إن السنن الإلهية واحدة لا تتغير بتغير الزمان والمكان, فهي ثابتة على مستوى الكون كله, وكل شيء في هذا الكون يجري وفق هذه السنن, وليس في مقدور أحد تعطيل هذه السنن, والسبيل الأمثل إلى معرفتها هو الوحي المتمثل في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, هذه السنن هي التي تحكم حياة الناس وقيام الدول وزوالها وفلاح الناس وخسرانهم, والتاريخ يصدق هذه السنن التي جاءت في النصوص الشرعية, والسنن الإلهية لا تجامل أحدا على حساب أحد, تُطَبق على كل من يستحقها حتى ولو كان شريفا قرشيا, ومعرفتها أمر ضروري إذ إنها تجعل المسلم قادرا على تفسير الأحداث تفسيرا شرعيا سليما, كما أن العلم بها هو الذي وضع المجتمع الإسلامي في مكان الصدارة يوم أن كان العلم بأوسع معانيه هو القائد لهذا المجتمع, وبدون معرفة هذه السنن يتحول المسلم من وسيلة فاعلة إلى كائن عاجز لا يحسن استثمار الوسائل التي بين يديه في تحصيل أحسن النتائج, لأنه فقد حسن التعامل مع هذه السنن.
معاداة الكافرين والضالين للأصفياء من الأنبياء والمرسلين.
إن أعداء الحق في كل زمان ومكان قد وطنوا أنفسهم على معاداة الرسل والأنبياء حسدا وعنادا, علوا واستكبارا, لأنهم رأوا في طاعتهم إزالة لعروشهم وهدما لطواغيتهم, ومن أبرز الأمثلة التي تؤكد هذه السنة الإلهية قول ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم (لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.),فطريق الأنبياء والمرسلين ليس مزروعا بالورود والرياحين, بل هو محفوف بالمحن والابتلاءات والأذى والدماء, ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: يا مخنث العزم أين أنت والطريق طريق تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمي في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين ,ونشر بالمنشار زكريا, وذبح السيد الحصور يحيي, وقاس الضرب أيوب, وزاد على المقدار بكاء داود, وسار مع الوحش عيسى, وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد, تزها أنت باللعب واللهو, إن الأنبياء قد جاؤوا ليقلبوا أوضاع أقوامهم المنكوسة رأسا على عقب, لا لينخرطوا فيها ويُرَقعوها بدعاوى الإصلاح, فإن داء الشرك لا ينفع معه إلا الاستئصال من الجذور, ولو أن دعوة الأنبياء كانت دعوة إصلاحية لبعض المشكلات لما نالهم أذى ولبقوا في ديارهم وأوطانهم آمنين مطمئنين, لكن المصلحين وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلين حرصوا على منع الضلال ومحاربة الانحراف دون كلل أو ملل, لأن القلب العامر بنور الإيمان يكتسب قوة وثباتا يستعلي بها على زخرف الدنيا وبطش الجبابرة, إن عظمة المصلح تتجلى في ثباته ورباطة جأشه وقدرته على مواجهة الناس, وإن الصدع بالحق والثبات عليه والصبر على الأذى منزلة رفيعة لا يصل إليها إلا المصلحون الأفذاذ, ويستنبط من كلام ورقة بن نوفل أن معاداة أهل الحق السائرين على منهاج الأنبياء باقية مستمرة ما دامت السماوات والأرض, لكن هذه المعاداة ستذهب أدراج الرياح, تحقيقا لقول الله تعالي:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)(سورة الأنبياء:18), ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون والمشركون.
الابتلاء قبل التمكين.
الابتلاء سنة كونية تجري على المؤمنين والكافرين, ويكون تارة بالخير, وتارة بالشر, والهدف من الابتلاء تمييز الطيب من الخبيث, وقد بينت لنا السنة النبوية أن السابقين صبروا أجمل الصبر وأعلاه في سبيل إعلاء كلمة الله, فعن خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ, فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا, أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ:( قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا, فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ, فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ, وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ, فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ, وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ, وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ.), وهذه السنة ماضية على دعاة الحق بعد جيل الصحابة إلى يومنا هذا, يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: ماذا عسى يفعل محمد صلى الله عليه وسلم لأولئك البائسين؟ إنه لا يستطيع أن يبسط حمايته على أحد منهم, لأنه لا يملك من القوة ما يدفع به عن نفسه, وقد كان في صلاته يُرمي عليه وهو ساجد بكرش الجزور أو رحم الشاة المذبوحة, وكانت الأنجاس تلقي أمام بيته, فلا يملك إلا الصبر, إن محمدا صلوات الله وسلامه عليه لم يجمع أصحابه على مغنم عاجل أو آجل, إنه أزاح الغشاوة عن الأعين فأبصرت الحق الذي حُجِبت عنه دهرا, ومسح الران عن القلوب, فعرفت اليقين الذي فُطرت عليه, وحرمتها الجاهلية منه, إنه وصل البشر بربهم, فربطهم بنسبهم العريق وسببهم الوثيق, وكانوا قبلا حيارى محسورين, إنه وازن للناس بين الخلود والفناء, فآثروا الدار الآخرة على الدار الزائلة, وخيَّرهم بين أصنام حقيرة, فازدروا الأوثان المنحوتة, وتوجهوا للذي فطر السماوات والأرض, إن المحن والمصائب التي تصيب الأمة الإسلامية لهي حلقة في سلسلة التمحيص, فلا يجوز أن تكون هذه الأحداث سبيلا إلى اليأس والقنوط وإن تداعت علينا الأمم كما تداعت الأكلة على قصعتها, بل إنه بقدر ما فيها من شدة وضيق فإن في طيَّاتها خيرا كثيرا, وفي ثناياها لله حكمة وتدبيرا, وقد بين لنا النبي صلى الله عليه السلام من خلال هذا الحديث أن المستقبل لهذا الدين, وأن العاقبة للمسلمين, وهذا لا يعني القعود والاتكال, أو غض الطرف عن الخلل والنقص والتقصير الذي لا زال موجودا في الأمة الإسلامية, فما نزل بلاء إلا بذنب, ولا رُفع إلا بتوبة, والتغيير لا يأتي إلا من الداخل ومن إصلاح الذات, وسنة الله لا تتخلف.
إزالة المنكر فريضة إلهية .
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الرسالات السماوية, ولا شك أن صلاح العباد في المعاش والمعاد متوقف على طاعة الله عز وجل وطاعة رسله, وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولهذا يقول المصطفي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ رَأَى مِنكُم مُنكَراً فَليُغيَرُه بيدِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِع فبِلسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ، وذلك أضْعَفُ الإيمانِ.), وقد بين لنا الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم جزاء بني إسرائيل المتقاعسين عن إنكار المنكر قائلا: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(المائدة:78-79), فإذا ترك المنكر دون نهي استشرى الفساد في الأرض, وشاعت المعصية والفجور, وكثر أهل الفساد, وتسلطوا على الأخيار, فتُطمس معالم الفضيلة, وتَعم الرذيلة, وساعتها يستحق الجميع غضب الله عز وجل وانتقامه, يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله متحدثا عن أهمية الأمر بالمعروف وإنكار المنكر: ( هو القطب الأعظم في الدين, وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين, ولو طوي بساطه, وأهمل علمه وعمله, لتعطلت النبوة, واضمحلت الديانة, وعمت الفترة, وفشت الضلالة, وشاعت الجهالة, واستشرى الفساد, واتسع الخرق, وخربت البلاد, وهلك العباد, ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد.), إن معرفة هذه السنن الإلهية والوقوف على حقيقتها سبب من أسباب النصر والتمكين, تجعل المسلم واثقا في وعد الله عز وجل بنصر المؤمنين الصادقين وإهلاك الكافرين المعاندين, لأن عنده رسوخا في إيمانه بأن النصر لهذا الدين, وما حلت الهزيمة محل النصر, والضعف محل القوة, والذل محل العزة إلا بسبب الإعراض عن معرفة سنن الله عز وجل وما فيها من الهدي والنور, فاللهم جنبنا الزلل ومنكر القول والعمل, واجمعنا مع سيد الأولين والآخرين في جنات النعيم, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الأستاذ المشارك الدكتور / محمد إبراهيم محمد الحلواني/ الأستاذ في قسم الحديث وعلومه في كلية العلوم الإسلامية جامعة المدينة العالمية بماليزيا