لا يزال التاريخ يحتفظ بأعمال أعلام عربية إسلامية تركت بصمتها في الفقه والشريعة وفي القانون والفلك والطب وغير ذلك، فسير أعلام الإسلام كثيرة جداً وما على الراغب إلى الإبحار فيها سيكتشف خبايا وقصص ومعلومات كثيرة تعيده إلى أزمنة يتوق شوقاً لو كان موجوداً آنذاك، فالحضارات المتعاقبة حتى ما قبل الإسلام تركت بصمات ظاهرة وشاخصة إلى الآن في عالمينا العربي والإسلامي.
هذه السير، على كثرتها، لكن بعضاً منها اندثر، وآخر حُكم عليه بالضياع، إن كان بفعل الحرائق التي ألمت بالمكتبات الإسلامية إثر الغزوات أو بفعل فاعل وإهمال من طلبة هذا الشيخ أو الفقيه أو القاضي أو المحدث، وهذه نكبة كبيرة لأن عند البحث عن شخصية ما، نتفاجأ بقلة المعلومات حولها باستثناء مقالات خجولة لا تتعدى الصفحة أو الصفحتين، وهذا ما حدث معي عندما حاولت الغوص في سيرة قاضي دمشق، العلامة الجليل المتمكن الشيخ محمد بن مصطفى بن يوسف بن علي الطنطاوي الأزهري الشافعي الحسيني الدمشقي، (1241 هـ – 1306 هـ) من مواليد طنطا –مصر وسكن دمشق – سوريا، تخرج من جامع الأحمدي العريق، وكان له محطة بارزة في حلب وقرأ على أعيانها، ليعود بعد ذلك إلى مصر وحضر الأزهر الشريف لمدة 5 سنوات على كبار شيوخه آنذاك، کالبرهان الباجوري ، والبرهان السقا، والخضري صاحب الحاشية، ومصطفى المبلط ، والبلتاني، وعليش.
لكن قبل استكمال ما حظيت به من معلومات حول العالم الجليل لا بد من معرفة الحقبة التي عاش فيها وما هي ظروفها لأن هذا بطبيعة الحال ينعكس على الشخصيات راحة أو تضييقاً.
بالعودة إلى فترة الفتح الإسلامي نجد أن بلاد الشام تميزت بكونها حضارة مدنية وتجارية، بالنسبة لفن العمارة نجد اهتمامها فيه ولا يزال هناك نماذج لكثير من الحضارات المتعاقبة التي حكمت المنطقة، لكن الطابع الطاغي بكثرة هو الطابع العثماني بحكم حكم المنطقة لـ 4 قرون، ومن الطبيعي جداً أن تسري القوانين العثمانية آنذاك على مفاصل الدولة في الشام وكل الولايات السورية كانت تتبع للقانون العثماني كما أشرنا في مقال سابق حول طبيعة الأوضاع القانونية بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن المعروف أن الدولة العثمانية بعد انسحاب محمد علي باشا من سوريا، بذلت جهوداً كبيرة من أجل تدعيم أسس حكمها، وسيطرتها على الولايات التابعة لها، وعلى رأسها الولايات السورية.
فقد أعادت السلطة العثمانية تأكيد نفسها إلى حد ما، ولكن بشكل جديد، في معظم فترات القرن الثامن عشر، حكم دمشق حكام ينتمون إلى عائلة العظم، الموالين للسلطان ولكن مع استقلالية أكبر مما كان يسمح به السلاطين السابقون، لقد سيطروا على الإنكشارية، وحافظوا على البدو، وحافظوا على الأمن، وفي بعض الأحيان مدوا سلطتهم إلى محافظات أخرى، فقد أدارت الدولة العثمانية مناطق شاسعة ومعقدة وكانت مهمتها الرئيسية هي الحفاظ على العدالة، حيث أن المفهوم الأساسي للحكم في النظرة العثمانية للمجتمع والدولة، وخلال حكم الدولة العثمانية، تم تشجيع الاهتمام العلمي بالإسلام في سوريا إلى حد كبير من خلال الأهمية السياسية الملموسة للموضوع. في معظم فترات القرن الثامن عشر وما تلا ذلك، احتلت القوى الإسلامية مقعداً خلفياً في الحياة السياسية السورية.
أما بالنسبة للقضاء، نستطيع استخلاص الوضع آنذاك أنه كان هناك إلى جانب الجهاز الحاكم الذي كان يرأسه أمير اللواء كان هناك جهاز القضاء ويرأسه القاضي، وجدير بالذكر أن لجهاز القضاء في الدولة العثمانية مراتبية هرمية أيضاً، فقد قسمت الدولة العثمانية الى منطقتين قضائيتين كبيرتين يرأس كل منهما (قاضي أفندي)، احدى المنطقتين يرأسها قاضي عسكر الروملي، والأخرى قاضي عسكر الأناضول وتتبع المنطقتان لشيخ الاسلام الذي هو بمثابة قاضي قضاة الدولة العثمانية.
بالتالي، في تلك الفترة ارتبطت دمشق بقاضي عسكر الأناضول كسلطة وهو الذي كان يأمر بتعيين القضاة الأصغر، والتعيين لمدة عام، قابل للتمديد، وكان القاضي يمثل المرجعية العليا لإحقاق العدل وإنصاف المظلومين لذا كانت هيبة القضاء مهيمنة على الحاكم والمحكوم، ولم يكن أحد ليجرؤ على مخالفة القضاء.
وبالعودة إلى قاضي دمشق العلامة الجليل المتمكن الشيخ محمد بن مصطفى بن يوسف بن علي الطنطاوي، كان حافظاً للقرآن منذ طفولته، على يد على الشيخ محمد الشبرويشي، فالشيخ الجليل أصلاً من منطقة طنطا في مصر، وجدير بالذكر أن فقد نزح جده منها إلى دمشق سنة 1255هـ، برفقة عمه، وكان عمه هذا عالماً أزهرياً، حمل علمه معه إلى ديار الشام، حيث جدد فيها العناية بالعلوم العقلية ولا سيما الفلك والرياضيات.
الشيخ مصطفى الطنطاوي، فقد كان من العلماء المعدودين في الشام، وانتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق، كان من صدور الفقهاء ومن الطبقة الأولى من المعلمين والمربين، فقد كان قاضي دمشق من أوائل الذين جمعوا بين طريقي التلقي على المشايخ والدراسة في المدارس النظامية، وقد عَد من مشايخه الذين قرأ عليهم – في حاشية طويلة في أول كتابه “تعريف عام بدين الإسلام” – طائفة منهم يجاوزون الأربعين.
وبالنظر إلى شح المعلومات، لكن ربطاً مع السيرة الذاتية المتواضعة نستطيع ملاحظة أن هذا القاضي الموقر، استطاع أن يدمج الشريعة الإسلامية بالقانون، وإن كان جده أزهرياً وهو حافظٌ للقرآن، فسوف يعطي الحكم العادل ويرد الظلم عن المظلوم، وإذا ما قارنت ذاك الأمس باليوم، فهو يذكرني بمسيرة المستشار الراحل طارق البشري الذي نشر العدل طوال فترة توليه مناصبه، وكان قاضياً يقضي بالحق، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية استفادت جداً من استقرار علماء الدين المصريين في أراضيها، وتركوا بصمات واسعة في المجالات جميعاً وبالأخص في القانون، زد على ذلك، في العصر الحديث نسبياً، أغلب الدساتير العربية كانت بصمة مصر حاضرة من خلال مستشاريها الكبار منذ أربعينيات القرن الماضي.
وبناءً على ذلك، يكفي أن نعلم أن قاضي دمشق ليكون في منصبه فلا بد أنه نشر عدلاً كثيراً، لكن مع ظروف الحياة السياسية ما بعد الدولة العثمانية ومجيء الاستعمار الفرنسي ضاع الكثير من الموروث لأن حقبة الاستعمار كانت من أهم أهدافها هي تدمير التراث الإسلامي بما في ذلك تدمير البشر والحجر والقضاء على التعليم ليتم القضاء على العقول وقمع الأفواه، ما يؤكد ذلك الحرائق التي حدثت في عهد استعمارهم وهذا يعني أن مكتبات كثيرة تم حرقها والتخلص من أرشيفها، وبذلك أعتقد جازماً أن ضياع المعلومات أو قلتها عن قاضي دمشق لها صلة بالمستعمر الذي يريد محو التاريخ، وأعلم يقيناً أنني لم أوفق في سرد سيرته بتفاصيلٍ دقيقة لكن حاولت جاهداً أن أحييه ما استطعت لأن كل شخصية إسلامية، أو قانونية وغير ذلك هي تعنيني بشكل مباشر.
وانتهت رحلة قاضي دمشق القليلة والنادرة ولكن نعد بالاستفاضة في شخصيات أخرى من أعلام دمشق القديمة لأن إحياء التاريخ هو الأحب إلى قلبي، وجدير بالملاحظة أنه رغم ندرة المعلومات صممت أن أكمل هذا المقال لأشارككم فيه فلست ممن يدعي علماً إن لم يكن بيدي مصادر واسعة، فشاركتكم حتى هذه المعلومات القليلة على أن نعوضها في مرات لاحقة بعد البحث والاستقصاء بشكل أوسع إن شاء الله تعالى.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.