صناعة السياحة تحتاج إلى استراتيجيات واضحة المعالم وخطط طموحة لتحقيق الأهداف الوطنية ورفد القطاعات التنموية بالموارد الاقتصادية المطلوبة، فتشكل نسبة السياحة من الناتج المحلي في الدول التي تدير هذا القطاع الحيوي بحكمة واقتدار نحو 11% بالنسبة لبعض الدول العربية الرائدة في هذه الصناعة.
ولا يمكن الارتقاء بهذا القطاع الواعد إلّا بالتخطيط السليم والتنفيذ الدقيق والأمين للمشاريع السياحية، والعمل مع جميع القطاعات الأخرى المتعلقة بالسياحة، وعلى وجه الخصوص بناء منظومة أساسية يعتمد عليها؛ كالمطارات وشبكات الطرق والخدمات اللوجستية، والمرافق الترفيهية والإيواء السياحي بمختلف أنواعه، وقبل ذلك كله إيجاد كفاءات وطنية تُثري هذا المجال وتتمتع بالمهارات والخبرة بتاريخ البلد وتفاصيل المناطق السياحية والقدرة على الترويج للسلطنة في المحافل الدولية. وتطمح رؤية “عمان 2040” إلى الوصول بهذا القطاع في نهاية الرؤية إلى حوالي 7% من الناتج المحلي للسلطنة؛ بينما بلغت مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي للسلطنة عام 2019 (2.5 %) فقط.
وفي هذا العام، انتهى فصل الخريف فلكيًا قبل أيام، وتحديدًا في 21 سبتمبر، دون الوصول إلى السقف المتوقع لعدد الزوّار والذي كان مُقدرًا بمليون سائح، كما لن نتجاوزه؛ إذ تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد كشفت الأرقام الرسمية المنشورة أن عدد زوار الخريف لهذا العام 2023؛ بلغ 924 ألف زائر من داخل السلطنة وخارجها، وذلك حتى نهاية شهر أغسطس، بالمقارنة مع 826 ألف زائر خريف 2022. ويعود السبب المباشر لعدم تحقيق الرقم المليوني المُستهدَف، تقديم العام الدراسي في مدارس التعليم العام؛ وذلك أثناء ذروة الموسم السياحي؛ مما ترتب عليه توقُّف تدفُّق الأفواج السياحية من مختلف ولايات السلطنة الشمالية إلى ظفار؛ إذ أمست المرافق السياحية في صلالة خاوية على عروشها في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس مع هرولة الأسر للاستعداد للعام الدراسي الجديد. كما إن الترويج لموسم الخريف لم يكن على مستوى الطموح؛ إذ يُفترض أن تكون الحملات الإعلامية للموسم تبدأ قبل 6 أشهر من انطلاق الخريف على أقل تقدير، خاصة في مختلف المدن الخليجية، من خلال المشاركة في إقامة معارض سياحية، وتوظيف مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي للترويج للمحافظة، وكذلك تخصيص برامج وفقرات إعلانية في القنوات ووسائل الإعلام الرسمية والخاصة في عُمان ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل مُبكِّر؛ أي في مطلع شهر يناير من كل عام؛ فعملية نجاح الحملات السياحية تحتاج لمدة قد تصل إلى 6 أشهر، لكي تنتقل مضامين الحملة وأفكارها إلى الجمهور المستهدف.
لا شك أن الجهود الحكومية وخاصة بلدية ظفار واضحة وجديرة بالتقدير، لكن بعض المشاريع يتم تأجيلها إلى بداية الموسم السياحي؛ مما يُربك انسيابية التنقل ويخلق مشكلة كبيرة لزوار المحافظة، فنفق عقبة غدية الجديد الذي يوصل إلى وادي دربات- على سبيل المثال- تم إنجازه في منتصف فصل الخريف الماضي، في الوقت الذي يفترض أن يتم صيانة المرافق السياحية مبكراً خاصة الطرق والدوارت والواجهات البحرية والميادين التي يقام عليها الفعاليات، وقبل ذلك كله نتطلع إلى تنفيذ المشاريع المستقبلية لخريف 2024 والتي أعلن عنها من قبل المسؤولين المختصين؛ من الآن وعلى وجه الخصوص ازدواجية طريق دربات طاقة أو فتح طريق جديد من الجهة الغربية لوادي دربات. كما أن طريق هيماء صلالة يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار والتعجيل في تنفيذه بأسرع وقت ممكن لكونه يشكل شريانا حيويا لزائري محافظة ظفار، خاصة من دول الخليج والولايات الشمالية للسلطنة؛ إذ وصلت نسبة المستخدمين لهذا الطريق عام 2022 نحو 80% من إجمالي الزائرين للمحافظة.
لقد نجحت بلدية ظفار في إقامة فعاليات مميزة بكل المقاييس وعلى وجه الخصوص الفعاليات التراثية الهادفة والتي تعكس مختلف الفنون التقليدية في محافظة ظفار والمعروفة بـ”عودة الماضي” والتي تم إقامتها على شاطئ الحافة؛ بينما أبدع القائمون على برنامج “الناس والخريف”، وذلك في نقل صورة حقيقية عن الطبيعة الخلابة لمختلف العيون والمناظر التي تسر الناظرين عبر شاشة تلفزيون سلطنة عمان، والأجمل من ذلك كله البث الحي عبر أستديو البرنامج المتنقل الذي يختار الأماكن الرائعة بعناية؛ كدربات والمغسيل وبرج النهضة وشاطئ الحافة وغيرها من المحطات الجميلة التي تعكس مزايا المحافظة وجمال الخريف الأخاذ.
وكان لإذاعة “مسقط FM” حضورًا مميزًا من خلال برنامج “ياحي” الذي يضم كوكبة من النجوم الإعلامية الذين أثروا بحواراتهم اليومية الساحة الإعلامية وقاموا بتغطية شاملة وناجحة لخريف 2023.
كما إن توزيع الفعاليات المصاحبة لخريف ظفار على العديد من المواقع يُسجَّل للمسؤولين في بلدية ظفار ونجاحهم في إدارة هذا الحدث السنوي المُهم.
لا ريب أنَّ إشهار مطار صلالة كمحطة دولية أصبح من الضروريات التي لابُد منها، على أن يتم استكمال مرافق المطار الأساسية؛ كورشة لصيانة الطائرات، وكذلك مبنى ثانٍ لتوفير خدمات التموين لجميع الخطوط الدولية العابرة، وكذلك تزويد هذه المرافق بالمهندسين والفنيين، كما نتطلع من الناقل الوطني “الطيران العماني” أن يستمر في تخفيض التذاكر إلى صلالة، كما هو الحال حاليًا عند 54 ريالًا لتذكرة ذهاب وعودة، وكذلك استحداث رحلات مباشرة بين مطار صلالة وجميع العواصم الخليجية طوال العام.
وفي الختام.. موسم الصرب (الربيع) الذي لا يقل أهمية عن فصل الخريف قد أطلَّ علينا بما يحمله من مزايا وجمال فريد واخضرار يبهج النفوس ويريح القلوب العليلة، فهو يمثل موسم الحصاد، لكونه تظهر فيه المناظر الخضراء وتخطل فيه الإبل إلى الأودية والأحراش وتنقشع فيه الغيوم، ويختفي فيه الضباب وتتوقف الأمطار، وتتحول ظفار إلى سويسرا الشرق بلا منافس، في الوقت الذي يكون فيه الزوار قد رجعوا إلى قواعدهم بسلام، فلم يكتب لنا النجاح إلّا الآن لترويج لهذا الفصل الجميل وتسويقه بالشكل المطلوب، فربيع ظفار ما يزال من الكنوز الغائبة عن محبي الطبيعة من خارج المحافظة، فهو خاص لمن يعرف أسراره من أبناء المحافظة فقط.
د. محمد بن عوض المشيخي/ أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري