باتت “كبسولة الرأي المعلبة” الطريقة الأكثر اقتصاديةً لفهم العالم عند الجمهور، ومن يتحكّم في مسارات تلك الكبسولات ومضامينها وانتشارها، يتحكم بالتالي في الرأي العام وتوجهاته.
فتحت مقالة “مؤثرو السوشال ميديا… هل انتصر السطحيون؟” للصديق محمد فرج، في 24/9/2023، ملفاً مهماً عن انتشار المؤثرين اجتماعياً في وسائل التواصل الاجتماعي وارتباط تلك الظاهرة بالسطحية الفكرية وتآكل الإدراك العام، في ما يبدو أنه بداية نهاية عصر لذة القراءة، حين كان شاعت فكرة “خير جليسٍ في الزمان كتاب”، وتكريس سيادة المؤثرين اجتماعياً على المثقفين في الحيز العام، ولا سيما فئة الشباب، وحلول “الكبسولة المعلبة” ذات المذاق السكري محل إعمال العقل والفضول الفكري والتفكير النقدي التحليلي، وبالتالي نفي كل صاحب رسالة إلى هوامش الحيز العام، سواء كان كاتباً جاداً أو مفكراً أو عالماً، تحت وسم “طويل وممل ومعقد” الذي سيلتصق به فوراً إذا تجاوز طول مادته بضعة أسطر، وما لم يكن “يتساخف”.
وإني أزعم، بناءً على إحصاءات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أن عدد متابعي الكتابة الجادة والمعمقة لكل الكتاب من كل التوجهات الفكرية والسياسية مجتمعة لا يكاد يبلغ 1% من متابعي مؤثر اجتماعي واحد من الفئة الأولى، ربما يصل عدد من يتابعونه(ا) إلى عشرات الملايين أو أكثر، وأن هذا يمثل نصراً، بذاته، لدعاة عصر “نهاية الأيديولوجيا”، من أجل إحلال أيديولوجيا أحادية البعد محلها هي البراغماتية والنفعية والربح الفردي السريع، أي الليبرالية الحديثة في آخر تجلياتها الإلكترونية في القرن الـ21.
لم أربط صفات البراغماتية والنفعية والربح الفردي السريع بالتأثير الاجتماعي في وسائل التواصل اعتباطياً، إذ إن التأثير الاجتماعي هو في المحصلة:
أ – تجارة إلكترونية، ب – أتاحها تطور الإنترنت، ج – برعاية الشركات الدولية متعدية الحدود والغرب الجماعي وأدواته، د – و”البضاعة” هي متابع المؤثرين اجتماعياً نفسه بصفته مستهلكاً محتملاً.
بناءً على ذلك، يصبح من الأهمية بمكان تنبيه الناس إلى حجم ما يجنيه المؤثرون مالياً من شهرتهم وانتشارهم اجتماعياً عن طريق بيع متابعيهم بصورةٍ قانونية وعلنية للشركات التي وضعت قواعد تسعير عامة للمؤثرين اجتماعياً، بحسب عدد متابعيهم وقدرتهم على التأثير فيهم تجارياً أو إعلامياً لمصلحة من يدفع للزمار.
لا بد من الإشارة، في البداية، إلى أن أدبيات علم التسويق الحديثة تتناول المؤثرين اجتماعياً بصورة تجارية محضة، وأن مواقع الإنترنت المعنية تنشر دورياً جداول تسعيرات المؤثرين المختلفين وقيمتهم في القطاعات الاقتصادية المعنية، مثل منتجات اللياقة البدنية أو مستحضرات التجميل أو السياحة والسفر… والشبكة التي ينشطون فيها، مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تويتر”…
جرى العرف في أدبيات علم التسويق قبل نحو 6 سنوات على تصنيف المؤثرين اجتماعياً في وسائل التواصل إلى الفئات التالية:
أ – مؤثرو فئة “النانو” (Nano-influencer)، أي الصغير جداً، ويتراوح عدد متابعي الواحد من هؤلاء بين ألف و10 آلاف متابع.
ب – مؤثرو فئة “المايكرو” (Micro-influencer)، أي الجزئي أو الصغير، ويتراوح عدد متابعي الواحد منهم بين 10 آلاف و100 ألف متابع.
ج – مؤثرو فئة “الماكرو” (Marco-influencer)، أي الكلي أو الكبير، ويتراوح عدد متابعي الواحد منهم بين 100 و500 ألف متابع.
د – مؤثرو فئة “الميغا” (Mega-influencer)، أي الكبير جداً أو العملاق، أو الشخصية الشهيرة celebrity، وهم من يربو عدد متابعي أحدهم على 500 ألف متابع.
أما حالياً، فإن تحديث الفئات أعلاه، كما نشر أحد المواقع المختصة في 2023، بات يضعها كما يلي: فئة المؤثر الصغير جداً: أقل من ألف متابع. فئة المؤثر الصغير: بين ألف و10 آلاف متابع. فئة المؤثر المتوسط: بين 10 و100 ألف متابع. فئة المؤثر الكبير: بين 100 ألف ومليون متابع. فئة المؤثر العملاق: أكثر من مليون متابع.
وتستند التسعيرة إلى عدد المتابعين طبعاً، والقوة التفاوضية لمدير أعماله، وسجل المؤثر في التأثير في متابعيه، ونوعية “الرسالة” التي يرغب الممول في ترويجها…
يشير موقع “Influence Rate Map” مثلاً، في الجداول التي وضعها لموقع “إنستغرام” مثلاً، إلى أن مؤثراً لديه 10 آلاف متابع يمكن أن يجني ما بين 50 و250 دولاراً عن المنشور الواحد الممول. أما من لديه 10 آلاف إلى 25 ألف متابع، فيحصل على 100 إلى 250 دولاراً عن المنشور الواحد الممول، ومن يتابعه أكثر من 100 ألف شخص يتراوح عائده ما بين 1000 و5000 دولار للمنشور الواحد، بمتوسط يدور حول 1800 دولار. وينال من يتابعه أكثر من مليون شخص في شبكة “إنستغرام” بين 5 و25 ألف دولار، بمتوسط يتراوح بين 10 و15 ألف دولار للإعلان الواحد الممول.
تختلف الأسعار من قطاع إلى آخر طبعاً، فإذا أخذنا فئة المؤثرين الصغار-المتوسطين، الذين يحظون بما بين 10 آلاف و50 ألف متابع، فإنهم يتقاضون عن المنشور الواحد 200-800 دولار في قطاع السياحة والسفر مثلاً، و150-600 دولار في قطاع المنتجات الغذائية والمطاعم، و200-1000 دولار في قطاع الأزياء والموضة، و200-800 دولار في قطاع منتجات التجميل، و150-600 دولار في قطاع اللياقة البدنية.
تأتي التسعيرة في قناة “يوتيوب” كما يلي: 300 دولار لأقل من 5 آلاف متابع، و900 دولار لمن لديه 5 آلاف إلى 30 ألف متابع… أما في “فيسبوك”، فالتسعيرة هي 30 دولاراً لأقل من 5 آلاف متابع، و200 دولار لمن لديه 5 آلاف إلى 30 ألف متابع…
وهذه كلها أشبه بأسماك السردين في المحيط الافتراضي، إذ إن عدد متابعي كريستيانو رينالدو في “إنستغرام” وحده يبلغ حالياً 604 مليون متابع. وبناءً عليه، فإنه يتقاضى، بحسب إحصاءات الشهر الفائت، 2.4 مليون دولار عن المنشور الممول الواحد.
لا نتحدث عن إعلانات مدفوعة بالمعنى الحرفي بالضرورة هنا، إذ إن الشركات تدفع للمؤثرين كي يروجوا منتجاتها ورسائلها، لأن الدراسات التسويقية لاحظت أن المستهلكين يميلون إلى تجنب التعرض لشلال الإعلانات والدعايات التسويقية. لذلك، تدفع الشركات للمؤثر كي ينتج بطريقته وأسلوبه مضموناً يروج رسالة الممول عبر صور أو فيديوهات أو منشورات مفصلة على مقاس الجمهور الذي اجتذبه شخصياً.
لنفترض أن المؤثر بنى شهرته مثلاً على نشر مواد تدريبية أو نصائح في مجال الصحة أو العلاقات الإنسانية أو التدريب الرياضي أو الطبخ… فإن هناك عشرات الطرق التي يستطيع أن يمرر من خلالها دعايةً لمنتج ما.
وهناك من المؤثرين من يعمل في بيع الثياب أو الأغراض المستعملة لمؤثرين أكبر منه، وهناك من يروج لمنصات بعينها للتجارة عبر الإنترنت، وهناك من يكسب المال فقط من التعاقد مع شركات كبرى كي تنشر إعلاناتها في صفحته، من دون أن يكون طرفاً فيها، وهناك من يتعاقد مع ماركات مسجلة بعينها كي يصبح “سفيراً” لها، لكن “اللعب” في هذا المجال لا يبدأ إلا لمن يوجد لديه أكثر من 10 آلاف متابع. أما المؤثرون الصغار، فيمكن أن يحصلوا على منتجات مجانية من الشركات التي يروجونها.
وللأمانة، هناك بين المؤثرين من يحاول الحفاظ على استقلاليته بطلب تبرعات من متابعيه كي يتمكن من الاستمرار بإنتاج المضمون الذي يتابعونه أو من يجعل بعض منشوراته مشروطة باشتراك خاص.
من هم المؤثرون اجتماعياً في وسائل التواصل؟
ليست وسائل التواصل فضاءً حراً، كما يبدو للوهلة الأولى، وهي لا تعكس نفَس الشارع بمقدار ما تحاول التأثير فيه، إذ إن خوارزميات “فيسبوك” مثلاً مصممة لتقييد أو حظر المنشورات والصفحات المؤثرة التي توجد فيها كلمات مثل “مقاومة” و”شهيد” وما شابه. وثمة تقارير دورية توثق محاربة المحتوى الفلسطيني، على سبيل المثال لا الحصر، في وسائل التواصل، ولا سيما “فيسبوك”.
إبراهيم علوش- الميادين نت