لا تزال رحلة البحث في سيرة الشيخ الألباني طويلة بالنظر إلى المجهود الكبير الذي بذله منذ طفولته وإلى وقت وفاته، على الرغم من أن هناك من يتفق ويختلف معه، وفي ذلك وضع طبيعي وصحي طالما كان النقد بنّاء ومبني على الأدلة الدامغة من قبل المختلفين، مع الإشارة إلى أن سيرة أي عالم إسلامي، سيتخللها السلبيات والإيجابيات، وفي نقلنا إنما نحاول الإضاءة عليها وفق الجوانب المتاحة بحيث نطرح مكمن الخلاف ونفنّده أي أصاب وأين أخطأ وكلنا بشر.
واستكمالاً لما بدأناه، سنتحدث في هذا الجزء عن رحلات الشيخ الألباني الخارجية، بعد أن رصدنا مسيرته في التعليم رغم أنه لم يدرس دراسة أكاديمية لكن كان صيته واسعاً جداً.
وبعد أن انتقل والد الشيخ مع عائلته من ألبانيا إلى سوريا، عاش المحدث المستقبلي في دمشق لمدة ربع قرن، وأدى حجه الأول فقط في عام 1949، وبعد توحيد سوريا ومصر في دولة واحدة – الجمهورية العربية المتحدة، زار الشيخ الألباني مصر لأول مرة (1960)، وذكرنا في الجزء الماضي أنه قام بالتدريس في جامعة المدينة المنورة من 1961 إلى 1963، ولعل الزيارة الأجمل هي أنهفي عام 1965، زار القدس لأول مرة، حيث يقع ثالث أهم مسجد، المسجد الأقصى.
بالتالي، سمح تخفيف السياسات القمعية في سوريا في النصف الأول من السبعينيات للشيخ، الذي كان قيد الإقامة الجبرية بعد سجنه، بالسفر ليس فقط إلى الدول العربية، بل أيضاً إلى الدول الأوروبية، فقد كان أول عمل للشيخ هو الذهاب إلى الحج (ديسمبر 1971)، ثم قبل دعوة من اتحاد الطلاب المسلمين في إسبانيا لإلقاء محاضرة في مؤتمر علمي وتعليمي في غرناطة (أغسطس 1972)، تلا ذلك، في أكتوبر 1972، أن ذهب الشيخ الألباني إلى قطر، حيث ألقى محاضرة حول “مكانة السنة في الإسلام”.
وبعد وفاة مفتي عام المملكة العربية السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ، تم تعيين الشيخ عبد العزيز بن باز عميداً للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتولى هذا المنصب لمدة خمس سنوات (1970-1975)، خلال هذه السنوات نفسها، أدى الشيخ الألباني الحج والعمرة سنوياً، وقام بإرشاد الحجاج والطلاب في مساجد مكة والمدينة، وجدير بالذكر أنه في عام 1975، تم تعيين الشيخ ابن باز رئيساً لمكتب البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الإسلامي،وبناء على توصيته، في العام نفسه، انتخب الشيخ الألباني عضواًفي المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (1975-1978).
ومع تعيين الشيخ ابن باز في منصب رئيس الجامعة، بدأ اتباع سياسة الدعوة النشطة خارج المملكة العربية السعودية، وتم التوسع في قبول الطلاب الأجانب، وإيفاد أساتذة من جامعة المدينة المنورة للتدريس في الخارج، خاصة في الهند وباكستان والدول الأفريقية، وتكثيف الروابط العلمية وتبادل الخبرات، وتنظيم المؤتمرات الدولية، بالتالي، إن عمل المملكة النشط في مجال الدعوة الإسلامية لم يتجاوز الشيخ الألباني، وبناءً على طلب الشيخ ابن باز، في عام 1976، ذهب الشيخ الألباني أولاً إلى مصر والمغرب، وفي شهر رمضان من نفس العام إلى بريطانيا، وتوقف في الطريق إلى المغرب مرة ثانية.
وفي الوقت نفسه، في النصف الثاني من السبعينيات، تدهور الوضع السياسي الداخلي في سوريا مجدداً، حيث أصبحت البلادغارقة في الفساد، وفشلت الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، واشتدت اضطهاد أجهزة أمن الدولة للمعارضة، ونتيجة لذلك، وعلى خلفية غزو لبنان المجاور، حيث بدأت الحرب الأهلية، اندلعت سلسلة من الانتفاضات المسلحة في سوريا في عام 1976، على يد أعضاء في تنظيم الإخوان المسلمين، الذي تم حظره في عام 1964، ما أدى إلى حملة قمع واسعة في البلاد، بما في ذلك الشخصيات الدينية،ولم تنج هذه العملية من الشيخ الألباني الذي كانت حياته مهددة.
الهجرة الأولى إلى الأردن
بعد لقائه بالشيخ أحمد السالك الشنقيطي عام 1967، كان الشيخ الألباني يسافر شهرياً إلى الأردن، حيث ألقى محاضرات وأجرى أبحاثاً في مكتبة الشيخ، ثم قرر الشيخ الاستقرار نهائياً في الأردن، خاصة بعد حملة القمع الأخيرة في سوريا، وفي يوليو 1980، انتقل الشيخ مع عائلته إلى عمان، وبعد ما يقارب العام والانتهاء من بناء السكن وما إلى هنالك، الأمر الذي استغرق كل طاقات الشيخ، حيث طلب منه الإخوة استئناف دروسه، بحلول ذلك الوقت، كان الشيخ يبلغ من العمر 67 عاماً وأراد أن يكرس بقية حياته للبحث العلمي وتنفيذ العديد من مشاريع الحديث، لكن طلبات الإخوة كانت ملحة، وفي النهاية وافق الشيخ على إعطاءهم دروساًيوم الخميس بعد صلاة المغرب في منزل الشيخ أحمد عطية الذي يسكن في مكان قريب، وقد أعطى هذا القرار السلطات الأردنية سبباً لطرد الشيخ من البلاد.
وبعد عام من توطينه لأول مرة في الأردن، أُعلن أن الشيخ الألباني شخص غير مرغوب فيه وتم طرده على الفور من البلاد، ثم بدأت إحدى الفترات الأكثر دراماتيكية في حياة الشيخ، الذي فقد منزله وأصبح متجولاً، وفي الفترة من أغسطس 1981 إلى فبراير 1982، اضطر الشيخ إلى تغيير ستة بلدان، والانتقال من مكان إلى آخر، حيث مُنع من دخول العديد من الدول العربية، ورفض الانتقال إلى دول غير إسلامية/ وفي أغسطس 1981، طُرد من الأردن إلى سوريا، ومنها هرب إلى لبنان بسبب تهديد بالقتل، وأقام في بيروت ثلاثة أشهر، وفي نوفمبر 1981، انتقل إلى الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عاش لمدة شهرين في منزل أحد طلابه، وفي يناير 1982، وصل الشيخ إلى الدوحة فب قطر، حيث مكث في أحد الفنادق لمدة شهر، وبعد ذلك في فبراير جاء إلى الكويت لمدة 10 أيام، ثم عاد بعد ذلك إلى الشارقة، وعندها فقط، وبناءً على طلب الشيخ محمد الشكر من ملك الأردن الحسين، تمكن الشيخ الألباني من العودة إلى عمان، حيث عاش حتى نهاية حياته.
إلى جانب العلم والجولات والتدريس والتحصيل العلمي، هناك جوانب مؤلمة يعيشها أي شخص، والشيه الألباني ليس استثناءً، فقد واجه الشيخ الألباني محاكمات عديدة، ومن بين أمور أخرى، اختبره الله بفقد أحبائه، وخلال حياته ماتت زوجته الأولى والمحبوبة، والعديد من الأطفال القصر، والوالدين، والأخ الأكبر، بالإضافة إلى ذلك، فقد اختبر مرارة الطلاق مرتين، عندما رفضت الأولى ثم الزوجة الأخرى أن تشاركه مشقات التيه والسفر والترحال، بالإضافة إلى ذلك، أثر البحث العلمي النشط للشيخ أيضاً على حياته العائلية،وفي الوقت نفسه، كان يتحمل التجارب بصبر وحاول تجسيد السنة في كل شيء، وجهوده نموذج يحتذى به والتقليد.
وبالعودة إلى الأردن، وجد الشيخ البالغ من العمر 68 عاماً ملجأه الأخير في هذا البلد، ووفقاً لزوجته، فقد وضع الروتين اليومي التالي، كان الشيخ يستيقظ مقدما لأداء صلاة الفجر ويوقظ تلاميذه عبر الهاتف، ثم، وهو يتمتع بالقوة البدنية، كان يذهب بالسيارة إلى صلاة الصبح، ويصطحب الطلاب إلى منازلهم أو يلتقطهم على طول الطريق في مكان معين، وأدوا صلاة الفجر في المسجد حيث حاول الإمام الالتزام بالسنة والابتعاد عن البدع الدينية، وكان الشيخ إذا لم يكن لديه درس مع طلابه بعد صلاة الفجر، يعود إلى بيته ويجلس في مكتبته يبحث في الحديث، واستمر ذلك حتى السابعة صباحاً، وكثيراً ما كان يرفض العشاء، وإذا كان له زيارات خطط لها في الفترة ما بين صلاة المغرب والعشاء إذا سمحت الظروف بذلك، وبعد صلاة الليل، خصص وقتا للفتوى، والإجابة على الأسئلة هاتفياً، وكثيراً ما كان يجلس في مكتبته ليلاً، وبحسب نجل الشيخ عبد اللطيف فإن والده كان ينام أربع ساعات في اليوم: ساعتين في النهار وساعتين في الليل، كلما أمكن ذلك، ومع ذلك، حتى في الإجازة لم ينفصل عن كتبه، فقد كانت الكتب رفيقة الشيخ الدائمة حتى في أحلامه.
ولم يسافر الشيخ عملياً خلال هذه السنوات خارج الأردن، باستثناء رحلات الحج والعمرة، حيث كان يركز بشكل كامل على العمل البحثي، محاولاً إكمال العديد من المشاريع العلمية، وبسبب جدول أعماله المزدحم ورغبته في تجنب إغراء الشهرة، رفض الشيخ طلبات المشاركة في المؤتمرات والندوات الدولية.
التراث العلمي للشيخ الألباني
إن مساهمة الشيخ الألباني في علم الحديث وإنجازاته الهائلة في هذا المجال قد شهد عليها العديد من علماء المسلمين في الماضي والحاضر، مع الإشارة مجدداً، وهي أننا ننقل ما قيل عنه وفق رؤيتنا، لكن هذا لا يعني أن نتفق معه في بعض المسائل أو أغلبها وبالعكس، أما التراث العلمي للشيخ الألباني فهو كبير جداً حيثألف خلال حياته نحو 200 كتاب ومقال، ويقال إنه تحقق من صحة الأحاديث الواردة في 78 كتاباً عن الإسلام، كتبها كبار علماء الإسلام، ويبلغ عدد الفتاوى التي أصدرها الشيخ نحو 30 مجلداًمكتوباً، بالإضافة إلى ذلك، تم تسجيل أكثر من 5 آلاف محاضرة للشيخ على أشرطة صوتية، والتي كنت أشرت في الجزء الأول إلى أنني أملك في مكتبتي بعضاً منها.
قام الشيخ الألباني بتربية وتعليم العديد من الطلاب الذين أصبحوا اليوم مشهورين في جميع أنحاء العالم، أما بالنسبة للدعوة إلى الله فقد اختلف منهج الشيخ في بعض النواحي، باختصار يمكن اختصاره في النقاط التالية:
أولاً، الرجوع إلى الكتاب والسنة الصحيحة على ما فهمه السلف الصالح من السلف الأول للمسلمين؛
ثانياً، الدعوة إلى التوحيد الحقيقي الخالص، والنفور من جميع أنواع الشرك والكفر؛
ثالثاً، مكافحة البدع الدينية والتحذير منها؛
رابعاً، إحياء البحث العلمي والتربوي الإسلامي في ضوء الكتاب والسنة، ورفض التمسك الأعمى بالمذاهب والتعصب للأحزاب والجماعات؛
خامساً، تنقية الإيمان والتعليم.
وتقديراً لخدمات الشيخ حصل على جائزة الملك فيصل العالمية للبحوث الإسلامية عام 1419هـ “لجهوده العلمية في العناية بحديث النبي صلى الله عليه وآله سلم بحثاً وتحقيقاً والتدريس”.
وهناك نقطة جديرة بالاحترام يجب الوقوف عندها، فعلى الرغم من كيد المكائد للشيخ الألباني وطرده من التعليم في المملكة العربية السعودية، في بداية مسيرته التعليمية وعودته لاحقاً وتنقلاته وما واجهه من مصاعب، إلا أنه في وصيته طلباً مفعماً بروح الإسلام، ومما جاء في وصية الشيخ: “أترك مكتبتي بأكملها – سواء كانت كتباً منشورة أو نسخاً أو مخطوطات منسوخة بنفسي أو بغيري – إلى مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والسبب في ذلك أن لي أجمل الذكريات المرتبطة بهذه المؤسسة فيما يتعلق بالدعوة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح عندما عملت هناك مدرساً، وأرجو من الله أن يستفيد منه الباحثون كما استفاد أستاذه وطلابه في تلك الأيام الجميلة، وأرجو أن ينفعني هذا حتى بعد الموتلصدقهم ودعوتهم إلى الله.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.