بالأمس تحدثنا عن جماليات الموسيقى وكيف أنها هوية الشعوب وعنوان لكل الحضارات وسردنا تناغماً رائعاً نقلنا إلى عالم فطريّ بعيداً عن الإقصائية ومسألة الحلال والحرام التي كنت قد وضحتها بالأمس، لأن ما ذكرته مبني على أساس فطري لا طربي كما واقع موسيقى اليوم البعيد كلياً عما أقصده ولا أؤمن به حتى ولا أتقبله بصحيح العبارة.
فالموسيقى الراقية هي ثقافة متجذرة في قاموس الشعوب كما كل الاكتشافات الأخرى، فلا نقف عائقاً بين الحضارة والتخلف، وكل ما هو فطري هو جميل لأنه نقي وجميل وكله صفاء قبل أن يتدخل الإنسان ويخرب كل شيء مع شديد الأسف بما في ذلك الموسيقى.
فعندما تنظر في جماليات الموسيقى في أوروبا والهند والصين واليابان والعالم الإسلامي؛ يتم عرض الصورة الجمالية للعالم من عصور مختلفة، في أساطير الشعوب المختلفة، تخلق الآلهة الانسجام من الفوضى، من بين المصريين، آلهة ممفيس، راعي الفنون، نفسه عازف القيثارة، إله الحقيقة والعدالة؛ تحوت هو إله الحكمة والعد والكتابة وأوزوريس الذي جسد قوى الطبيعة المنتجة. كان إيهي، ابن إله النور حورس ذو الجناح الذهبي، يُقدس باعتباره إله الموسيقى، وفي الأساطير الصينية – الطاو ديميورج، الجد الأصفر/ هوانغدي ونيو وا، الذي أعطى الناس آلة موسيقية – شنغ،في التقليد الهندوسي، خالق العالم – براهما – هو خالق الموسيقى.
وفي التقليد الصيني القديم، العالم عبارة عن نظام موسيقي، تقول إحدى الأطروحات القديمة: “إن أصول الموسيقى تعود إلى الماضي البعيد، إنها تنشأ من القياس ولها جذورها في الوحدة العظيمة،الموسيقى المثالية لها أساسها، تنشأ من التوازن، والتوازن ينشأ من الحق، والحق ينشأ من معنى العالم، إذ يعتقد الحكماء الصينيون أن قوة الانسجام على الطبيعة لا حدود لها، لأن الانسجام هو ملك للطبيعة نفسها، ومنذ العصور القديمة، كانت الموسيقى في الصين رمزاً للنظام العالمي، وكانت خصائصها السحرية هي التي نسقت العلاقات بين الكون والإنسان، لذا فإن عملية نشأة الكون، كما تم تقديمها في أطروحة الفلاسفة الطبيعيين الصينيين لا يمكن فصلها عن الصوت البدائي الذي يصاحب تكوين السماء والأرض، وولادة الكون من فوضى، حيث يتم تقديم الأصوات التي تنشأ في لحظة تكوين الكون، ثم تصاحب كل دورة زمنية جديدة، كصورة موسيقية شاملة، يتطابق مركز الفضاء وبداية الزمن مع مصدر الصوت، والأثير التوافقي الذي يملأ الكون يعطي التوازن للعالم كله،الموسيقى تجلب الفصول الأربعة إلى التناغم.
كانت الموسيقى والانسجام والفرح مرادفات في الصين للتمتع الروحي بالحياة الطيبة، وهو الهدف الأسمى للإنسان، وفي مصر القديمة، تم تنفيذ التعليم الموسيقي من قبل الكهنة الذين اختاروا للدراسة الموسيقى المثالية فقط التي من شأنها أن تساعد في كبح المشاعر والتطهير الأخلاقي، لكي يحصل المصري على منصب ثانوي ككاتب، كان عليه أن يكون قادراً على العزف على الناي والقيثارة والغناء في الحفلات الموسيقية، وإذا نجح فهو يكون على صلة مباشرة مع الفرعون، ما يعني أنه في كل زمان كانت الموسيقى قريبة من البلاط الملكي أو أياً كان نوع او شكل الحكم في العصور القديمة.
وفقا للأفكار الأسطورية، فإن الموسيقى تجسد المطلق بشكل كامل، وتخفي المعرفة السرية، وتعمل الآلات الموسيقية كوسيط بين العالمين الأرضي والسماوي، بين الأجيال الحالية وأجيال الأجداد، حتى في السومرية القديمة في الألف الخامس قبل الميلاد، أعطيت الموسيقى أهمية كبيرة حتى أن الموسيقيين احتلوا في “جدول الرتب” أعلى مكانة بعد الآلهة والملوك، حيث تم تسمية المدن بأسماء موسيقيين، وكانت التضحيات تقدم للآلات الموسيقية.
وفي ثقافة بلاد ما بين النهرين القديمة، ارتبط المقياس المكون من خمس خطوات بالعناصر الأساسية للكون وصوت الكواكب الرئيسية (زحل والمشتري والمريخ وعطارد والزهرة)، كما “شمل” المقياس المكون من سبع خطوات أيضاً موسيقى الشمس والقمر، وكان الرقم سبعة في التقليد الأكادي-السومري-البابلي يعتبر مقدساً، “مطهراً”، رمزاً للكمال، أما في بابل كان هناك سبعة موسيقيين في المعبد، وفي كنيسة البلاط في شوشن كان هناك سبعة عازفين على القيثارة، وفي بلاد ما بين النهرين، كما هو الحال في الصين القديمة، كانت الفصول مرتبطة بالفترات الموسيقية الأساسية – الرابعة والخامسة والأوكتاف.
وبالتالي، يمكن الافتراض أن الموسيقى العالمية مدرجة في النموذج الأسطوري للعالم، إلى جانب “الثوابت” مثل وشجرة العالم، والجبل العالمي، وما إلى ذلك، وأن فكرة الموسيقى من المجالات هو النموذج الأصلي.
لقد تجسدت فكرة الموسيقى العالمية بشكل كامل في الثقافة اليونانية القديمة، يرعى فن الهيلينيين أبولو – إله الفن والإلهام الفني، إله كل القوى التي تخلق الصور، الإله الذي يقول الحقيقة ويبشر بالمستقبل – والآلهة الأولمبية التسعة – بنات زيوس ومنيمو -سينا – الذاكرة، إن منيموسين، كما كان الحال، هو أقدم أنواع الإلهام، والذاكرة هي سلف كل الفنون، وكتب عنها الشاعر الفرنسي بول كلوديل في قصيدته “الأفكار”:
إنها تستمع، وهي تتأمل.. انها تشعر.. إنها البصيرة الداخلية للروح..
في اليونان القديمة في القرن السادس، قبل الميلاد، في ساموس، في مدرسة فيثاغورس، تطورت جماليات موسيقية كانت موجودة في الثقافة الأوروبية حتى يومنا هذا، بالطبع، على مر القرون، تم توضيح واستكمال العديد من أحكام جماليات فيثاغورس، وتم نسيان بعضها، لكن الموقف الجمالي العام تجاه الموسيقى، وقبل كل شيء مبدعيها، ظل “فيثاغورس”، وفقاً لفيثاغورس، تتحد الشمس والقمر والكواكب الموجودة في السماء في تناغم موسيقي، هكذا تولد الموسيقى الرائعة – موسيقى دنيوية، والتي بدونها سينهار العالم،الموسيقى الأرضية، أول الفنون التي تمنح الناس الفرح، هي، وفقاًلفيثاغورس، مجرد انعكاس للموسيقى العالمية السائدة بين المجالات السماوية.
هيراقليطس ومن بعده أفلاطون، الكون عبارة عن كون مضبوط بشكل متناغم ينتج موسيقى إلهية، قال أفلاطون إن روح العالم تتناغم مع الانسجام الموسيقي، بالتالي، تتحدث أعمال المؤلفين القدماء بشكل مباشر عن “الجسدية”، وهي فيزيائية الصوت ثلاثية الأبعاد، فكرة النغمة هذه احتضنت كل التجارب الحسية، وتغلغلت في الصورة الكاملة للطبيعة، ووصلت إلى التعميمات الكونية، وحولت العالم كله إلى مجموعة من الأجسام السبر، إلى نظام نغمي مضبوط موسيقياً، إلى تناغم المجالات.
أما في الهند، كانت الموسيقى الدينية في الهند القديمة تسمى “مارجا سانجي تا”، والتي تعني “موسيقى الطريق”، أما في القرن الرابع. كتب منظّر الموسيقى الهندي إيرايانار بمرارة: «لقد اختفى سحر الموسيقى، وبقي المحور الذي يدير العجلة بلا حراك”.
بالتالي، في جميع الحضارات القديمة، كانت الموسيقى أحد العناصر الأساسية للتعليم وكانت أحد العلوم المطلوب دراستها، كانت الموسيقى مرتبطة مباشرة بالطقوس ولا يمكن فصلها عن الأخلاق، وقالوا إن نبل الروح في الصين يزرع في المقام الأول عن طريق الموسيقى، ففي الثقافات القديمة، جسدت كل آلة موسيقية رمزية متعددة، كما تم تقسيم مجموعات الأدوات حسب الغرض منها، وهكذا، فإن الأوتار (القيثارة، ا، المزمار، إلخ) جسدت المجالات النجمية؛ هذه هي أدوات الآلهة، والفكر، والأنبياء، والملوك، والكهنة، أما الأدوات المصنوعة من المعدن هي رمز لقمم الجبال وموسيقى الطبقة العليا والفروسية، وآلات النفخ الخشبية هي رمز للوديان، وموسيقى عامة الناس (الرعاة، والحرفيين، وما إلى ذلك).
إن تاريخ الآلات الموسيقية ليس تاريخاً للتحسينات التقنية بقدر ما هو انعكاس لتطور الروح البشرية وتطور الروح الإنسانية، فالقيثارة في مختلف الثقافات ترمز إلى العالم الخارق للطبيعة، و مملكة السماء، في مصر القديمة، كان خالق القيثارة يعتبر إله الحكمة والعد والكتابة، وكان الراعي السماوي للقيثارات هو إله نور الجبال ذو الأجنحة الذهبية؛ بتاح نفسه – الإله الرئيسي لمصر – كان يعزف على القيثارة، أما في الأساطير اليونانية القديمة، يُنسب اختراع القيثارة إلى ميركوري أو أمفيون، ويسمي التقليد اليهودي القديم جوبال بأنه مبتكر القيثارة.
في العصور القديمة، كانت القيثارة واحدة من الآلات الموسيقية الأكثر شيوعاً في منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، حيث يبلغ عمر الحروف الهيروغليفية المصرية التي تعني “القيثارة” و”العزف على القيثارة” 6 آلاف سنة على الأقل، فقد تم الحفاظ على صور القيثارات في فن ثقافات بلاد ما بين النهرين والمصرية التي يعود تاريخها إلى الألفية الأولى والثالثة قبل الميلاد، وفي شمال وسط أفريقيا، بالإضافة إلى الآلات التي يعود تاريخها تاريخياً إلى القيثارات في مصر القديمة، تم اكتشاف قيثارة نغباكا المجسمة،إنهم يجسدون الأرواح التي أثارها الموسيقي، الذي كان في كثير من الأحيان ساحراً أو معالجاً أو كاهناً لقبيلة معينة.
أما في التقليد اليهودي، القيثارة هي آلة تمجيد الله، آلة الأنبياء، “صفة للملك داود”، بعد أن أصبح الملك والكاهن الأول، أدخل داود الموسيقى في الطقوس الدينية وقام بتأليف ترانيم للإله يهوه، وكان يغنيها بمرافقته، كان يُطلق على القيثارة التي رافقت غناء الترانيم اسم سفر المزامير، وفي الأساطير الاسكندنافية، ترتبط القيثارة بالبجعة والحصان الأبيض – دليل النفوس إلى عالم آخر، وكذلك مع الدرج الغامض الذي يربط بين وئام الأرض والسماء. على طول هذا السلم، يمكن لروح البطل أن تصل إلى العالم التالي.
بالتالي، يمكن لأصوات القيثارة أن توقظ الحب، وتغير تدفق الأنهار، وتتحرك الغابات والجبال، وتهدئ الحيوانات البرية، من خلال العزف على القيثارة، يهدئ أمواج البحر، وينقذ المغامرين، هذه الأساطير رغم أن فيها شيء من الحقيقة، لكن مجرد العيش والتأمل فيها أعتقد أنها تبعث السكينة بصرف النظر عن الخيال الواسع في هكذا أطروحات.
في الختام، لا أعتبر هذا الموضوع استكمالاً لموضوع الأمس، على الرغم من أنه كان يجب أن أبدأ بهذا الموضوع أولاً، لكن ارتأيت التبحر في الموسيقى الأقرب إلينا كنوع من الهوية الروحية عبر استكشاف بعض التفاصيل لدى حضارات الشعوب على شكل قصصٍ من الشعوب، لست موسيقياً ولكن كما يٌقال قد تعشق الأذن قبل العين أحياناً، فأن نسترخي لسماع صوتٍ عذب، هو الروحانية بصرف النظر عن نوع الآلة الموسيقية أو نوع الأغنية الراقية غير المرتبطة بالانصياع لتوجه معين، فالإنسان يحتاج من وقت لآخر إلى السكينة والهدوء والموسيقى خير جليس لكل شخص طامح لذلك، وكما لي عشقي في الاستماع إلى القرآن الكريم بصوت أعذب القارئين، كل شخص له عشقه، فقلت ما قلت لأن هذا الموضوع، سهلٌ ممتنع، له مؤيديه كما أشرت في المقال السابق وله معارضيه، لكن عندما نكتب عن الإنسان، نضع هذه الأمور جانباً، لأن الموسيقى أساساً من الطبيعة ولا أحد يستطيع إنكار الطبيعة وأسرارها وجمالها وحتى غضبها.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.