوجيه بوصلته وتوفير الأدوات والآليَّات المقنّنة والتشريعات التي تضع المحافظات أمام مسؤوليَّة الالتزام بسياسات المتابعة والرقابة على الأداء الداخلي لها من خلال المشروعات المُنفَّذة بها، وأن تكُونَ متابعات المحافظات لمشاريعها التنمويَّة أو المشروعات المركزيَّة خيوط عمل متَّصلة وجسورًا ممتدَّة الحلقات، متناغمة الأدوات، متكاملة الأُطر، للخروج من روتين الزيارات الارتجاليَّة والمتابعات الشكليَّة للمشروعات التي تفتقر للقراءة المعمَّقة والتحليل الدَّقيق والاستشعار بوجود تأخير في المشروع أو تجاوزات قانونيَّة وماليَّة وفنيَّة وبيئيَّة، إذ لا قِيمة لها إن لَمْ ترتبط بقرار منتِج جريء يصنع الفارق ويُحقِّق الكفاءة.
د.رجب بن علي العويسي