كانت زيارتي الأخيرة إلى العراق خاطفة وسريعة، على قصرها إلا أنها حفرت في الذاكرة وستبقى في الوجدان ما حييت، فمن جهة التقيت بالأهل والأصحاب، ومن جهةٍ أخرى كان لي عظيم الشرف أن زدت رصيدي من الأهل أشخاصاً جدد، وزادت معرفتي بالتعرف عليهم عن قرب.
ففي مدينة البصرة الجميلة لطالما كان لي ذكريات جميلة، أشتم رائحة الإسلام والتاريخ منها ومن أزقتها ومساجدها وشعبها الطيب الجميل، لأعود كما كل مرة محمّلاً بالكثير من الحب من الشعب الأصيل الوفي لتاريخه وأهله وحضارته الناشر للخير والداعي له.
هذه المرة ليست كسابقاتها رغم أنني أتواصل مع الأهل والأصدقاء منذ زمن بعيد، وخاصة أبناء العلامة الشيخ عبد الإله عبد المنعم الهيتي، الذي استمعت إلى عشرات الدروس له، إلى جانب قراءتي لأغلب مؤلفاته، ومن يقرأ له ويحضر دروسه حكماً لا بد له أن يتأثر بهذا النهج الدعوي وهذه الثقافة الدينية الرحبة والجميلة، لكن ما حدث معي شخصياً حينما كنا في صلاة الجمعة في مسجد البصرة الكبير (مسجد الشهيد يوسف الحسان رحمه الله)، خاصة وأنه من أهم علماء العراق الكبار الذي قارع الشيوعية والشعبوية في حقبة الخمسينات والستينيات من القرن العشرين، وبمعتقده الروحاني السمح عملاً بتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حيث يمتلك ثقافة موسوعية قل نظيرها، يستخدمها ضد المستعمرين والمخربين، ويتمتع رغم تقدمه في السن بذاكرة صلبة وقوة ذهنية متقدة أدامها الله عليه.
وتبادلنا الحديث أيضاً حول الحقبة السابقة بما لها وما عليها، وأثمن جداً هديته الغالية وهي سلسة مشجرة حول مصاهرات بيت آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الكرام، فأن يشرح علم من أعلام الأمة الإسلامية حول هذا الموضوع يكتسب المرء الكثير.
وبنبذة مختصرة: هو الشيخ عبد الإله عبد المنعم محمود حسين علي خليل الدوسري، نسياً: الهيتي، من مواليد العام 1942، تلقى علومه الدينية في مدرسة الأصفية الدينية بجامع الأصفية ببغداد، وتتلمذ على يد الشيخ العلامة المحدث السيد شاكر البدري، على طريقة المشايخ (الحلقات – الإجازة العلمية) وبعض المشايخ الآخرين منهم الشيخ مجيد رشيد (أبو مؤيد) والشيخ نوري الملا حويش والشيخ الحانوتي والشيخ ياسين منصور السعدي، وصحب الكثير منهم كنجم الدين الواعظ مفتي العراق، والشيخ كمال الدين الطائي وعبد القادر الخطيب والسيد كاظم النعيمي.
ينحدر الشيخ الهيتي من عائلة علمية جذورها تمتد من هيت إلى الحلة الفيحاء (بابل) وإلى البصرة مدينة العلم والعلماء درة الخليج، وإلى بغداد عاصمة الخلافة وبلد الحضارة والرشيد والفقه والفقهاء، دار السلام والإسلام.
لم تتوقف مسيرة الشيخ الهيتي هنا، فنسبه مفخرة لكل مسلم وعربي، حيث يرجع نسبه أيضاً إلى سماحة العلامة المجاهد عبد السلام الحافظ إمام وخطيب جامع الحلة الكبير ومفتي المجاهدين الوطنيين في ثورة العشرين، وكذلك فضيلة العلامة السيد خليل إبراهيم الهيتي إمام وخطيب جامع الهيتاويين والقاضي الشرعي في الحلة والديوانية في فترة الأربعينيات من القرن العشرين، وقد صاحبه صاحب الترجمة فترة من الزمن في أواخر الستينيات من القرن العشرين، عندما كان يشغل إمامة وخطابة جامع الحلة الكبير، وكذلك الشيخ شاكر السيد إبراهيم الإمام والخطيب، والسيد جميل السيد إبراهيم الهيتي إمام وخطيب جامع الجمعة في النجف الذي أغلق في فترة الستينيات.
بالإضافة إلى السادة أعلاه، هناك أيضاً، سماحة العلامة القاضي عبد الجليل السيد إبراهيم إمام وخطيب ومدرس، ورئيس رابطة الأنبار ومفتيها العام، وفضيلة الشيخ عبد الرزاق آل حبيب الدوسري الإمام والخطيب والمدرس في جامع هيت الشرقي الكبير، ومن الذوات والوجهاء في هيت من العمومة وأولاد العمومة، الحاج محمود عبد المنعم، والحاج محمد أمين، وآل محي، وآل غلاب، وآل نوري في بابل، وآل الخطيب شاكر عبد الجبار الخطيب، ونافع عبد الجبار الخطيب، وآل ناصر، وآل جراد وآل الخطيب والدواسر الوادعين، وآل خليفة في البصرة وغيرهم الكثير.
وبعد إكماله التحصيل العلمي للعلوم الدينية والشرعية (المنقول والمعقول) وثبوت أهليته (للإمامة والخطابة) أمام المجلس العلمي في الأوقاف بعد اجتيازه الاختبار اللازم بتفوق عام 1967، عيّن إماماً في مسجد عثمان أفندي في السراي وخطيباً في جامع الراشدين في أبي غريب، ثم نقل في عام 1969 إلى جامع الحلة الكبير بطلب من أوقاف بابل لرغبة المصلين في الجامع المذكور، وفي عام 1974 نقل إلى جامع راوة الكبير في الأنبار، وفي أوائل العام 1979 أوفد مع عدد من المشايخ إلى مدينة البصرة للوعظ والإرشاد وإلقاء المحاضرات الدينية، وبطلب من المصلين تم تثبيته في البصرة وذلك لما لمسوه من توجيه ديني رصين ونشاط في التوعية والإرشاد، وجدير بالذكر أن الشيخ الهيتي كان من أوائل من فتح دورات قرآنية، ليصبح في البصرة منذ العام 1980.
وجدير بالذكر أن لعضو دار الإفتاء الكثير من المؤلفات، منها:
الصلاة قاعدة الإيمان والإسلام، فضائل الصحابة الكرام وعلاقتهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الأطهار، الاعتكاف، وغير ذلك.
لكن ختاماً، لا يكفي أن نكتب بضعة أسطر عن مآثر علمائنا وشيوخنا وأساتذتنا، هؤلاء خاصة الأحياء منهم يجب تكريمهم بقدر يليق بمسيرتهم العظيمة، وهنا أستغل الفرصة وأتوجه إلى المؤسسات الإعلامية المعنية في البصرة الفيحاء بصورة عامة لأن المعلومات غير كافية لعلم مثله ولمثل العطاءات التي قدمها، المرئي والمسموع منه، حيث يُفترض على أقل تقدير أن يتم تكريم الشيخ الهيتي في حياته واليوم قبل الغد، لأنه مجرد وجوده بيننا هو بركة، خاصة أنه قدّم من وقته وحياته الكثير في خطه الدعوي، وليس فقط من وسائل الإعلام بل يجب أن يتم تكريمه من إدارة الوقف السني إن كان في البصرة أو في بغداد، هذا التكريم بحد ذاته هو تقدير لهذا الرجل سواء كان ثقافياً أو فكرياً أو إعلامياً فهو رمز من رموز البصرة المعاصرين وأقل ما يمكن تسليط الضوء عليه وعلى أقرانه فمن يجلس معه سيفتح صفحة جديدة في كتاب علمه وثقافته الموسوعية.
فالشيخ الهيتي مربي فاضل يملك ذاكرة متقدة ستزهر علماً فكرياً معرفياً شرعياً وثقافياً لكل الناس فهو من أعيان البصرة الكبار، وخاصة في ظل الظروف التي تمر فيها الأمة العربية فالناس بحاجة إلى من يرشدها ويوجه لها البوصلة نحو الطريق القويم، فالشيخ الهيتي والد الجميع دون استثناء.
وأخيراً لا بد من قول كلمة حق، وهي الشكر الكبير لأولاد الشيخ الهيتي، وأخص بالذكر الاستاذ محمد والشيخ مصطفى على اهتمامهم وتقديمهم كامل المعلومات والتسجيلات والصور التي توثق مراحل مهمة من حياة العلامة الشيخ الهيتي، وبمقالنا المتواضع هذا نأمل أن نكون قد قدمنا محاولة بسيطة لتعريف أبناء هذا الجيل بهذا الرجل ونحقق ما عجزت مؤسسات عن تحقيقه.
المستشار عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.