تثير الموسيقى بلا شك ارتباطات بثقافة المجتمعات من الصوفية، وفنون العرضة والربابة والسامري البدوية الموجودة في كل البوادي العربية والطبول، والآلات الموسيقية، إذ تعود جذور اللحن العربي إلى الموسيقى البدوية والآلات القبلية في فترة ما قبل الإسلام، والتي أكدت على الشعور بالانتماء للمجتمع بين أفراد القبيلة بينما تعكس في الوقت نفسه مشاعرهم والأحداث التي تحدث خلال حياتهم، وبعد الإسلام تجلى ذلك في أبهى صوره في ترتيل القرآن الكريم.
بالتالي، هنا يجب القول إن ما بين المعارض والمخالف لموضوع الموسيقى بحث آخر، وهنا لست في صدد تداول هذا الأمر، بل القصد التحدث عن الفطرة والطبيعة، فهل هناك من يحارب الفطرة لمجرد أنه مخالف لهذه المسألة أو تلك؟ فهذه خواطر وهي حصاد السنين بعد الاطلاع على حضارات الشعوب مها واقعاً ومنها اكتساباً وعلماً ومنها من فضاء المعلومات الواسع، فلكل مجتمع له ثقافته الدينية والفكرية والجغرافية، ومن خلال الجغرافيا ومحيط الأرض التي يسكن بها، تبدأ محاكاة الشعوب للموسيقى بطرقهم الخاصة عن طريق الأدوات التي تقدمها كل بيئة على حدى، بالتالي، تنشأ الفنون من حاجة الإنسان إلى الفرح والاستئناس، فهذا الموضوع له رواده ومحبيه، اتفقنا أم اختلفنا، وعلينا احترام الآخر وما يحب وما يرغب، فهذا الموضوع ليس ترفاً فكرياً بل عبارة عن ختام العام بمواضيع أقرب إلى القلب والوجدان علّنا نعود إلى الإنسانية الجميلة ونحب بعضنا البعض.
وخلال عصرهم الذهبي، طور موسيقيو البلاط نظريات موسيقية وأنظمة تدوين متطورة في الأندلس، ويمكن إرجاع التأثير الإسلامي على الموسيقى إلى الجذور المبكرة لهذا التقليد الموسيقي الغني والمتنوع وتطوره. أحد الجوانب المهمة التي لعبت دوراً رئيسياً في تشكيل المشهد الموسيقي هو ترتيل القرآن، الذي يعتمد بشكل كبير على المقامات، وكان العصر العباسي بمثابة نقطة تحول في تاريخ الموسيقى العربية، إيذاناً ببدء ما يعتبره الكثيرون العصر الذهبي، وكان دور موسيقيي البلاط وتطور نظرية الموسيقى المتقدمة جزءاً لا يتجزأ من هذا النسيج الموسيقي الغني، حيث قام موسيقيو البلاط بترفيه الخلفاء بمواهبهم الاستثنائية وقاموا أيضاً بتوسيع حدود نظرية الموسيقى، بالتالي، إن المزيج الديناميكي للألحان العربية التقليدية والمؤثرات الأخرى من أماكن بعيدة مثل بلاد فارس والهند وحتى إفريقيا سمح لهؤلاء الفنانين الموهوبين بتجربة أصوات وأساليب جديدة، وقد وفر هذا الإبداع أرضاً خصبة للأفراد الموهوبين مثل إسحاق الموصلي وأبو نصر الفارابي لتقديم مساهمات كبيرة لم تشكل التراث الثقافي للإمبراطورية الأموية فحسب، بل ترددت أيضاً على مر القرون.
أحد الجوانب الأكثر إثارة للاهتمام في الموسيقى العربية هو تفاعلها مع الحضارات المجاورة، مما أدى إلى تحولات موسيقية مذهلة، وتعد الموسيقى الأندلسية مثالاً رئيسياً على هذا المزيج الفريد، الذي نشأ في بلد الأندلس في القرن التاسع كمزيج من الأساليب الموسيقية المتنوعة، كما لعبت الدولة العثمانية دوراً مهماً في تطوير الموسيقى خلال العصر الكلاسيكي، وقد وفر العثمانيون ملجأ للعديد من الموسيقيين والفنانين، مما خلق بيئة مواتية للنمو والتطور الموسيقي.
من هنا، إن الكون ككل له جرسه ونغمه الخاص به، فكل ما يتعلق بالكون له صوته ونغمه الخاص، صوت المجرات، وصوت الشهب وأصوات الرعد والبرق والمطر، فكم من عاشق لصوت المطر، وكم من عاشق لصوت الرياح، وهدير البحر، وكم من شخص يخاف من صوت البرق والرعد والمطر الغزير؟
هذه الأصوات كلها موجودة في الطبيعة، وإن تحدثنا عن الموسيقى، من المعروف أن كل ثقافات الشعوب تُعرف عن طريق الموسيقى الخاصة بكل حضارة أو بلد منها، على مر التاريخ، من الحضارة الآشورية إلى البابلية والفينيقية والفارسية والعربية، ومن يستطيع التمييز يجد أن لكل منطقة وبلد نغمها الخاص، فالشعب الإفريقي على سبيل المثال، له نغمه الخاص تجدها برقصاتهم وفلكلورهم حتى في أحزانهم والترانيم الخاصة بهم، بما في ذلك بالكنائس، بالتالي، إن النغم أساساً هو ابن المجتمع والبيئة التي يولد فيها، وإن أرنا التبحر في هذا الموضوع فهو كبير وطويل جداً، سنحاول أن نأتي على الأهم فيه.
لكن لندخل مباشرةً إلى الموسيقى في العالم الإسلامي وموقف العلماء المسلمين منها، أما مسألة الحلال والحرام، هذا مبحث آخر، نتحدث عنه في مقالات أخرى إن شاء الله تعالى، لكن كقاعدة عامة إن قضية الموسيقى مختلَف فيها عند العلماء، وحالياً حتى من كان يحرّمها، رجع إلى أن القضية أصبحت مسألة عادية، على سبيل المثال، في المملكة العربية السعودية، العلماء الذين كانوا متشددين حول هذه المسألة، لكنهم الآن تركوا الموضوع، ما يعني أن مسألة الموسيقى مختلف عليها بين العلماء المسلمين.
بالعودة إلى الموسيقى وتحديداً كتاب إسلامي “الأغاني لأبي فرج الأصفهاني” أرّخ لنا الموسيقى في الإسلام وكانت الأغنية في ذاك الزمان كانت تسمى “الصوت”، فهي هذا الكتاب، ذكر بأن أول من أشار إلى زرياب وإلى ما تًعرف اليوم باسم النوتة الموسيقية، وحتى قبل زرياب، كان هناك مغنين في بغداد، فكان زرياب قيثارة الحضارة وصاحب الأنامل الذهبية، ” أبو الحسن علي بن نافع، ولد في حاضرة الدولة الإسلامية العباسية وعاصمتها بغداد عام 161 ه الموافق 777 م، لأسرة كردية فارسية”، الذي كان مطرب الخلفاء، ففي ذلك الوقت، كانت بغداد منارة للعلم والحضارة، وكانت تشع ازدهاراً وإبداعاً وفناً، وشهد البلاط العباسي تطوراً كبيراً على المستوى العلمي والفني والثقافي، أما أحد الخلفاء العباسيين الذي كان مهتماً بالعلوم عموماً، فكان يؤرخ كل شيء بما في ذلك الموسيقى، ولذلك خلّدت قصائد الشاعر بشار بن برد، وأبو النواس، والمعلقات التي كانت تُغنّى.
وعندما ذهب زرياب إلى بلاد الأندلس تطورت الأغنية إن جاز التعبير، وأصبح تًعرف بما يسمّى “الأندلسيات”، وجدير بالذكر أن الصوفية أيضاً لعبت دور في هذا الاتجاه وعملوا على تطويرها، ولديهم ابتهالات جميلة وأناشيد وحلقات، وذكر بنغم معين.
والنقطة الأجمل أن قرّاء القرآن الكريم مدرسة أخرى تسمى المدرسة النغمية، من بين أصحاب هذه المدرسة القارئ الشيخ علي محمود في مصر، مروراً بالدكتور طه الفنشي، والشيخ محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد، والشيخ المنشاوي والشيخ الحصري، وشعبان الصياد وغيرهم، كل هؤلاء العمالقة يقرأون بمقامات معينة “صبا، كرد، نهاوند إلخ”، ففي الآية التي فيها تبشير نجدهم يبشّرون، والآية التي فيها وعيد كانوا يقرأون بنغم معين.
بالتالي، الموسيقى جزء من حياتنا وثقافتنا.
بالعودة إلى زيارة زرياب إلى الأندلس، تطورت التواشيح ووصلت إلى حلب السورية، وأصبحت تُعرف بالقدود الحلبية التي آخر من أجادها وغنّاها المبدع الراحل صباح فخري، بالتالي إن القدود في أساسها كانت موشحات، لأن جزء منها كان خمريات والجزء الآخر كان صوفياً ويعتمد على الرمز بالغزل بطريقة معينة، وجزء منها ما كان روحانياً وله علاقة بالعشق الإلهي وما شابه ذلك، وحالياً هناك فرقة موجودة في بلاد المغرب العربي “فرقة ابن عربي” المهتمة بقصائد ابن عربي وقصائد الحلاج، تُغنى حالياً كما يحيون الفن الأندلسي، كما لدينا سيد النقشبندي الذي تأثر به كثيرون من أمثال بليغ حمدي الذي لحن لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ومولاي إني ببابك.. حكاية أغنية غناها الشيخ سيد النقشبندي ولحنها بليغ حمدي بأمر من الرئيس الأسبق الراحل أنور السادات، الأيقونة الرمضانية الجميلة، فكان اللحن رائع رغم بساطته، من مقام البياتي.
بالإضافة إلى ذلك، كان علماء أغلبهم على المذهب المالكي في الأندلس يكتبون في الموسيقى، بل أكثر من ذلك، من النادر جداً، أن تجد عالماً من علماء الأندلس لا يكتب في الموسيقى ويعالجونها، رغم أننا نعرف أنهم يكتبون في الفقه وتفسير القرآن والفلك والفيزياء والكيمياء، ويكفي الإمام أبو حامد الغزالي عندما سُئل عن الحلال والحرام في مسألة الموسيقى، قال: (من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج)، كما ان للإمام بن حزم الأندلسي له كلام حول الموسيقى فقد أباح الغناء، وهو من أشهر الفقهاء الذين أباحوا الغناء، لهذا فإنّ رأي ابن حزم في الغناء هو أنه مباح، وأشار بعدم تحريمه واعتباره حلالاً، وابن حزم كان شيخ الظاهرية.
وبعد أن وصلت الموشحات إلى حلب وشهرت بالقدود الحلبية، أيضاً وصلت إلى كردستان وتُغنى بطريقة معينة إلى أن تطورت إلى الموسيقى الشرقية لكنها في الأصل هي لون أندلسي ويغنون القصائد القديمة لأبي تمام والمتنبي وأبي فراس الحمداني.
أما الغناء فهذا موضوع آخر، والأصل فيها الأغاني الريفية لكل بلد، في بادية نجد أو في صنعاء أو في صعيد مصر، أما الأغاني الحالية الآن أغلب مطوريها (يهود)، ومن باب العلم، إن أصل الموسيقى وحرفيتها كانت في معابد اليهود، أما في بغداد لدينا الأخوين (صالح وداوود الكويتي) هم في الأصل يهوديان كانوا في الكويت وهاجروا إلى العراق وهما من طور الأغنية العراقية التي في الأساس هي من الأندلسيات.
وإلى جانب ذلك وذاك، كان هناك نغماً رائعاً وهو الموجود في الأذكار التي تُغنى على نغم الحضارمة في جنوب اليمن وتحديداً في مدينة تريم التي إلى الآن يقرأون فيها القصائد بطريقة معينة وكذلك الموالد النبوية بأسلوب النغم.
بالتالي وأكرر، إن الموسيقى جزء من حياتنا وثقافتنا وتكويننا ولها علاقة بالحضارة وتطوير الشعوب، وأيضاً ترقق الإنسان التي تنقله إلى عالم يكون سيده ويرسمه وحده في خياله بحسب الحالة التي يسمع بها ونوع الغناء وفكرته، حتى هنا في دولة الكويت على سبيل المثال، أهل البادية وكما يُقال رفقاً بالقوارير، عندما كان الحادي يسحب الجمال، لأن الجمل كان يهتز على صوت “الحادي”، وحتى الأطفال التي اعتادت على غناء والديها ولا يهدأ إلا بسماعه ذاك الصوت الذي يسكنه ويأخذه إلى النوم رغم عدم فهمه لأي كلام لكن الإحساس ينقله إلى السكينة والتي تترجم بنومه العميق.
فالكلمة تؤثر، صوتك وكذلك انفعلاتك، فعلم الأصوات هو أحد فروع علم اللسانيات يُعنى بالجهاز الصوتي ومخارج أصوات الكلام الإنساني وتبويبها، وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي أول عالم صوتيات عربي والقاموس الذي كتبه فيه أول تصنيف لأصوات اللغة العربية، بالتالي، لكل لغة نظامها الصوتي الخاص بها التي يمكن كتابة أصواتها بنظامها الكتابي أو بالألف بائية الصوتية الدولية الصوتية (IPA) التي تمّكن دارسي اللغات من نطق أصواتها أو التعرف عليها، كما نقلته بعض المواقع ذات الصلة.
وقد بدأت دراسة هذا العلم في القرن الخامس قبل الميلاد ولك أن تتخيل عزيزي القارئ، كم هو قديم هذا العلم ومُعتنى به أيّما عناية.
ومن الصوتيات إلى التعابير أيضاً، فالطفل يأمن ويعرف صوت أمه، حتى الحيوان الأليف يعرف صوت صاحبه ويخاف من أي صوت غريب، والطيور تلم بعضها في أسراب من خلال صوتها وتعابير طيرانها إن كانت مهاجرة أو خائفة.
وجدير بالذكر أنني أنصح بقراءة دراسة معاصرة تقع في مجلدين، تحت عنوان “الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام” للعلامة الشيخ عبدالله يوسف الجديع، حول الحلال والحرام في هذا الموضوع، وفي هذا الكتاب تأصيل علمي حول هذا الأمر، وكنت قد أهديته للصديق الفنان والمطرب نبيل شعيل، وأعتقد أن هذه الكتاب يجيب على كل الأسئلة للراغبين في التبحر في هذا الموضوع.
وعبدالله بن يوسف بن عيسى بن يعقوب اليعقوب الجديع العنزي داعية وفقيه ولد في العراق، يشغل منصب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث خلفاً للشيخ الراحل يوسف القرضاوي رحمه الله.
بالتالي، إن الموسيقى هي عنوان للشعوب وعنوان لهويتهم، بأي منطقة في العالم، ولا أتصور أن هناك مجتمع لا يوجد فيه موسيقى، كما لا أتصور أن هناك مجتمع متحضر لا يهوى الموسيقى، الموسيقى روح وجمال وحياة نابضة وهي عنوان للرقي، ومن منّا لا يُطرب حين سماع الناي ابن الشجر وحفيف أوراقها، ومن منّا لا يُطرب حين سماع مقطوعات بيتهوفن وموزارت وشوبان وغيرهم، والأوبرا الإيطالية ولنستذكر أندريا بوتشيلي الأعمى النظر، لكن ببصيرته ينقل إلينا أعذب الألحان وبصوت شجي ودافئ، وكذلك موسيقى ياني وغيرهم الكثير الكثير.
ولن أختم سوى بكلمتين، النغم.. هوية الشعوب.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.