الأمن حياة، وهو الحياة إجمالا وتفصيلا، طريق البناء والتنمية وسبيل التقدم والازهار، اشرعة أمان وسلام وطمأنينة وسكينة، محطة تحول لصياغة لحن الحياة من جديد، وقراءة معطياتها بلغة متجددة، تلتزم منهج الذوق والرقي والاحترام والشعور بقيمة الهدف، وتعظيم الخيرية في السلوك البشري، وتعزيز المسؤولية الاجتماعية والتواصل مع مكونات المجتمع، في سلام وتصالح مع النفس والاخر، والاعتراف بالمؤتلف الإنساني والمشترك القيمي، وادارة نمط السلوك الاجتماعي بما يتوافق ومنظومة القيم ويتعايش مع مبدأ العيش الكريم ، ويتناغم مع روح المستجد في حياة الانسان المعاصر، فهو بذلك منهجيات حياة، وتفاصيل سلوك، والتزام بالقواعد والنظم، موضوعية في قراءة المعطيات، وقوة في ادراك المسؤوليات، ومنطلق للسمو الفكري والتوازن الروحي والانفعالي والرقي في الممارسة البدنية، فكما أنه سلوك الحكمة وتنزيه النفس من الوقوع في التهلكة والانجراف نحو الغرائز، فهو أيضا وقاية من الامراض التي يعيشها عالم المصالح والتناقضات، وهو الاهتمام بالنظافة الفكرية والتوازن في التعامل مع الأدوات الحياتية، وتناغم مع مدركات الصحة النفسية وإدارة المشاعر الذاتية، والثقة في النفس ، وترقية الفكر والبحث والابتكار في الممارسة وتصحيح الشوائب وما علق في الأذهان من معلومات مغلوطة أو قناعات مشبوهة، بتكريس لغة الاختيار وفق منهج الحياة المتوازن وكفاءة المحتوى ومصداقية المعلومة، وتعميق الدوافع وترقيتها، والتعامل مع معطيات الحياة ومواقفها بروح التفاؤل والايجابية والثقة بالله.
وفي ظل عالم كوني يعيش التناقضات الفكرية والتباينات المعرفية واتساع المعلومات وتداولها وشيوعها وظهور المنصات الاجتماعية والتقنيات الحديثة، يأتي الأمن الخيار الأمثل لصناعة التوازنات وتمكن الانسان من العيش في الازمات والتحديات والظروف الصعبة، انطلاقا من ترسيخ معالم البناء الفكري والتحصين الذاتي والأمن المعرفي الوقائي للإنسان وثقافته وانتقائه لمصادرها الصحيحة وادراك قيمة الكلمة الطيبة ونبذ السلبية والاشاعة وتأكيد النقد البناء والموضوعية في الطرح وقيمة الانتظار للنتائج ، وتعميق الحوار والتشارك المعرفي، أو في مجالات استخدام التقنية وتوظيف أدواتها والتعامل مع منصات التواصل الاجتماعي، وإدراك خطورة الابتزاز، وصون البيانات الشخصية والخصوصية في استخدام التطبيقات الحاسوبية، واستخدامنا لبطاقة الصرف الآلي، أو حفظنا للمستندات الرسمية من جوازات سفر ووثائق وملكيات وغيرها، أو في مجالات السلوك اليومي المروري واحترام ثقافة الطريق ونهج القيادة السليمة، أو في الوقاية من الجريمة، والتزام معايير الأمن والسلامة وسلوك الوقاية في تصرفاتنا وأولوياتنا وخياراتنا واختياراتنا وقراراتنا.
ومع ذلك ندرك بأن الكثير منا قد يتساهل في التعامل مع ما أشرنا إليه من قضايا باتت تطرح في حياة الفرد اليومية بدون مقدمات وتتجه إليه بدون استئذان، وينظر اليها باستخفاف ويتعاطى معها بدون اهتمام، ظنا منه أنها مسؤوليات الشرطة والجهات الأمنية والقضائية الأخرى، فأصبحت مساحة للاختلاف، ومحطة للتنازل عن المعايير، والممارسة السطحية، لتمتد إليها أيادي البغي حتى أصبحت عرضة للسرقة والنهب والضياع والتلف، واختراق الصفوف الامامية وجدران الحماية لها، لعدم امتلاكها ضمانات الحماية او مناعات الوقاية، ان مسؤوليتنا اليوم في تثبيت أعمدة الأمن في بيتنا الداخلي وضمائرنا الحية في مواجهة تصدعات الرياح العاتية، وتأثيرات الأفكار الهدامة، والغوغائيات التي باتت تسقط الحقوق وتصنع لنفسها مسوغات التبرير ومبررات الفعل في ظل سقوط أخلاقي دولي ، وانكسار للفضيلة، وغياب للحياء، فإن علينا في تدارك الأمر أن نمنحها صلابة وقوة ورسوخا في مواجهة التغيير بإدراكنا لقيمة الامن في حياتنا وممارساتنا ليكون بمثابة الاطار الذي يغلف حياتنا صدقا وواقعية، ومهنية وموضوعية، ويضمن قدرتها على استعادة انفاس الأمنيات والتحليق بها فوق السماوات لرؤية أوضح لبريق الجمال ولمعانه، لتحيا في شغف العطاء وتنمو في بحر المودة وتنشط في ذاكرة الإنجاز.
إن الأمن هو صناعتنا الشخصية، والحلقة الأقوى في عالم التناقضات ومواجهة عمق الاختلافات، وبيدنا الاختيار فيه، بل ونمتلك النصيب الأكبر في حصته، فهو أداتنا ومنتجنا وأثرنا وإرثنا وطريقنا للوصول إلى بر الأمان، فإن أحسّنا التعامل مع محددات بوصلة وتوجيه أشرعته التوجيه الأنسب لبلوغ الأهداف النبيلة والأماني المتعاظمة، وأيقنّا بكل متعلقاته، واستطعنا فهم ما يعنيهلنا في كل احوالنا، كان بذلك لنا سندا معينا ، وناصحا موجها، ومنطلقا لرسم خريطة الحياة من جديد، لتتجه نحو المستقبل، ونحن في قوة من أمرنا وصلابة في رأينا واعتدال في شخصيتنا لا تمس الرياح منا قيد أنمله أو تعرضنا للتغيير الجارف بدون وعي أو ادراك لمقاصدها ومغازيه، أو أن نترك للعادات السلبية والأفكار المضللة والقناعات غير السارة وغيرها، العنان لتفعل بنا ما تشاء، وتتجه بنا أينما اتجهت وسارت، فتنحرف بنا عن جادة الصواب، وتضعنا في مزالق الشطط، وقسوة القلب، وريح التشتت ،وضعف الشخصية، فتبرز في حياتنا حالات الشك ، وسيطرة الأوهام والخرافات، نسخط على الكرم، ونحتقر الانجاز، ونسفّه الجهود، ونسوّف التنفيذ، ونتآكل في دواخلنا، ونتحدث ولا نفعل في حين ان قطار الحياة يفوت فلم نلحق به والأماني تتبعثر وتضيع، فما زلنا لم نأخذ منها بطرف، أو نسترق السمع فننصت لما تحكيه المواقف والاحداث وتتركه لنا من عبر ودروس، وعندها تضيع حياتنا لأن بوصلة الأمن ما زلنا لم نستوعب قيمتها أو نتحكم في توجيهها فخذلنا أنفسنا بتساهلنا فيها.
إننا في هذا اليوم المبارك من الجمعة العظيمة تطل علينا مناسبة وطنية مجيدة ألا وهي، يوم الخامس من يناير – يوم شرطة عمان السلطانية- ، يوم بسط فيه الأمن شراعه على هذه الأرض الطيبة المباركة، فتحقق لعمان وعلى مدى أكثر من أربعة وخمسين عاما من الأمن الأمان والاطمئنان والاستقرار والسلام والتنمية ما عزز في أبناء هذا الوطن هذه النعمة العظيمة ورسخ فيهم هذه القناعات الايمانية بأن الامن أساس الحياة ، لنستحضر ونحن نحتفل بهذا اليوم جهود شرطة عمان السلطانية وما قدمته في ترسيخ الامن والأمان والسلام، وتعزيز حصون الامن الشامخة في كل شبر من أرض عمان العظيمة في البر والبحر والجو ، وما اتخذته من مبادرات وخطط ومرتكزات في إطار تشخيصها للحالة الأمنية وترسيخها للسلوك الآمن الرشيد ، وفق رؤية شرطية استباقية متوازنة قائمة على استقراء مفهوم أعمق للوقاية وترسيخ أبعادها ومبادئها ، التي تبدأ من تغيير ذات الفرد وقناعاته وعاداته ومراجعة أولوياته ، ووعيه بمسؤولياته، وحدود هذه المسؤوليات، والوقوف عند متطلبات الدور الذي يقوم به نحو نفسه ومجتمعه والآخرين، ليضعنا ذلك كله أمام مسؤولية إدراك الحس الأمني باعتباره خيوط اتصال مأمونة الأثر لترسيخ معالم الأمن في حياتنا الشخصية ومواقفنا اليومية، مستلهمين من معانيه الراقية، وقيمهالنبيلة، ورسالته السامية طريقنا لحماية وطننا سلطنة عمان وصون مكتسباته، ولأننا من يصنع الأمن ويبني قواعده ويؤسس أخلاقياته ويسمو بأدواته، فنحن مسؤولون عن تحقيق أمننا وسلامنا وتصالحنا وصلاحنا وتوجيه بوصلته لحياة آمنة مطمئنة ، نقرأ فيها أمننا من زاوية أكبر وعدسة أوسع، نتشارك صناعته ونتفاعل مع مبادئه ومرتكزاته، عين للعين الساهرة وبصيرتنا لحفظ عمان الأمانة.
د. رجب بن علي العويسي