بما أن سلامة الإنسان ونتائج أفعاله ترتبط ارتباطاً مباشراً بالطريقة التي يتبع بها هدى الله تبارك وتعالى، فإن النفس تتمتع بالقدرة على التعرف عليه والتمييز بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والنبلوالخسة، ولذلك فإن شرائع الصراط المستقيم التي أنزلها الله عز وجل لا تتعارض مع الفطرة الإنسانية، هذه الكلمة العربية مشتقة من الفعل فَطَرَ – “يخلق”، “ينفصل”، وهي تعني الحالة الطبيعية التي تكون عليها النفس عند مجيئها إلى هذا العالم.
في هذا الصدد هناك حديث نبوي يتحدث عن ذلك، قال أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “كل مولود يولد على فطرته، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه..” كما ورد عنالإمامين البخاري ومسلم، وهذا يعني أن الإنسان يولد طاهراً، خالياً من الأفكار الشريرة، ومستعداً لمعرفة الله وعبادة الله، لكن طبيعته تتغير عندما يتبنى طريقة تفكير خاطئة، ولو لم يتأثر بالأحكام المسبقة والتصورات النمطية، لما منعه شيء من قبول الحق بعد ظهوره له.
بالتالي، إن الفطرة السليمة للإنسان تعترف بأن لا أحد يستحق العبادة والتأليه إلا الله تبارك وتعالى، ووجوب بر الوالدين وشكرهما، وحسن علاقات الأقارب من خلال عدم قطع صلة الرحم، وحسن معاملة الجيران، ورعاية الضعفاء والمحتاجين، ومودة الضيافة وحسن الضيافة، وصدق الأمور، وعدم الخيانة والحفاظ على الأمانة، واجتناب الظلم والمجون، وعدم القتل والسرقة والزنى، والحث المستمر على فعل الخير، والحفاظ على النظام، والإنهاء عن المنكر ومعاقبة المجرمين، والحفاظ على نظافة البدن والملابس، وغير ذلك.
هذا ما ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه المبارك منذ زمن الأنبياء الأوائل، وقال تبارك وتعالى في محكم كتابه العزيز: “واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا”، أي أن أوامر الله عز وجل لا تتغير، وهذه ركائز قوية يقوم عليها نظام عالمي مثالي وعادل، هذه إرشادات أخلاقية وروحية تمنع السالكين في نور الحق من الضياع، وتخاطب ضمير الذين انغمسوا في ظلمة الخطيئة، بفضلهم، يمكن للمؤمنين أن يشعروا داخلياً بمدى توافق عمل معين مع الخير أو الشر.
لكن الشيطان لا يكف عن محاولة تضليل الإنسان وحرمان قلبه من الطهارة النقية. فلما لعنه الله ونظر إليه قال: (رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين).
ومن خلال فرض كل شيء وضيع وغير طبيعي على الإنسان، يشلالشيطان طبيعته، يغرس فيه حب اللذة، حتى لا يشعر الإنسان بالفرح بفعل الخير، ويحرمه من الخجل، حتى لا يشعر بالندم بعد ارتكاب الفاحشة، يمكن تشويه الفطرة كثيراً لدرجة أن الشخص يتوقف عن اعتبار القتل والفجور الجنسي والجرائم الأخرى أمراًشريراً. ولكن الشيطان لا يستطيع أن يغير كلام الله الذي فيه الهدى والشفاء للمؤمنين، إنه فقط يزين الأكاذيب والأوهام، ويغطي الحقيقة بأقنعة من الأكاذيب، فإذا اخترقهم نور الحق، ومس قلوبهم، عرفوه، ومن اتبعه يشفي قلبه من الخلل والمرض الذي كان يأكله.
فالفطرة هي الحالة الطبيعية التي تكون عليها روح الإنسان عند ولادته في الدنيا، في هذه الحالة، وبفضل النعمة الإلهية، تكون قادرة على رؤية الحقيقة والشعور بها، كذلك العواطف والشكوك التي تسيطر على الروح تضعف هذه القدرة وتضعفها، وعلى العكس من ذلك، إذا ملأ الإنسان قلبه وطهره بكلمة الله، فإن روحه تقترب من حالة النقاء البكر، ويكتشف في نفسه الحاجة إلى عبادة الله والقيام بالأعمال الصالحة التي يرضاها، وعندما يفعل ما ليس من أفضل الأعمال يشعر بالندم والتوبة المريرة.
ومع ذلك، فإن القوة الدافعة لطبيعتنا تهدف في أغلب الأحيان إلىإشباع الرغبات الدنيئة، كما قال تعالى عن ذلك: “إن النفس تأمر بالسوء إلا ما رحم ربي” ولكي يتمكن الإنسان من التحكم في هذه الرغبات والاختيار بين الحق والخطأ، منح الله الروح قوة أخرى قوية هي العقل.
قال عز وجل: “إني جاعل في الأرض خليفة”، وكل شخص هو خليقة الله الفريدة، بالتالي، إن لوحة الإنسانية متنوعة، فهي لا تقتصر على الأسود والأبيض أو الألوان الأخرى، إذ أن عبادة الخالق تحتوي على الكثير من الألوان والظلال التي لا يمكننا حتى أن نتخيلها بخيالنا وهذا حد ذاته التفرد.
“يقول علم الوراثة أن الناس يصبحون على ما هم عليه بالضبط، وذلك بشكل أساسي نتيجة اندماج 23 كروموسوماً من الأب و 23 من كروموسومات الأم، تحتوي هذه الكروموسومات الـ 46 على كل ما ترثه من الأسلاف، كما يمكن أن يحتوي كل كروموسوم منعشرات إلى مئات الجينات، وأحياناً يمكن لجين واحد فقط أن يغير حياة الشخص بالكامل بشكل جذري، فالإنسان له وظيفة خاصة، وقدرات خاصة، وخصائص خصه بها الخالق، إن بناء الحياة وتطويرها تحت قيادته هو أكثر قيمة وأهمية، إذ يوجد في الإنسان الخير والشر، إن المواجهة بين هذين المبدأين، وكذلك المواجهة بين الإيمان والكفر، هي التي قادت وتقود الحضارة الإنسانية من مستوى إلى آخر؛ فالتنافس بين الأفراد والشعوب والدول والحضارات يقوي الشعوب ويكشف عن جوانب جديدة فيهم؛ كما أن استبدال الحروب (الأعمال العسكرية والصراعات وحروب المعلومات) بفترات سلمية إبداعية قد تحرك ويستمر في دفع العلوم والثقافة لتحقيق آفاق جديدة.
كم من ملايين السنين مضت، وما زال الإنسان في حالة من المعرفة الدؤوبة لعالمه الداخلي وبيئته الخارجية. بعض الاكتشافات يدحضها البعض الآخر، والعلم يثبت مرة أخرى أن الإنسان مخلوق معقد للغاية ولا يمكن أن يظهر بدون هدف.
بالتالي، حفز القرآن البحث في الطبيعة المادية الخارجية، وهي واحدة من المواقع الأربعة للعلامات الإلهية الطبيعة البشرية والتاريخ والمجتمع، لقد أثبت القرآن بالنسبة للمليارات من البشر أنه حافز لإثارة الفضول حول الموارد الإلهية للطبيعة البشرية وخاصة طبيعتنا الروحية – حيث يرشدنا إلى النظر إلى الداخل نحو واقعنا الوجودي، كما أن الإنسان هو ذروة الخلق من الناحية الأخلاقية: “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”.
وكلما تقدمت السنوات كلما خرج أشخاص يشككون بالقرآن وبالدين وبالله عز وجل، لا يؤمنون هم أحرار، لكن أن يعمموا نظرياتهم وهرطقاتهم فهذا لا أحد يقبل به، لقد أثبت الدين الإسلامي وبالأدلة القرآنية القاطعة بأن كل شيء من عند الله عز وجل، هذا العقل الذي خصني وخصك به لتطور نفسك ومجتمعك ومحيطك هو من عند الله، ليتوقف اللادينيون، ويسألون كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، ومن خلق الإنسان الأول، سيدنا آدم عليه السلام، ولن أزيد أو أطيل القائمة لأن هناك الكثير الكثير الكثير من الأدلة التي نملكها بين أيدينا، ففطرة الإنسان السليمة هي بالعودة إلى خالقه، فما من مخلوق تجبّر إلا وكانت نهايته وخيمة، وهذا ينطبق على ما يحدث في قطاع غزة، فكما اندثرت حضارات وأسقطت إمبراطوريات، فرعون ذاته رحل، وأنتم يا من تتجبرون عودوا إلى فطرتكم الإنسانية، عودوا إلى الخالق عز وجل، فالله تعالى هو سندنا وهو ما لدينا في هذه الحياة، فلو أراد أن يضعنا في مراتب أخرى لكنا على سبيل المثال وحوشاً ضارية تفتك ببعضها، ورغم ذلك المتجبرون اليوم هم وحوش تفتك بالإنسان وتعمل عمل الله تبارك الله وهذا قمة الفجور.
الفطرة السليمة أن تراعيني في الله وتحترمني وتحبني كما سأبادلك، أن تكون رحيماً رقيقاً عطوفاً وصلباً بالحق، فكلنا عيال الله وعباده المخلصين.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.