لا أُنكر أنني وحتى وقت قريب كنت واحدة من المنبهرين بالحضارة الغربية، والتطور المتلاحق لمظاهر الحياة هناك، وكُنت أحيانًا كثيرة أرغب في أن تكون وجهتي في إحدى عطلاتي بين أحضان هذا العالم الذي كان بالنسبة لنا مبعث انبهار أخَّاذ، لكنني اليوم لا أخفيكم سرًّا أن هذه الانبهار بدأ بالتلاشي بل يكاد يكون وصل حدَّ العدم، خصوصًا بعد هذا التحول الرهيب والعجيب والمتسارع في وقت واحد، في بوصلة القيم والثوابت والمبادئ بصورة شرسة، والجهر بذلك على الملأ، بل وبدعوات صريحة ومباشرة على مرأى ومسمع من العالم أجمع. تلقائيًّا وكمثلي كل أبناء وبنات هذا الوطن العربي الإسلامي، الشامخ بأركانه وقيمه وعاداته، والراسخة جذوره في تربة الأصالة والمعاصرة المنضبطة بحدود الأعراف والدين والمبادئ الإنسانية المتفق عليها بين الجميع، بدأت الصورة لديَّ عن هذا الغرب الجديد تتغير، والنظرة تتبدَّل.
إنَّ المبالغة في الحرية الشخصية المطلقَة شيء ينافي الدين والأدب والعقل والأخلاق، وبنظرة سريعة على صفحات التاريخ قديمه وحديثه، ستروي لنا قصص الأولين حقيقة ثابتة مفادها أنَّ ارتقاء الأمم والشعوب والحضارات لم يكن سوى بالاعتزاز بالقيم وإعلاء المبادئ والأخلاق السامية، وما دون ذلك فلا حضارة تُرجى ولا نهضة نراها بين الناس قائمة، وإنما مصيرها الحتمي إلى أفول تام والانزلاق إلى هاوية النسيان كتجربة مثيرة للاشمئزاز.
وبلا أدنى شك، فما تشهده الحضارة الأوروبية اليوم من أفول جرَّاء تخلِّيها عن القيم والمبادئ التي آمن بها مَن صنعوها مِنْ قبل، وما تُطالعنا به هذه البلاد بين فينة وأخرى عن أفكار شاذة مقززة مقيتة، ما هو إلا مثال واضح على انهيار أخلاقي وقيمي لن يُبقي باقية لهذه الحضارات، وأستحضر هنا تشبيهًا للخبير والمحلل السياسي الأمريكي بنيامين فريدمان، الذي وصف ذات مرة المجتمع الغربي بـ”الدراجة الثابتة” التي يُسيِّر عجلاتها النمو الاقتصادي، فإذا ما تباطأت هذه الحركة الدافعة إلى الأمام أو توقفت، اهتزَّت ركائز المجتمع؛ أخلاقيًّا وديمقراطيًّا حتى الحريات الفردية والتسامح وقبول الآخر، فيتنازع الناس على الموارد المحدودة ويرفضون كل من لا ينتمي إلى جماعتهم، وهو ما صدَّقت عليه الأيام الحالية، وما نراه اليوم من هشاشة قيمية وانفلات أخلاقي؛ إنما أساسه أمران لا ثالث لهما:
- الاعتقاد بالحريات المُطلقة، والذي يتنافى مع كل الأديان والأعراف والمبادئ الإنسانية فضلاً عن الدينية.
- الرأسمالية المتوحشة التي فرَّغت كل شيء من مضمونه، حتى القيم والعادات، وكحقيقة واقعة فإنَّ ما يحدث في العالم اليوم من متغيرات ومجريات وأحداث عنف وقتل وتخريب وشذوذ ووقاحة ما هو إلا نتيجة منطقية لهذا الواقع اللعين.
ويبقى أن أقول ختامًا.. إنه لطالما انهارت مُجتمعات على مرِّ التاريخ، ولم تخلُ حضارة، وإن بدت في ظاهرها قوية، من مواطن ضعف كادت أن تدفع بالمجتمع إلى الهاوية، وهذه سنة كونية “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، ولكنْ وكما يقول الشاعر الخالد أحمد شوقي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت..
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه..
فقوم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم في أخلاقهم..
فأقم عليهم مأتما وعويلا
وفي ظل شريعة الغاب التي تتمدَّد هناك في الغرب، صدِّقوني لن يكون هناك مكان لحضارة.. وهي دعوة لابد أن تجد آذانًا صاغية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فلنحافظ على مجتمعاتنا أرجوكم، اقتلوا في أنفسكم وعقول أطفالكم الانبهار بهذه الثقافات الدخيلة، لنرتقي ونبقى في مواجهة طوفان من التغييرات القيمية، حتى لا نتخلى عما تبقى من إنسانيتنا.
مدرين المكتومية