أعلنت وزارة العمل الموقَّرة في الأيَّام القليلة الماضية عن مؤشِّرات التوظيف والإحلال في القِطاعَيْنِ الحكومي والخاصِّ للرُّبع الثاني من عام 2023 حيث بلغ الإجمالي العامُّ لها (18.716) بنسبة (53%)، توزَّعت على 9,169 بنسبة (92%) في القِطاع الحكومي، وفي القِطاع الخاصِّ 7,399 بنسبة إنجاز بلغت (46%)، وأنَّ خطط الإحلال في القِطاعَيْنِ الحكومي والخاصِّ حتى نهاية يونيو 2023 أسهمت في توظيف 18,716 باحثا عن عمل عَبْرَ فرص التوظيف والإحلال، وتوظيف 2148 باحثًا عن عمل عَبْرَ فرص التدريب والتأهيل والتدريب المقرون بالتشغيل؛ كما تمَّ إلحاق 941 متدربًا في مبادرة العمل الحُر عَبْرَ منصَّات تدريبيَّة محليَّة وعالميَّة لضمان حصولهم على مهارات وخبرات عمليَّة، حيث تستهدف وزارة العمل هذا العام توفير 35 ألف فرصة وظيفيَّة عن طريق التوظيف المباشر والإحلال، مِنْها 10 آلاف وظيفة في القِطاع العامِّ، و14 ألف وظيفة في القِطاع الخاصِّ، مِنهم 8% في مهن المديرين والاختصاصيين والفنيين، و2000 فرصة في المِهن لمستوى دبلوم التعليم العامِّ. وقَدْ تبنَّت ـ في سبيل تحقيق ذلك ـ جملة من البرامج والمبادرات منبثقة من البرنامج الوطني للتشغيل ومن ذلك برنامج التوظيف والإحلال، والتوظيف والتأهيل والتدريب المقرون بالتشغيل، وتوطين الوظائف، ومبادرة العمل الحُر، وبرنامج «ساهم» وغيرها كثير.
ومع التقدير لهذه الجهود والقناعة بأهمِّيتها في بناء جسور الثقة والتواصل مع المواطن والباحثين عن عمل، إلَّا أنَّها تؤكِّد الحاجة إلى رؤية وطنيَّة متكاملة تتشارك في رسم معالمها وتحديد أُطرها ووضع خيوط ترابطها، وتوجيه أدواتها واختبار برامجها كُلّ قِطاعات الدولة ومؤسَّساتها في خروج عن المعتاد المتكرر في هذا الملف أو العمل الفردي الذي يؤدِّي إلى إقصاء الكثير من الفرص أو عدم الوضع في الحسبان نتائج تطبيق بعض المبادرات والأفكار والتسرع في تغييرها دُونَ تقييم نتائجها أو التي سبقتها للبناء عليها، وفي الوقت نفسه فإنَّ الوصول إلى مسار عمل واضح يُقدِّم بدائل وحلولًا عمليَّة ويُعزِّز من توفير خيارات أكثر مهنيَّة تظهر في انخفاض تدريجي لأعداد الباحثين عن عمل رغم التوقُّعات باستمرار تدفُّق المخرجات الوطنيَّة من داخل سلطنة عُمان أو خارجها لسوق العمل العُماني، أو ما يُمكِن أن تضيفَه عمليَّات التسريح المُمنهَجة التي باتت تطول المواطن في القِطاع الخاصِّ من تعقيد وبطء في تنفيذ مبادرات التوظيف والتشغيل، وبالتَّالي الحاجة إلى مزيدٍ من الشفافيَّة والوضوح وثبات الإجراءات وكفاءة الأدوات، وتعزيز مسار الرقابة والمتابعة على الشركات، وخلق حوار وطني تفاعلي يستطيع أن يصنعَ لهذه الجهود قِيمة على أرض الواقع، بالشكل الذي يضْمَن تحقيق العدالة واحتواء الكفاءة وإدارة هذا الملف في إطار احترافي ذكي يصنع الفرص ويُعزِّز الإنتاجيَّة، ويحفظ حق المواطن العُماني ممَّن هو في سنِّ العمل في الحصول على مهنة حياة يعيل فيها نفسه وأُسرته، ويصنع من خلالها خيوط مستقبله.
ورغم ما تشير إليه التصريحات الإعلاميَّة لمعالي وزير العمل والمسؤولين في وزارة العمل حَوْلَ ما تبذله الوزارة من جهود، إلَّا أنَّ حجم هذا الملف وثقله وملامسته لحياة المواطن والحساسيَّة التي يحملها يستدعي نتاجًا له على الأرض، في ظلِّ تراجع أعداد الباحثين عن عمل، غير أنَّ واقع الأمْرِ غير ذلك، حيث صرح وزير العمل في بيانه بمجلس الشوى في فبراير 2023 بأنَّ أعداد الباحثين عن عمل في سلطنة عُمان في تزايد مستمر حيث وصل إلى 85.444 وبعد أقلَّ من شهرين وفي المؤتمر الصحفي الذي نفَّذته الوزارة في أبريل من عام 2023 جاء حديث معاليه على أنَّ عدد الباحثين عن عمل بنهاية الرُّبع الأوَّل من عام 2023 بلغ قرابة 110 آلاف مواطن مواطنة، هذه الزيادة الكبيرة في أعداد الباحثين عن عمل بدأت تثير العديد من التساؤلات والهواجس حَوْلَ كفاءة بيانات الباحثين عن عمل ومستوى التحديث لها، بما يضع هذا الملف أمام حالة من الغموض وعدم الوضوح، تؤكِّد الحاجة إلى معالجات أخرى ومراجعات أكثر اتزانًا ومهنيَّة واحتواء للكفاءة العُمانيَّة، بل يؤكِّد أنَّ ملف الباحثين عن عمل وملف المُسرَّحين العُمانيين من القِطاع الخاص يجِبُ أن يعادَ هيكلته حتى خارج وزارة العمل، وكنتُ قَدِ اقترحت بأهمِّية وجود لجنة عليا للتشغيل والتوظيف تضع قواعد العمل وترسم الأدوات وتُحدِّد الآليَّات وتُعيدُ إنتاج واقع التوظيف والتشغيل من جديد، نظرًا لِمَا باتت تتحمله وزارة العمل في ظلِّ تشعُّب اختصاصاتها الحاليَّة.
وعلى سبيل المثال، مسألة العقود المؤقَّتة أدَّت إلى المعالجة الوقتيَّة للباحثين عن عمل ولكنَّها غير مستدامة، إذ بعد انتهاء مدَّة العقد سوف تُعيد هذه الفئة إلى ملف الباحثين عن عمل وترفع من سقف المُسرَّحين. فبعد أن كان المتَّهم الأوَّل بالتسريح هو القِطاع الخاصَّ واللوم والعتب وعدم الرضا الذي يُبديه المواطن نَحْوَ القِطاع الخاصِّ بات يتَّجه إلى القِطاع الحكومي أيضًا، وبلا شك فإنَّ إدخال القِطاع الحكومي في مسألة المتسبِّب في التسريح سابقة خطيرة لها انعكاساتها السلبيَّة وتداعياتها الأمنيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والوطنيَّة. وفي سياق التسريح الممنهج للعُمانيين من القِطاع الخاصِّ يجِبُ أن تمتلكَ الوزارة رؤية واضحة وعادلة لحلول جذريَّة مستدامة، لا أن يبقى دَوْرها في إطار إعطاء المُبرِّرات للشركات بأسباب التسريح، ثغرة تتَّخذها هذه الشركات لتنفيذ أجندتها الخاصَّة والحصول على الامتيازات والإعفاءات من الضرائب والرسوم والمترتبات عليها من فواتير الكهرباء والمياه، والاستفادة من قانون الإفلاس، وبالتَّالي التداعيات القادمة لهذه العقود إن لَمْ تتَّخذ وزارة العمل الموقَّرة مسارًا لاحتواء هذه المدخلات، خصوصًا أنَّها أظهرت وجود فائض بها في المؤسَّسات الحكوميَّة، وكيفيَّة توزيعها بعد ذلك بات يُشكِّل تحدِّيًا حقيقيًّا أمام المؤسَّسات وتساؤلات في كيفيَّة التعامل معها.
وتطرح مبادرة «ساهم» والخطوط الأخرى غير المفهومة لها، فرغم الإيمان في أنَّها جاءت لتستوعبَ الباحثين عن عمل بإدخالهم في برامج تدريبيَّة أو أعمال مهنيَّة قَدْ تُتيح لبعضهم الاستمرار فيها، إلَّا أنَّ التساؤل الذي ظلَّ يطرح نَفْسَه أمام الباحث عن عمل ماذا بعد الالتحاق بهذه المبادرة؟ هل كموظف أو تدريب مقرون بالتشغيل أو ما زال باحثًا عن عمل؟ وهل سينتمي الملتحق والمستفيد من هذه المبادرة أو البرنامج، إلى الباحثين عن عمل، أم سيخرج من مظلَّة الباحثين فتوفِّر لهم مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ الفرص الوظيفيَّة المناسبة وفق مؤهلاتهم الوظيفيَّة وتخصُّصاتهم؟
كما يطرح برنامج «توطين الوظائف» والذي جاء بهدف استيعاب أكبر للكفاءة العُمانيَّة في القِطاع الخاصِّ، بالشَّكل الذي يؤدِّي إلى مزيدٍ من الأمان الوظيفي للموظف العُماني، حيث أعلنت وزارة العمل عن قائمة من الأنشطة المحظورة على الاستثمار الأجنبي مزاولتها والتي تجاوزت 207 أنشطة، حيث ترتكز فلسفة التوطين على إحلال القوى العاملة الوطنيَّة محلَّ الأيدي الوافدة، وتوفير مساحة أكبر من الأنشطة الاقتصاديَّة المنتجِة التي يحظر على الأيدي الوافدة مزاولتها، ومزاولة الاستثمار الأجنبي فيها بما يُتيح للمواطن فرص شغلها، ومنع احتكار الوافدين عليها، الأمْرُ الذي من شأنه أن يُسهمَ في توطين هذه المهن وتعمينها والحدِّ من عمليَّات الاحتكار والمنافسة عليها من قِبل الأيدي الوافدة. ومع أهمِّية هذا التوجُّه إلَّا أنَّ واقع العمل ما زال يشير إلى عودة كبيرة للوافدين إلى أرض سلطنة عُمان، وإلى عدم إنهاء الشركات ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ لعقود الوافدين، بل تمَّ تعيينهم في وظائف وأعمال أخرى بمُسمَّيات وظيفيَّة من غير ما جاء في بيان وزارة العمل.
بالإضافة إلى ذلك أن تضعَ الوزارة الاعتبار للباحثين عن عمل الذين فاتهم قطار العمل ممَّن وصلت مدَّة تخرُّجهم إلى عشر سنوات وأكثر أو التكدُّس في مخرجات تخصُّص تقنيَّة المعلومات والعمل الاجتماعي والتربية الخاصَّة وغيرهم ممَّن يطالبون عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة بالتوظيف المباشر والأولويَّة في التوظيف، وفق آليَّة تُحقِّق العدالة وتضْمَن حصولهم على الوظيفة بعد سنوات الانتظار والوعود بتحقيق رغباتهم، لِتشكِّلَ تحدِّيًا ضاعف أعداد الباحثين عن عمل؛ لكَوْنِهم لَمْ تُتَّخذ حيالهم إجراءات واضحة بإدماجهم في سُوق العمل، لِتظلَّ المسألة تَدُورُ في حلقة مفرغة من أين نبدأ بالضبط؟ ومَن هم أصحاب الأولويَّة؟ وهل يُمكِن أن نُعِيدَ تقييم مسار التوظيف والإعلان عن الوظائف باتِّخاذ إجراء يعطي هذه الفئة الحقَّ في القَبول بالتوظيف لها؟
إنَّ ما سبق طرحه يؤكِّد أمْرَيْنِ أساسيَّيْنِ: أوَّلهما، أهمِّية حضور مسار المتابعة الإجرائيَّة والرقابة النافذة في تنفيذ هذه المبادرات، والوقوف على تنفيذ الضوابط والأدوات وتقنينها بالشَّكل الذي يقلِّل من الفاقد والهدر، ويضع حدًّا للتجاوزات والاجتهادات الفرديَّة من الشركات في هذا الجانب، خصوصًا في طريقة التعامل مع موضوع الأُجور والتوطين والإحلال والتسريح. ونعتقد بأنَّ المُشْكِلة تكمن في تدنِّي مستوى الرقابة والمتابعة لهذه البرامج وعدم وجود مسار مُحدَّد لآليَّة التعامل مع الانحرافات أو التجاوزات الصادرة، أو متابعة تطبيق الضوابط والعقوبات في حالة وجودها بشكل عادل وبمصداقيَّة ضدَّ الشركات المتنفِّذة والمؤسَّسات الكبيرة التي تخلُّ بشروط التوطين والإحلال. وثانيهما: سدُّ الثغرة الناتجة عن وجود هذا العدد المتزايد من الباحثين عن عمل، بما يُلقي على الوزارة ـ في إطار اختصاصاتها ـ مسؤوليَّة المشاركة بفاعليَّة في جهود إعادة تقييم ومراجعة التخصُّصات الأكاديميَّة في مؤسَّسات التعليم العالي وتطبيق التعليم المهني والتقني في التعليم المدرسي، بحيث لا تضيع جهود الوزارة في البحث عن حلول للأعداد الكبيرة من الباحثين عن عمل والمُسرَّحين مع ابتعادها وتجاهلها عَيْن المُشْكِلة القائمة على تراكميَّة التخصُّصات وازدواجيَّتها وعدم مواءمتها لسُوق العمل، بالإضافة إلى رصد مراحل تطوُّر سُوق العمل الوطني، والاحتياجات الوطنيَّة من التخصُّصات آخذة في الاعتبار التخصُّصات ذات القِيمة المضافة التي تُشكِّل الوجْه الأبرز في ظلِّ الثورة الصناعيَّة الرابعة وإنتاج تخصُّصات أكثر تحقيقًا لبناء رؤية «عُمان 2040».
أخيرًا، فإنَّ الحديث اليوم عن جهود مقنعة ونتائج مثمرة وعمل مخلص دؤوب، بات يثير لدى المواطن التكهُّنات والتفسيرات غير الدقيقة أحيانًا، حَوْلَ المنطلق الذي يتمُّ العمل من خلاله في التعامل مع هذا الملف، والحاجة إلى تبسيط الأدوات والإجراءات والتقليل من هذه البرامج التي باتت تضع الباحث عن عمل في حيرة من أمْرِه إلى أيّها ينتمي بالتحديد؟ وما الفرق بَيْنَ هذه البرامج؟ ومَن المستهدف مِنْها؟ وهل المراد مِنْها إخراج الباحث عن عمل من مظلَّة الباحثين عن عمل أم إبقاؤه تحت هذه المظلَّة بأساليب أخرى؟ للقناعة بأنَّ الحديث عن الباحثين عن عمل لا يجِبُ أن يكُونَ عَبْرَ التصريحات والرصد الإعلامي، بل عَبْرَ مراكز قياس وطنيَّة متخصِّصة، تقرأ هذه الجهود وجوانب التنفيذ ومعايير التحقق ومؤشِّراتها، وأدوات العمل، والفئات التي استهدفتها وأعدادها في تفاصيل دقيقة معزّزة بالسيناريوهات البديلة، والخيارات الواقعيَّة المتزنة، التي تأخذ بِيَدِ المواطن وتنقله من مرحلة الانتظار ومتابعة التصريحات إلى المشاركة في صناعة التوجُّه، وهندسة عمليَّات التوظيف والتشغيل، حتى يشعرَ بالثقة والمصداقيَّة فيما تتحدَّث عَنْه الأرقام، ولَنَا في ما أشرنا إليه خير شاهد.
د.رجب بن علي العويسي