إن اختياري لشخصيات قديمة أو معاصرة نوعاً ما، ليس من قبيل المصادفة، بل نتيجة قراءة التراث باستمرار، وسبر أغوار هذا العالم وذاك الشيخ أو السياسي والقانوني وغيرهم، ما يدفعني حباً بتراث أمتي إلى إحياء ذكراهم بذكرهم ببعض السطور علّ الجميع ينتبه إلى عظمة ما أنجبت هذه الأمة وما تركت لنا من موروث ضخم نحتاج إلى حياة فوق هذه الحياة لننهل من الزاد المعرفي والعلمي والعلوم الشرعية وغيرها التي تركوها لنا.
من هذه المقدمة البسيطة محور شخصيتنا اليوم، شخصية ناضلت ودرست وحفظت القرآن الكريم وسًجنت وتكرّمت، “بديع الزمان نورس”، لقد كان الملا سعيد، الذي ارتدى زي الدراويش وانطلق في طرقات بغداد، وسعيد الكردي، أحد الشخصيات البارزة في الهوية الكردية خلال تلك الفترة، “السيد” في نظر البعض، و”الرجعي” في نظر آخرين، بديع الزمان، الملا سعيد، سعيد الكردي، “السيد” أو المعروف باسم سعيد النورسي، محور حديثنا في هذا المقال.
بديع الزمان في زمانه، هو سيرة ذاتية مقارنة ونقدية لواحدة من أكثر الشخصيات الأيقونية إثارة للجدل في التاريخ العثماني التركي الحديث، منذ ولادة سعيد النورسي إلى سنوات ماردين؛ إسقاط شامل لحياته من بدليس إلى فان وأفيون وبارلا ودنيزلي وأنقرة وإسطنبول، وهو في الوقت نفسه كتاب يتتبع آثار “المنتسبين”، أي أتباعه، والفصل بين سعيد القديم والجديد، وفكر سعيد النورسي وحركته، و”تصريحه” الشهير الذي دعا فيه أعضاء البرلمان للصلاة، وموقفه من عملية 31 مارس، وموقفه من الحزب الديمقراطي..
ولد بديع الزمان سعيد النورسي عام 1878 في نورس، وهي قرية جبلية تابعة لمنطقة هيزان في بدليس، كان والده “صوفي” ميرزا أحد دراويش السيد صبغت الله الأرفاسي (توفي عام 1871)، تلقى النورسي تعليمه الابتدائي على يد أخيه الأكبر الملا عبد الله، ثم بدأ الدراسة في مدرسة بقرية تاغ، نورسي، مذاك أظهر أنه يتمتع بشخصية مستقلة في سن مبكرة، ليذهب لاحقاً إلى نورشين ويتلقى دروساً قصيرة المدى في المدارس هناك.
في مرحلة ما، لم يكن التعليم الديني مناسباً لطبيعته وعاد إلى قريته، ثم واصل تعليمه في المدارس في نورسين وهيزان، في ذلك الوقت، تلقى أطول تعليم مستمر (3 أشهر) على يد الشيخ محمد جلالي في بايزيد، إحدى مناطق محافظة أرضروم، هنا، عندما كان عمره 10 سنوات فقط، حصل على إجازة مدرسة من معلمه.
وبعد مغادرته بايزيد، زار مدارس أخرى في الشرق وبدأ في زيادة معرفته والانخراط في مناظرات علمية مع الملالي الآخرين على الرغم من صغر سنه، عندما كان عمره 11 عاماً، أطلق عليه الملا فتح الله، أحد علماء سيرت المشهورين، لقب بديع الزمان، لقد كان النورسيمشهوراً في المنطقة سابقاً باسم الملا سعيد، ثم أصبح يُعرف الآن باسم بديع الزمان حتى نهاية حياته.
أتيحت للنورسي، الذي ذهب من سيرت إلى ماردين، فرصة التعرف على أفكار جمال الدين الأفغاني (1897)، خاصة فيما يتعلق بالوحدة الإسلامية، ومن خلال أحد طلابه، النورسي، الذي أصبح مهتماً بالسياسة أثناء وجوده في ماردين، حيث طُرد من حدود المحافظة نتيجة مشاجرة مع المحافظ.
وبدعوة من والي بدليس عمر باشا، أقام النورسي في قصره لمدة عامين تقريباً، وبفضل إقامته في قصور عمر باشا ثم ولاة وان وحسن وطاهر باشا، أتيحت له الفرصة لمتابعة الصحف القادمة من إسطنبول والاطلاع على مجموعة واسعة من الأعمال حول الفكر الغربي في مكتباتهم.
وبينما كان في قصر طاهر باشا، أطلعه الباشا ذات يوم على مقال قرأه في الجريدة، ورد في الأخبار خطاب لوزير المستعمرات البريطاني ويليام إيوارت جلادستون (توفي عام 1898)، وقال جلادستون، الذي اعتلى المنصة والقرآن الكريم في يده: “طالما أن هذا القرآن في أيدي المسلمين، فلا يمكننا السيطرة عليهم، “علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لإسكات هذا القرآن وحذفه أو تنفير المسلمين منه”.
وهذا الحدث، الذي يوضح أن السياسة الغربية قد تجاوزت الآن مجرد الاستعمار وتدخلت بشكل مباشر في مجال العقيدة في الإسلام، يشكل نقطة تحول في حياة النورسي، وعند هذا الخبر قال النورسي: “سأعلن للعالم أن القرآن معجزة كالشمس الخالدة التي لا تنطفئ”، وكرس حياته التالية لذلك.
فكان هذا الحدث الدافعة لأن يبتكر النورسي مشروعاً جامعياً يتم فيه تدريس العلوم والعلوم الدينية معاً ويكون التعليم بثلاث لغات: التركية والعربية والكردية، وحدد اسم هذه الجامعة باسم جامعةالزهراء، بهدف أن تصبح ثاني أزهر في العالم الإسلامي وتزدهر المناطق الشرقية بالعلم، ومن أجل هذا المشروع، ذهب في عام 1907 إلى إسطنبول للقاء السلطان عبد الحميد برسالة توصية من والي فان طاهر باشا، ومع ذلك، حاول نورسي، الذي لم يتمكن من اجتياز مكتب كاتب المبين، إعادته بمنصب وراتب جيد، ولكن عندما لم يقبل ذلك، تم إرساله إلى ملجأ توبتاشي، هذه المرة أُلقي في السجن بعد أن قال الطبيب هناك: “إذا كان هذا الرجل له خطيئة، فلا يوجد شخص ذكي في العالم”، وبعد وقت قصير من إطلاق سراحه، في 23 يوليو 1908، خلال الحرب العالمية الثانية، تم إعلانالملكية الدستورية، النورسي، الذي رحب بالملكية الدستورية، تحدث للشعب عن الحرية في التجمع الذي أقيم في منطقة السلطان أحمد في اليوم الثالث لإعلان الملكية الدستورية، وكرر هذا الخطاب، الذي نُشر لاحقاً تحت عنوان “الخطاب إلى حريت” في سالونيك بعد بضعة ايام.
كان منخرطاً في حياة سياسية واجتماعية نشطة خلال فترة وجوده في إسطنبول، حيث ألقى خطابات في كل بيئة وكتب مقالات للصحف من أجل تحريض الناس، وخاصة الأكراد، على الملكية الدستورية، كما تحدث مع الجميع، مع الحمالين والجنود الأكراد ويدعوهم إلى الاعتدال، وأرسل برقيات مؤيدة للدستورية إلى العشائر الكردية في الشرق، لكن رغم كل هذه الجهود، تمت محاكمته أمام المحكمة العرفية بتهمة تورطه المزعوم في ثورة 31 مارس، وعاد إلى فان بعد تبرئته، وعلى الرغم من انتقاده لبعض سياسات إدارة الاتحاد والترقي التي ظهرت خلال هذه العملية، إلا أنه استمر في توعية القبائل لصالح الدستورية في الشرق، وقام فيما بعد بتجميع هذه الخطب في كتاب بعنوان “المناظرات”، على الرغم من أنه عمل في البداية مع لجنة الاتحاد والترقي، إلا أنه انفصل لاحقاً عن الحزب عندما أنشأ الحزب نظاماً دكتاتورياًجديداً، وفي هذا الصدد قال النورسي: “لم أترك مسيرتي على طريق الحرية والدستورية، بل هم فعلوا”.
النورسي، الذي سافر حول المناطق الشرقية خلال هذه الفترة، ذهب أيضاً إلى دمشق عام 1911 والتقى بالعلماء هناك، وألقى خطبة في الجامع الأموي حيث يجتمع جميع علماء المنطقة، وجدير بالذكر أنه تمت ترجمة هذه الخطبة الطويلة إلى اللغة التركية ونشرها بعد سنوات عديدة.
طلب النورسي، الذي شارك بعد ذلك في رحلة إلى روميليا بدعوة من السلطان رشاد، من السلطان رشاد (1909-1918) التخصيص المخصص لمشروع جامعة سكوبيه، الذي فشل مع بداية حروب البلقان، لمدرسة ميدريسيتوزيهرا، حيث تم قبول عرضه وتم وضع أسس الجامعة في فان عام 1913، ومع ذلك، هذه المرة، مع بداية الحرب العالمية الأولى وقتال النورسي ضد الروس والأرمن على جبهة أرضروم – باسينلر مع فوج الميليشيا الذي أسسه مع طلابه، فشل مشروعه مرة أخرى.
النورسي، الذي أسره الروس أثناء الدفاع عن بيتليس، احتُجز في كوستروما في سيبيريا لمدة عامين ونصف تقريباً، لكن ذلك لم يشكل عذراً له، فقد استغل الثورة البلشفية كفرصة، وهرب من الأسر في أوائل عام 1918 وجاء إلى إسطنبول عبر بولندا والنمسا وألمانيا، وقد لاقى النورسي، الذي كان يحظى بإعجاب كبير في إسطنبول، اهتماماً خاصاً من أنور باشا، وتم تعيينه عضواً يمثل الجيش في دار الحكمة الإسلامية المنشأة حديثاً من أجل البحث عن حلول للمشاكل العامة للبلاد.
النورسي، الذي بقي في هذا المنصب لمدة عامين، نشر إعلاناً ضد البريطانيين بعد احتلال البريطانيين لإسطنبول عام 1920، وكتب مقالات كثيرة وعرّف هذا النضال بالجهاد.
وبسبب كفاحه في إسطنبول، تمت دعوته بإصرار إلى الجمعية الوطنية المنشأة حديثاً في أنقرة، لكن خلال تواجده في أنقرة رأىأن هناك لامبالاة بالدين في البرلمان، مع الثقة بالنجاحات ضد الجيش اليوناني، وكتب كتيبين موجهين إلى النواب ضد مخاطر الاعتقاد الكامن وراء ذلك، وأول هذه الرسائل يتعلق بالصلاة، أما الإعلان الثاني الذي نشره خلال إقامته في أنقرة فهو “زيلوز زيل”، والذي سُمي فيما بعد “رسالة الطبيعة”، ضد الأفكار المادية.
ورغم تواجده في أنقرة لكنه ظل غير قادر على العثور على ما كان يتوقعه في أنقرة، لذلك قرر النورسي العودة إلى فان عن طريق ركوب القطار الذي “يأخذ سعيد القديم إلى سعيد الجديد”، لكن سرعان ما رفض عرض الشيخ سعيد (ت 1925) ومحاولته ثنيه عن التمرد، إلا أنه ارتبط بتمرد الشيخ سعيد وتم نقله من وان ونفي إلى بوردور (1926)، وهكذا بدأت حياته في المنفى والسجن والتي استمرت حتى الخمسينيات، من بوردور، بارلا (إجيردير)، إسكي شهير، إسبرطة، كاستامونو، دنيزلي، أفيون، أميرداغ هي المدن التي تم نفيه أو اعتقاله فيها.
خلال هذه الفترة كان النورسي، الذي كان بعيداً تماماً عن السياسة ومهتماً فقط بخدمة الدين والقرآن، تولى مهمة جمع ونشر رسائل النور، التي كان يراها الثمرة الأخيرة لحياته العلمية، وبما أنه كان ممنوعاً طباعة الكتب بالحروف العربية، فقد انتشرت رسائله في جميع أنحاء الأناضول، وتم نسخها من يد إلى يد، من خلال دائرة من طلابه، وفي الفترة التالية، تمت طباعة هذه الرسائل وتوزيعها ليس فقط بالأحرف العربية، ولكن أيضاً بالأحرف اللاتينية في دور الطباعة، وبعد وفاة النورسي، استمرت هذه الشبكات الاجتماعية في التطور واتخذت أشكالاً مجتمعية مختلفة مع مرور الوقت، في حين أن ادعاءات خلافة سعيد النورسي وعملية تكوين المجتمع شكلت ضماناً من حيث الحفاظ على الرسائل ونشرها في الأيام الأولى، إلا أنها في الفترة اللاحقة، خاصة مع تأثير التحول السياسي في تركيا، يجب أن يُنظر إلى رسائل النور على أنها كتاب المجتمع وتحد من جمهور المرسل إليه.
وعلى الرغم من أنه كان مرتاحاً نسبياً عندما وصل الحزب الديمقراطي إلى السلطة عام 1950، إلا أن النورسي لم يبتعد عن التحقيقات القضائية ومحاولات التسميم خلال هذه الفترة، بعد أن تمت تبرئته مراراً وتكراراً من الدعاوى القضائية المرفوعة ضده، حيث أتيحت له الفرصة للتصرف بحرية أكبر قليلاً بعد عام 1953،خلال هذه الفترة، زار طلاب رسالة النور في مناطق مختلفة من الأناضول وأعطاهم الدروس، في عمر 82 عاماً، شعر النورسي أنه يعيش الأيام الأخيرة من حياته وطلب من طلابه أن يأخذوه إلى أورفا مع الرغبة في تسليم روحه في أورفا، توفي بعد يومين من وصولهم إلى المدينة، في 23 مارس 1960، في فندق إيبك بالاس،ودفن في قبر أعد في باحة مسجد خليل الرحمن، ومع ذلك، بعد انقلاب 27 مايو 1960، ربما كانت إدارة المجلس العسكري خائفة من التحول إلى مركز رمزي للنقد، وخشيت حتى من وفاة بديع الزمان، فقامت بنقل جثته سراً ذات ليلة ودفنته في مكان مجهول.
بديع الزمان عالم إسلامي تلقى تعليمه في المدارس الشرقية في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية، وعلى الرغم من وجود بعض الانتقادات للتعليم الديني في ذلك الوقت، أكمل تعليمه المدرسي في سن مبكرة جدًا وبدأ يفكر في تحسين التعليم الديني. ويتصور مشروعه الذي صممه في هذا السياق، مؤسسة تعليمية تخدم السلام والازدهار على المدى الطويل في المنطقة، أي الجغرافيا الكردية، بالمعنى الاجتماعي، ولن تتخلف عن الأزهر في من حيث التعليم العلمي، في التعليم التقليدي، وسوف توفر أيضاً كافةالعلوم، ولهذه الأغراض، فهو بنى مشروعه بثلاث لغات كما أسلفنا،ويصوغها على النحو التالي: “العربية فرض، والتركية واجب، والكردية مسموحة”، وبهذه الطريقة عزز النورسي روابط الجغرافيا الكردية مع إسطنبول، التي كانت خلافة في ذلك الوقت، ومن ناحية أخرى، ستساهم في وحدة الأمة من خلال تربية الطلاب من الدول العربية، لكن فشل هذا المشروع أولاً بسبب الصعوبات الاقتصادية التي جلبتها الحرب العالمية الأولى، ثم بسبب التغيرات التي أدخلها النظام الكمالي في السياسات الكردية والإسلامية.
بديع الزمان، الذي كانت مشكلته الكبرى في بداية حياته هي تخلف المسلمين، جمع أسباب ذلك تحت ثلاثة عناوين رئيسية: الجهل، والضرورة، والصراع، وبعبارة أخرى، نقص التعليم والفقر و”الحرمان من طريقة التفكير التعددية”، وبالطبع ليس بديع الزمان وحده في هذه النقطة التي يهمه، فهذه هي المشكلة الأكبر التي شغلت أذهان الكثير من المثقفين المعاصرين مثل محمد عاكف وغيره من الإسلاميين: “لماذا تخلف المسلمون؟”
على وجه الخصوص، أدى المناخ الذي واجهه في البرلمان في أنقرة عام 1922 إلى تسريع عملية التحول التي كانت قد بدأت بالفعل قبل بضع سنوات في الأسر السيبيري، وكان بديع الزمان يعتقد أن هذه المشكلة لا يمكن التغلب عليها بالنضال السياسي، وأنه بدلاً من الدولة والمجتمع لقد ركز على إعادة بناء الفرد المسلم، خاصة القادمين من الغرب، وهو مقتنع بأن تعزيز عقيدة المسلمين الذين تضررت وجهات نظرهم ومعتقداتهم الإسلامية التقليدية بسبب الحركات الفلسفية هو “القضية” ذات الأولوية القصوى.
ورغم أنه لا يوجد فرق بين هذا القول الجديد والقائل القديم من حيث النية، إلا أن هناك اختلافات في العرض وتأجيل الأساليب والأولويات، فكرة “إظهار إعجاز القرآن” التي وضعها في ذهنه وهو في العشرينات من عمره في قصر طاهر باشا، سوف تتجلى في يني سعيد مع مجموعة رسائل النور، وهي عبارة عن تفسير مختلف مكتوب بطريقة جديدة، بديع الزمان، الذي قطع كل علاقاته بالسياسة خلال فترة سعيد الجديدة، سيكرس حياته لشرح حقائق الإيمان وكتابة الرسائل ونشرها.
تهدف رسائل النور هذه، التي كرّس النورسي حياته لها في هذه الفترة، إلى تقديم العناصر الأساسية للمعرفة الإسلامية إلى الأشخاص الذين هم المخاطبون للسياسة الجديدة، بشكل مباشر وفي جوهرها، باستخدام لغة تؤكد على معقولية السياسة الجديدة،الدين، في فترة لم تعد فيها السياسة تحمي الهياكل التقليدية، بل تدمرها، وهو يحاول في هذا الصدد تبسيط موضوعات التفسير الكلاسيكي والكلام والتصوف دون المساس بعمقها، ولكن من خلال تخفيف المصطلحات العلمية.
ويقول بديع الزمان الذي استفاد من الفكر الإسلامي والتقاليد العلمية قبله إلى أقصى حد، إنه وجد من القرآن طريقة تمكن أهل هذا العصر من اكتساب الإيمان التأملي القريب اليقين في وقت قصير. . بديع الزمان الذي صاغ هذه المهنة على أنها “مهنة العجز والفقر والرحمة والتأمل”، يرى العبد على المستوى العمودي، يعلم عجزه وفقره أمام ربه، وعلى المستوى الأفقي، فيعامل جميع المخلوقات بالرحمة، وبظهور اسم الرحيم، وبمراجعة قرآن الله تعالى، فإنه يعبر عن أن أهل هذا القرن، الذين تغشى عقولهم مجموعة واسعة من التيارات الفكرية/الحركية والأيديولوجيات، يمكنهم أن يكتسبوا إيماناً لا يتزعزع في وقت قصير، بتحقيق التفكر الذي أمر به مراراً وتكراراً في اللحظة الحكيمة، والتنعم بالاسم الحكيم.
وعلى الرغم من أنه استفاد من المرشدين الصوفيين الذين سبقوه، مثل الإمام الرباني (ت 1624) وعبد القادر الجيلاني (ت 1165)، إلا أن بديع الزمان يضع نفسه في مكان مختلف عن الصوفية بقوله: “أنا لست شيخاً صوفي أنا معلم.” يحاول بديع الزمان، الذي يعبر بوضوح عن وجهة نظره الإيجابية حول الصوفية في أطروحته المستقلة عن الصوفية، تلفيهة تيسا، أن يوضح أن السفر مع الصوفية يمكن أن يكون صعباً وشاقاً وخطيراً للغاية في هذا الوقت، كما أن حقيقة أن الأدلة المثالية حقاً نادرة في هذا الوقت يجب أن يكون لها أيضاً دور في هذا الفكر.
يقول بديع الزمان: “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”، وينصح طلابه بذلك، للتحسين، بشكل أساسي من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى؛ ويذكر أن هناك طريقتين يسميهما “المقبض” و”النور”، ويؤكد مراراً وتكراراً أنه لا يستطيع التعامل إلا مع الطريقة الخفيفة، أي بناء الفرد المسلم، بالنسبة إلى بديع الزمان، ليس من المعقول والمقبول أن يصل المسلمون إلى السلطة أولاً وأسلمة المجتمع من خلال السياسة، ويشير أيضاً إلى أن الدين يتفوق وجودياً على السياسة ولا ينبغي أبداً استخدامه كأداة للسياسة.
ولأنه رأى أن الحرية شرط لا غنى عنه من الإيمان على المستوى الوجودي وأن الشريعة تأمر بذلك، فقد انتقد السلطان عبد الحميد، الذي وصفه بـ “السلطان الحارس” بسبب تقواه الشخصية، كإداري، في العهد القديم.
وعندما ننتقل إلى العصر السعيد الجديد، نرى بديع الزمان الذي نأى بنفسه تماماً عن السياسة واتجه نحو الجهاد الروحي، مركزاًعلى بناء الفرد المسلم وخلاص عقيدته وآخرته.
فالعلم والعلمية، من القضايا المهمة في تلك الفترة، وهي ظاهرة ينبغي أن تخضع كذلك للدين؛ لأن الدين، من الناحية الوجودية والهرمية، فوق العلم، إن كلماته “نور الضمير هو نور المعرفة الدينية، ونور العقل هو نور الحضارة” التي قالها حتى في زمن سعيد القديم، تبين أن هذا التسلسل الهرمي كان ثابتاً في ذهنه منذ البداية، إن مفاهيم الضوء التي يستخدمها هنا تعبر عن ذلك بوضوح، ويرى بديع الزمان، الذي حاول أن يبني عقله بالقرآن ويفكر بمفاهيم القرآن، انطلاقاً من عبارة “التي تجعل الشمس مضيئة والقمر مضيئاً..” المذكورة في الآية الخامسة من سورة يونس، أن المصدر الحقيقي النور هو الدين والعلوم الدينية، وأن العلوم الفيزيائية كالقمر الذي يستقبل نوره من الشمس، فدل على أنهم يستمدون نورهم من العلوم الدينية، ومن المهم في هذا السياق أنه سمى أعماله رسائل النور وجعل القرآن نوراً ووصف رسائل النور بأنها عمل يستمد نوره منه.
وبمقارنة وحدة الوجود المنسوبة إلى ابن عربي (ت 1240) مع وحدة الوجود المنسوبة إلى الإمام الرباني، يقول بديع الزمان أنه على الرغم من اقترابه من وحدة الوجود، إلا أنها أيضاً بالمعنى الكامل،ويشير إلى أن هناك ليس التوحيد، وفي واقع الأمر، ذكر الإمام الرباني أيضاً أن وحدة الوعي، التي يراها خطوة يجب اجتيازها في رحلة السلوق، ليست النقطة النهائية، بل هي حالة عبادية يصل فيها المريد إلى الوعي وسيرى نفسه عبداً والله تعالى ربه، ويتحدث عن موقفه، ومن الممكن أن نصادف تعبيرات مماثلة عند علاء الدين السماني (ت 1336)، الذي يُعتبر رائد وحدة الوحدة، حيث يقول الإمام الرباني “نظرتنا هي وجهة نظره” في الوجود، بالتالي، هذا المنظور الرائع الذي يقدمه بديع الزمان لهذه القضية هو أنه يذكر أن وحدة الوجود هي في الواقع شكل مختلف من وحدة الوعي، ومن المفيد أيضاً أن نذكر هنا أنه على الرغم من أن بديع الزمان يختلف عن فكرة وحدة الوجود على أساس فكري، إلا أنه ليس لديه مشكلة مع وحدة الوجود كـ لذة وبهجة وحالة، بديع الزمان صاحب وجهة النظر تعددية، لا يكفر أحداً، ولا يكفر أهل وحدة الوجود قطعاً.
وذكر بديع الزمان، الذي يحاول البعض تقديمه على أنه محدث، أن باب الاجتهاد مفتوح، لكن هناك عوائق أمام “الدخول إليه في هذا الوقت”؛ ويؤكد أن الاجتهاد لا يمكن أن يتم في ظل ضرورة الدين، خاصة في أجواء اجتاحتها الحضارة الغربية، ومن المهم أيضاً أنه أضاف إضافة في فضل الصحابة إلى الكلمة السابعة والعشرين التي خصصها لمسألة الاجتهاد بشكل مستقل.
بالتالي، طويت صفحة بديع الزمان النورسي جسداً، لكن تعاليمه وأفكاره الفلسفية الشرعية الصوفية وإن لم تكن واضحة ونقدها في بعض الأحيان، بقيت محفورة في أذهان طلابه وكتاباته، الأجدر بنا أن نضيف صفة إلى صفاته الكثيرة فإلى جانب سعيد القديم والجديد والحديث لقد كان متمرداً عمل كل ما يريد بناءً على قناعاته التي اكتسبها خلال الحياة وهذا مجهود تُرفع له القبعة، فرغم الضغوط لم يتوانَ عن خدمة الأمة الإسلامية انطلاقاً من تركيا فكما رأى في الأزهر الشريف جامعة متكاملة كان يتوق إلى استنساخ الفكرة، لكن كما في كل زمان، لكل مشروع أعداء، وأعداء الإسلام كثر، ولعل ما نشهده اليوم في غزة خير دليل على هذا، انتقل العمل ضد الإسلام من السر إلى العلن فما يحدث اليوم هو حرب دينية بامتياز ضد الإسلام والمسلمين، ونحتاج إلى عشرات مثل النورسي وأقرانه لنشكل صفاً منيعاً ضد من يحاربون الأمة الإسلامية، ربما لا نجد لكن لا بد من المحاولة وعدم اليأس أو الاستسلام.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.