يُمثِّل مشهد الإجرام الوحشي وحرب الإبادة الجماعيَّة اليوميَّة القذرة الَّتي يتعرض لها شَعب فلسطين في غزَّة من قِبل الاحتلال الصهيوني منذ أكثر من شهر، وطالت الأطفال والنِّساء والشيوخ والمُسنِّين، وحجم الدَّمار الَّذي لحق بالبنية الأساسيَّة والَّذي طال المساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات، واستباح الحرمات وقتل الإنسان وتهجيره من أرضه، ومنع دخول المواد الغذائيَّة والطبيَّة والكهرباء والماء والدواء للشَّعب الأعزل المُحاصَر في غزَّة؛ يُمثِّل سقوط في مستنقع القبح والجهالة، ويفصح عن حجم العداء الَّذي يكنُّه الاحتلال ومَنْ سانده من حكومات العالَم على النَّوع العربي، مشهد مأساوي لا أخلاقي يُعبِّر بوضوح عن سلطويَّة القُطب الواحد الَّذي تفرضه الولايات المُتَّحدة الأميركيًّة على شعوب العالَم الثالث (الشرق الأوسط)؛ فإنَّ ما باتَتْ تُبرزه وكالات الأنباء العالَميَّة المستقلَّة وغيرها من مشاهد القتل والإجرام في حقِّ الطفولة والنِّساء والإنسانيَّة، لَتعظمُ من هوله الخطوب، وتضيق الأنفس، وتنفطر له الضمائر الحيَّة والأفئدة السليمة، وييأس له الضمير الإنساني الواعي، ويندَى له جبين الحُر الشريف، في انعدام لأبسط معايير الإنسانيَّة، وانحراف كُلِّي عن سبيل الجادَّة، ووصول إلى أقصى دركات الدناءة والحقارة واللامسوؤليَّة والغطرسة والوحشيَّة، وكأنَّه يُعِيد إلى عالَم البَشَر شريعة الغاب الَّتي تسيِّرها القوَّة وتديرها المصالح الشخصيَّة دُونَ اعتبار للقوانين والأنظمة والمعاهدات والاتفاقيَّات الدوليَّة.
لقَدْ شوَّهت الممارسة السِّياسيَّة الَّتي باتَتْ تديرها سياسة القطب الواحد، وانحياز الولايات المُتَّحدة الأميركيًّة المُفرط مع الكيان الصهيوني وشرعنته لكُلِّ وسائل الإجرام الَّتي يقوم بها، صورة المشترك القيَمي والمؤتلف الإنساني، حتَّى سلبته أبسط حقوقه في العيش والحياة، وفي ظلِّ غياب محبِطٍ وساخر لمنظومة الأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن وغيرها من المنظَّمات العاملة في إطار الأُمم المُتَّحدة، وما انتهجته من سياسة الانسحاب المخزي القائم على شرعَنة العدوان الصهيوني وتأييد ما تقوم به جرائم الحرب الصهيونيَّة من تدمير وقتل، مشاهد باتَتْ تحمل التواطؤ الجمعي لهذه المنظومات والقائمين عَلَيْها في انحسار لكُلِّ القِيَم والمبادئ، وخروج سافر عن كُلِّ الأعراف والأخلاق وأبسط مفاهيم الإنسانيَّة، والَّتي باتَتْ تفصح عن ازدواجيَّة السِّياسة العالَميَّة في التعامل مع الشعوب، وحالة الانفلات والتراجع والغوغائيَّة والنفوق القِيَمي والأخلاقي الَّتي تعيشها، وإقصاء المشترك، وتغييب الحوار، وخلق واقع هشٍّ تسيطر عَلَيْه المصالح الشخصيَّة، وتُديره الانطباعات الذَّاتيَّة والأفكار العدوانيَّة، في ظلِّ سيطرة القوى السِّياسيَّة المتعطِّشة للحروب وسفك الدِّماء على ثروات الشعوب ومقدَّرات الأوطان، وتدخُّلات هوجاء في شؤون الغير وإقصاء مستمر للآخر المختلف، وغلبة لغة المصالح الشخصيَّة على حساب الحقِّ الجمعي للشعوب في تقرير مصيرها.
فإنَّ استمرار هذا المشهد العالَمي المخزي حَوْلَ فلسطين وما يحصل في غزَّة من إجرام الاحتلال الصهيوني، يطرح اليوم تساؤلات، حَوْلَ المسار الَّذي سلكته بعض أو أغلب دَوْر المنطقة في العقود السَّابقة في إقناعها بمسار التطبيع مع الكيان الصهيوني، والهجمة الشرسة الَّتي وجهتها الولايات المُتَّحدة الأميركيًّة والغرب إلى مناهج التعليم في العالَم العربي، والَّتي كان من بَيْنِ أهدافها إفراغ المناهج الدراسيَّة من القضيَّة الفلسطينيَّة، وتغريب طلبة المدارس والجامعات عن قضيَّة العروبة ومصيرها، وإلى أيِّ مدى سيؤدِّي استمرار هذا العدوان إلى اقتناع دوَل العالَم العربي والإسلامي وغيرها حَوْلَ جديَّة ونتائج مسار التطبيع وما حقَّقه في منع الكيان الصهيوني من مواصلة إبادته لشَعب فلسطين الأعزل، وما يظهر في الواقع بأنَّه لَمْ يكُنْ لهذا التطبيع من أيِّ تأثير إيجابي في تحقيق انفراج في القضيَّة أو ردِّ العدوان عن غزَّة، الأمْرُ الَّذي ستكُونُ له تداعياته على استمرار هذا المسار والصورة الَّتي يُمكِن أن تبرِّرَ بها الحكومات العربيَّة والإسلاميَّة لشعوبها حَوْلَ القِيمة المُتحقِّقة من التطبيع، وتداعياته على ثقة الشعوب في حكوماتها، ناهيك عن تداعياته على مستقبل العمل العربي الدولي والثقة بَيْنَ العالَم وشعوبه، بالإضافة إلى التداعيات الَّتي تتركها مشاهد القتل والإجرام على الطفولة في هذا العالَم، والصورة السلبيَّة الَّتي ستنعكس على الناشئة نَحْوَ الذَّات والآخر، ومفاهيم التَّسامح والتعايش والحوار والاعتراف بالآخر والمشتركات والمؤتلفات وغيرها من القِيَم الَّتي عبثَتْ بها السِّياسة الدوليَّة وألقَتْها وراء ظهرانيها، وتأثير هذه المجازر الوحشيَّة على ما تحمله الطفولة من نكبات وتراكمات للمستقبل، في رفع درجة التنمُّر والعداء المتبادل والكره المستطير، وسياسة المعاملة بالمِثل.
ولمّا كان التحدِّي الأكبر القادم الَّذي تُخلِّفه هذه الأحداث الدمويَّة حاضرًا في مشهد التاريخ الملطَّخ بدماء أطفال غزَّة، ونكبة الأُمَّة في تخاذلها عن نصرة فلسطين، وغياب ماء الحياء من المشهد العالَمي وهو يشاهد هذا الإجرام الوحشي دُونَ أن يحركَ ساكنًا، شاهدًا حيًّا للسقوط الأخلاقي الدولي، لَنْ تمسحَه ذاكرة الأيَّام، وستبقى شواهده الملطَّخة بدماء الأبرياء؛ أحداثًا للتاريخ سيرويها الكتَّاب والباحثون والمعلِّمون والرواة والأجيال القادمة؛ فإنَّ استمرار هذا الإجرام سيضع علامات استفهام على رهان التطبيع مع الكيان الصهيوني، لِمَا أثبتَتْه هذه الحرب الهمجيَّة من هشاشته في ردِّ العجرفة الصهيونيَّة والعنصريَّة الامبرياليَّة، واستمرار صورة النَّوع العربي في المشهد الإجرامي الصهيوني، الأمْرُ الَّذي لَمْ تستطع فيه الدوَل الَّتي طبَّعت مع الكيان الصهيوني محاولة إقناعه بالتراجع عن الحرب أو على الأقلِّ فتح معبر رفح لإدخال المساعدات الإنسانيَّة والطبيَّة والغذائيَّة العاجلة أو اتِّخاذ موقِف مشرِّف يحمل ذرَّة من الحياء والإنسانيَّة كاعتبار لأهمِّية ما تحقَّق من هذا التطبيع؛ إذ كيف يُمكِن لهذه الدوَل المطبِّعة مع الكيان الصهيوني ـ بأيِّ شكلٍ من أشكال التطبيع، سواء كان السِّياسي أو الاقتصادي أو التبادل التجاري أو غيره ـ أن تقنعَ شعوبها بأنَّ التطبيع كان في مصلحة الوحدة العربيَّة والسَّلام والتعايش، الَّتي أطلق عَلَيْها الكيان الصهيوني رصاصة الموت النِّهائي ـ فعن أيِّ تطبيع تتحدثون، وأيِّ سلام تروون؟
وفي المقابل تُلقي جرائم الاحتلال في غزَّة بثقلها في ظلِّ غوغائيَّة السِّياسة على هذه الدوَل الَّتي اتَّجهت نَحْوَ تصفية المناهج التعليميَّة من كُلِّ ما يتعلَّق بالجهاد والدِّفاع عن النَّفْس والقضيَّة الفلسطينيَّة والمسجد الأقصى، لِتُعيدَ النظر في هذا المسار من جهتين أولاهما ما يتعلق بنظريَّة السَّلام الدوليَّة والقانون الدولي والقِيَم العالَميَّة ودَوْر المنظَّمات الدوليَّة المعنيَّة بحقوق الإنسان والطفولة والمرأة والتعليم والعِلم والثقافة، في حجم النفوق القِيَمي والسقوط الأخلاقي الَّذي أفصحت عَنْه عبثيَّة هذا العدوان، وبالتَّالي أن تراجعَ المنظومات التعليميَّة الدوليَّة هذا المسار وعَبْرَ إعادة تدريس هذه القِيَم بالشكل الَّذي يحفظ وجودها ومكانتها خارج المدارس وفي أروقة السِّياسة الدوليَّة، وطاولة المفاوضات بمجلس الأمن الدولي وهيئة الأُمم المُتَّحدة، بحيث تكُونُ لها شريعة ومِنْهاجًا تحتكم إليه جميع قيادات العالَم وحكوماته بلا استثناء قَبل شعوبه، وإنتاج عالَم يحفظ حقوق المستضعفين من الأطفال والنِّساء والشيوخ والكبار، وحقوق وقدسيَّة المؤسَّسات التعليميَّة والمستشفيات ومراكز الإيواء ومُخيَّمات اللاجئين من أن تنالَها آلةُ البطش وأدوات القتل الصهيونيَّة والأميركيًّة، فإنَّ مسؤوليَّة التعليم اليوم أن يصعدَ حراكه برفض هذه الممارسات وإسقاطها من قاموس المنظَّمات الدوليَّة، والنَّظر في الرهان الَّذي عوَّلت عَلَيْها الحكومات العربيَّة وهو اليوم يثبت هشاشته مع المحتلِّ والهيمنة الأميركيًّة والتدخُّلات الأوروبيَّة، وباتَ على هذه الحكومات اليوم مراجعته وإعادته إلى حوزة التعليم في بلدانها، ما يتعلَّق بإعادة فلسطين إلى المحتوى التعليمي العربي والإسلامي، فهي قضيَّة العروبة والإسلام ونضالها مع الاحتلال، وليست حالة طارئة أو مسارًا يرتبط بالعلاقة مع الدول؛ لأنَّها ببساطة خارج هذه المساوات الليليَّة والوصاية الأحاديَّة وعلاقات المصالح الهشَّة، فهي قضيَّة فكريَّة عقديَّة إيمانيَّة، لها حضورها في التأريخ العربي الإسلامي، ومرتكزات فكريَّة واقعيَّة رصدها القرآن العظيم وتحدَّث عَنْها في أكثر من موضع.
أخيرًا، فإنَّ ما حصل في العقود السَّابقة ويحصل كُلَّ يوم من ضغوطات على الدوَل بقَبول التطبيع مع الكيان الصهيوني، والضغوطات بإفراغ المناهج التعليميَّة من القضيَّة الفلسطينيَّة والمسجد الأقصى وبيت المقدس، وتسييس القضيَّة في إطار مصالح معيَّنة ومخطَّطات صهيونيَّة، ونيَّات باتَتْ تفرغ سمومها اليوم في عدوانها على غزَّة، وتكشف ما تعنيه هذه الضغوطات من مُخطَّطات تستهدف إفراغ المحتوى الفكري والعقدي لفلسطين من قناعات الأجيال ونضالهم؛ يضع أمام الحكومات العربيَّة والإسلاميَّة اليوم مسؤوليَّة تاريخيَّة وأخلاقيَّة وإنسانيَّة ووطنيَّة في مراجعة مسار هذه الأحداث، بالخروج من لعبة التطبيع الهشَّة الَّتي باتَتْ تعظِّم من شأن الوصاية الامبرياليَّة الصهيونيَّة على هذه الحكومات؛ وإعادة النظر في موقع القضيَّة الفلسطينيَّة وعَبْرَ تشريب المناهج الدراسيَّة وأبناء الأُمَّة بالقِيَم والموجِّهات والأُطُر الَّتي ترتبط بهذه القضيَّة؛ باعتبارها قضيَّة الإنسان العربي، وتأطير هذا المسار وتوجيه الأنظار إليه في إطار تثبيت قواعده وأُصوله ومواقفه العقديَّة والفكريَّة والسِّياسيَّة والنهضويَّة نَحْوَ فلسطين عربيَّة.
د.رجب بن علي العويسي