تطرح المتغيِّرات الفكريَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والقِيَميَّة والأخلاقيَّة والثقافيَّة الَّتي تعيشها مُجتمعات اليوم، وحجم التأثير الناتج عَنْها على حياة الناشئة، أهمِّية البحث عن موجِّهات أكثر فاعليَّة في بناء شراكات أكبر بَيْنَ أكبر المؤثِّرين الاجتماعيِّين في حياة المُجتمعات، لِمَا تشغله هذه الموجِّهات الثلاثة من قوَّة ناعمة مؤثِّرة في صناعة التغيير وإدارة وإنتاج التوازنات في حياة النشء منذ نعومة أظفاره، في ظلِّ مُجتمع فتي يُشكِّل فيه الأطفال والشَّباب في السنوات من (0- 29) سنةً ما يزيد عن (70%) من السكَّان، الأمْرُ الَّذي يلقي بمسؤوليَّته على هذه المؤسَّسات في بناء الناشئة وتمكين الأُسرة والوالديَّة من القيام بمسؤوليَّاتهم وفق معرفة وعِلم وفِقه بالأحكام وأسلوب خِطاب وإقناع، وبالتَّالي أهمِّية امتلاكها الأدوات والوسائل والأساليب النَّوعيَّة والكفاءات البَشَريَّة القادرة على صناعة التحَوْلَ وإعادة إنتاج السلوك الاجتماعي، وترسيخ الوعي وبناء القدرات، وضمان إنتاج القدوات بما يؤدِّي إلى رفع مستوى الاستقرار الفكري والتمكين الاجتماعي والاقتصادي للأُسرة. على أنَّ ما يواجه ناشئة اليوم من تحدِّيات فكريَّة في ظلِّ التشويش والتشويه الحاصل على المعرفة، وانتشار تداول المعرفة غير الأصيلة والإشاعة، ودَوْر الحسابات الوهميَّة ونشاط أصحاب الأفكار والتوجُّهات غير المأمونة في ظلِّ ما تطرحه من قضايا وتوجُّهات وأفكار تستهدف إثارة الرأي العامِّ وتعميق مساحة الفوضى الفكريَّة والمشتِّتات الذهنيَّة حَوْلَ مفهوم الآخر المختلف والصورة السلبيَّة الَّتي تقدِّمها عَبْرَ منصَّات التواصل الاجتماعي، وتوجيه هذه المنصَّات الَّتي تحتضن اليوم أكثر الفئات في المُجتمع لِتظهرَ على السطح التحدِّيات الفكريَّة المرتبطة بالإلحاد والتصهين والتنمُّر الفكري ومصادرة التفكير وغيرها من المسارات الَّتي باتت تؤجِّج مساحة الخلاف وترفع سقف الاختلاف، أو التحدِّيات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة الَّتي باتَتْ تتَّجه نَحْوَ إثارة الشَّباب بقضايا تتعارض مع الهُوِيَّة والخصوصيَّة والتنشئة الأُسريَّة من خلال الخروج عن جلباب الأبويَّة وتغييب دَوْر الأُم من التربية والتنشئة الوالديَّة، وترسيخ مفاهيم الاستقلاليَّة والحُريَّات المُطْلقة والمساواة المُطْلقة بَيْنَ الجنسَيْنِ في ثقافة الشَّباب والنَّشء، وتعميق الفجوة بَيْنَ النَّشء والأُسرة في ظلِّ تغريبه عن القِيَم والأخلاقيَّات والمبادئ والهُوِيَّة الوطنيَّة، أو عَبْرَ الإعلانات والدعاية والتغرير به من حيث إبهاره بالنواتج والفرص المتحقِّقة له من الاستقلاليَّة والخروج عن نطاق الأُسرة وتغييب روابط الأُسرة والزواجيَّة والانتماء الأُسري والاحتواء الاجتماعي والضبط الاجتماعي والاحتواء والارتواء العاطفي، وترويج مفاهيم الشذوذ الجنسي والنسويَّة، وغيرها من المفاهيم والأفكار والمشوِّهات الَّتي باتَتْ تضع الناشئة أمام واقع جديد، تقوى فيه فرص البحث عن الشهرة والمكاسب المادِّيَّة ونقل السلوك من كونه مَدنيًّا بطبعه، اجتماعيًّا بفطرته، إلى الانعزاليَّة والفردانيَّة والسُّلطويَّة، فتضعف فيه مساحة المشتركات والروح الجمعيَّة، الأمْرُ الَّذي سيرفع من اغتراب النَّشء عن قِيَمه وأخلاقه ومبادئ مُجتمعه وهُوِيَّته، أو إيهامه بأنَّ القِيَم والأخلاق تُمثِّل حالة من الرجعيَّة والماضي الَّتي لا تحقِّق مستقبَل الفرد أو تقف حجر عثرة أمام انطلاقته، أو تهمِّش دَوْره في المُجتمع، أو تجعله متقوقعًا على نَفْسه غير قادر على منافسة الآخرين؛ كما أنَّ التحدِّيات الاقتصاديَّة في ظلِّ ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وارتفاع مؤشِّر الباحثين عن عمل والمسرَّحين من أعمالهم وغياب الوظائف وغيرها من الجوانب الاقتصاديَّة، باتَتْ تؤثِّر سلبًا في شخصيَّة الفرد، وتتَّجه به إلى حالة من الصراع مع ذاته والتراجع عن محاولة الاستمرار في ثبات قناعاته وأفكاره، حتَّى يقرأَ الأمور بلُغة المادِّيَّات وعدم الثِّقة والمجاملات وفق موازين المكاسب والمنافع والمصالح المتحقِّقة، ويؤدِّي دَوْره في هذا الجانب في إطار حجم ما يتحقق له من مكاسب وميزات وفرص مادِّيَّة على حساب الأخلاق والشَّرف والفضيلة، وما يحصل اليوم في مواقع السناب شات والانستجرام وغيرها من ظهور جريء للمرأة وممارسات خارجة عن القِيَم والمبادئ والأعراف العامَّة والذَّوق العامِّ وحالة التفسُّخ والعُري والإثارة وإظهار المفاتن وإغراء الشَّباب وإغوائهم، ما هو إلَّا نتاج غياب التربية النموذج الَّتي تصنعها الأُسرة من خلال التعليم والإعلام والمسجد. وعَلَيْه، فإنَّ بناء القدرة الوطنيَّة في مواجهة سَيل هذه التحدِّيات وإعادة هندستها لصالح البناء النَّوعي في شخصيَّة المواطن باتَ يطرح على هذه المؤسَّسات التعليميَّة والإعلاميَّة والدينيَّة مسؤوليَّة إنتاج الحلول وتوفير البدائل وبناء أدوات أكثر ابتكاريَّة في إدماج النَّشء مع الواقع الاجتماعي في إطار متوازن ومتناغم يراعي المكوّن النَّفْسي والفطري والاجتماعي والبيئي والوطني والعالَمي، ويبقى فيها خيار القوَّة لصالح بناء «مُجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالَميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام»؛ كونها من أكثر المنظومات قدرة على صناعة التغيير وإعادة هندسة السلوك الاجتماعي وبناء قدرات الفرد، فالتعليم بكُلِّ مؤسَّساته يستهدف بناء سلوك المتعلم وتوفير الممكنات التعليميَّة القادرة على رفع سقف التعامل مع مدركات الحياة اليوميَّة ومحطَّاتها فهو الطريق لإكساب المتعلم المعارف وأساليب العيش والتعايش ورفع درجة التكيُّف مع المستجدَّات واستحضار المبادئ والمرتكزات مع المحافظة على درجة المواءمة مع سُوق العمل من خلال المهارات النَّاعمة وصناعة النماذج التعليميَّة وتعريض المتعلم لمواقف محاكاة في بيئة التعليم، وترسيخ التعليم المنتج والتعلُّم المستدام والتنويع في المسارات التعليميَّة تصبح مسؤوليَّة التعليم في خلق المواءمة مع القِطاع الخاصِّ والحكومي وسُوق العمل وتعظيم دَوْر التعليم في إنتاج فرد عامل منتج. على أنَّ نجاح التعليم في تأصيل هذه المبادئ يرتبط بمستوى حضور الإعلام في عمليَّة البناء والتربية والتنشئة التعليميَّة، لِمَا يُمثِّله الإعلام من أهمِّية كبيرة في توجيه الرأي العامِّ وتعزيز القناعات الإيجابيَّة لدى الفرد، والانتقال به إلى مرحلة الوعي، فإنَّ الكثير من التحدِّيات المرتبطة بما يبثُّه الإعلام وعَبْرَ فضائيَّاته من ممارسات مبطنة خفيَّة لا أخلاقيَّة أو تهيج الانحراف والتبرج والسفور وغيرها في ظلِّ غياب البُعد الأخلاقي في الرسالة الإعلاميَّة، وزيادة نشاط المروِّجين للإعلانات التجاريَّة والدعايات وما تحمله من سموم ومعلبات فكريَّة جاهزة يتناقلها الأبناء جيلًا بعد جيل دُونَ تثبُّت وتيقُّن، وفي الوقت نَفْسه المساحة الَّتي يمنحها للقدرات ونُمو المواهب والتسويق الذَّاتي للأفكار الإبداعيَّة والابتكار والاختراع ومفاهيم الإنتاجيَّة والمسؤوليَّة والرقابة والمتابعة والإخلاص وغيرها، ما يعني أهمِّية تقديمها للمُجتمع بأساليب نوعيَّة ومِنْهجيات دقيقة يراعي فيها الذَّوق العامَّ والمشاعر الإيجابيَّة، لذلك أصبح الإعلام يمارس دَوْرًا محوريًّا في التعامل مع ثورة الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بل إنَّ الإعلام الرَّقمي اليوم فتح المجال والفرص لبناء القدرات والتسويق لها وامتلاك مشاريع اقتصاديَّة منتجة عبر هذه المنصَّات. ومع وجود هاتَيْنِ المنظومتَيْنِ يأتي دَوْر المنظومة الدينيَّة بكُلِّ تفاصيلها في تعزيز الضبطيَّة الأخلاقيَّة، وتوظيف القِيَم كحارس أمين ومحفِّز وداعم للسلوك الإيجابي المتَّزن، وعَبْرَ استنطاق القِيَم الدينيَّة والأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والمفاهيم الدَّاعية إلى التسامح والحوار والمشتركات والسَّلام والعدل والحقِّ والمساواة لِيجسِّدَها في واقعه، ويستنهض الروح الإيمانيَّة العالية الَّتي تتَّجه به إلى الإخلاص والمسؤوليَّة واحترام الواجب والإتقان والعمل الجادِّ واحترام المسؤوليَّات وثقافة العمل وثقافة الاستهلاك، والرقابة والنزاهة والولاء والانتماء، وغيرها من المفاهيم والقِيَم الَّتي أكَّد عَلَيْها دِيننا الإسلامي الحنيف. أخيرًا، فإنَّ ما يحصل من تراجع في هذا الدَّوْر أو تبايُن في تقاسم المسؤوليَّات، وحالة الصراع الَّتي باتَتْ تحصل بَيْنَ هذه القواسم المشتركة، وتقاطع خيوط الاتصال والتواصل في ظلِّ الانسحاب السلبي وإلقاء اللَّوم على الآخر في المسؤوليَّة في تنشئة والتربية وصناعة التغيير، هل هي على التعليم أم الإعلام؟ وأين يقع دَوْر المسجد والمؤسَّسة الوعظيَّة والإرشاديَّة الدينيَّة في ظلِّ التوجُّهات المرتبطة بسحب الأئمَّة من المساجد وحالة الفراغ الَّتي تسبب بها هذا الإجراء غير المدروس؟ كُلُّ ذلك وغيره أصبح له تداعياته السلبيَّة على مستقبل النَّشء وقناعاته وإيمانه بالثوابت والمرتكزات الوطنيَّة أو قدرته على امتلاك أدوات التعامل مع هذه التحدِّيات حتَّى أصبح عرضة للتأثير والتغرير به من قِبل مشاهير «السوشيال ميديا» ومروِّجي الدعاية والإعلانات التجاريَّة. وما اتِّساع انتشار الظواهر السلبيَّة والعادات غير المسؤولة كالتحرُّش الجنسي وتأثرهم بالأفكار الإلحاديَّة والنسويَّة وغيرها كثير، وارتفاع أعداد الأحداث في مؤشِّرات الجناة والجرائم في المُجتمع، والتداعيات النَّاتجة عن الفراغ الفكري أو الدِّيني أو الوظيفي أو غيره، مؤشِّرات سلبيَّة في قدرة الناشئة على الصمود والمواجهة في التعامل مع التحدِّيات واستيعاب التحَوُّلات وقراءة الأحداث العالَميَّة والإقليميَّة في إطار من الثابت والمتغيِّر القِيَمي والأخلاقي والسَّمت العُماني في المحافظة على سقف التوازنات لدى المواطن الَّتي تضْمن استيعابه لهذه الأحداث وامتلاكه أساليب الحياة الكريمة والرفاه الاجتماعي والعيش الكريم، وبالتَّالي تداعيات هذا التباين في كفاءة الدَّوْر في توجيه النَّاشئة واحتوائهم وتحسين الصورة الذهنيَّة لدَيْهم في القِيمة المضافة المُتحقِّقة من الجهود الَّتي اتَّخذتها سلطنة عُمان في ظلِّ جملة التوجيهات والأوامر السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم للحكومة في كُلِّ ما من شأنه مساعدة المواطن والارتقاء به وتبسيط الإجراءات ورفع مستوى الإيجابيَّة والتفاؤليَّة لدَيْه من خلال توجيه الخدمات وتبسيطها وتقريبها مِنْه، وتسهيل حصوله عَلَيْها، وفتح أرحب الآفاق له للاستفادة من الفرص التنافسيَّة الَّتي تعرضها مؤسَّسات الدَّولة، سواء فيما يتعلق بالوظائف والعمل الحُر والأنشطة الاقتصاديَّة والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة، وكيف يوظف النَّاشئة المنافع النقديَّة في الحماية الاجتماعيَّة في صناعة التحَوُّل، فإنَّ تحقيق ذلك بحاجة إلى حضور هذه القوى الثلاث كمنطلقات رئيسة لبناء المواطن القادر على التكيُّف مع الواقع وإعادة إنتاجاته.
د.رجب بن علي العويسي