تشهد المنطقة الشرق الأوسط حالياً توترات وتحولات استراتيجية تؤثر بشكل كبير على الديناميات الإقليمية، في هذا السياق، تبرز إيران كلاعب رئيسي يتخذ قراراته بناءً على تفاعلات متعددة، حيث تشمل التحديات الأمنية والتطورات السياسية والضغوط الاقتصادية، كنا آخرها ما حدث مؤخراً، حيث جذبت الهجمات الصاروخية التي استهدفت إقليم كردستان العراق انتباه المجتمع الدولي، مما يستدعي فحصاً دقيقاً للسياق والعوامل التي تحكم استراتيجية إيران الحالية.
بالتالي، يمكن قراءة الهجوم الإيراني على أهداف في سوريا والعراق على أنه إشارة مقتضبة إلى أن ليس فقط جميع أنواع اليهود والأنجلوسكسونيين يسيطرون على منطقتنا، بل هناك قوى أخرى تحاول أن تكون لاعباً قويا، فإيران تدعم الرئيس الروسي بشار الأسد، وتحارب الإسلاميين هناك، وهناك أهداف واضحة تتطلب الاهتمام الإيراني بشكل وثيق.
وجدير بالذكر أن إيران تتفق وتركيا في وجهة نظر واحدة حيال الأكراد عموماً، فقد اتهمت طهران منذ فترة طويلة الأكراد العراقيين بأنهم عملاء للموساد، ودمى للولايات المتحدة، فلماذا لا تضربهم في نفس الوقت؟ أما بالنسبة لباكستان، بدت العلاقات مع باكستان طبيعية إلى حد ما، ولكن على أراضي باكستان، بشكل عام، منذ الحروب الأفغانية، تمركز فيها هؤلاء الإسلاميون الذين يسعون لتحقيق أهداف مناهضة لإيران، ولأن جزءاً كبيراً من سكان إيران ليسوا فرساً على الإطلاق، ونسبة الفرس تقريباً حوالي 60% هناك، بالتالي يجب على إيران عدم إيقاظ النائمين لأن ليس فقط الولايات المتحدة من تحفر لها، حيث سيكون هناك أيضاً كل أنواع الإسلاميين الذين يحفرون في مكان قريب منها.
بالتالي، العالم يعيش على صفيح ساخن وخاصة منطقتنا، حيث يمكن أن تؤدي الهجمات الإيرانية الأخيرة في سوريا والعراق وباكستان إلى زيادة التوترات في الشرق الأوسط المضطرب بالفعل بسبب الحرب الدائرة في قطاع غزة، وتبرر إيران الهجوم باعتباره “حقاً مشروعاً وقانونياً لردع تهديدات الأمن القومي”، أما ردود الفعل من العراق والولايات المتحدة لم تكن مبشّرة حيث تشير إلى تصاعد التوترات الإقليمية والمخاوف من استمرار تصفية الحسابات في المنطقة.
وبخلاف الرسائل المتنوعة، يتضح من استهداف الحرس الثوري الإيراني لإقليم كردستان العراق في هذا الوقت بعض الدلالات المهمة:
الدلالة الأولى تشير إلى محاولة إيران تعويض خسائرها الناجمة عن الاختراق الاستخباراتي “الإسرائيلي”، خاصةً بعد استهداف القيادات الإيرانية في سوريا ولبنان، هذا الهجوم يبرز تفوق إيران الإقليمي في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، خاصةً داخل العراق.
الدلالة الثانية تقول إن المواجهة بين إيران ووكلائها وحكومة إقليم كردستان ستتأثر بتفاعل الولايات المتحدة وحلفائها مع تطورات الحرب “الإسرائيلية” على غزة، وفي حال استمرار التصعيد “الإسرائيلي”، قد يزداد التوتر في المنطقة، وتتجه إيران نحو مزيد من التصعيد ضد المصالح الأمريكية.
الدلالة الثالثة تشير إلى استمرار قواعد الاشتباك بين إيران والولايات المتحدة و”إسرائيل” ضمن سياقها الحالي، فاستهداف الحرس الثوري لأربيل يعكس تعقيد العلاقات بين أربيل وتل أبيب من جهة، ووجود القاعدة العسكرية الأمريكية في أربيل من جهة أخرى.
الدلالة الرابعة تركز على موقف رئيس الوزراء العراقي شياع السوداني وتعرض حكومته لضغوط إضافية، الاستهداف الإيراني يضع العراق في قلب التوترات الإقليمية، ويظهر تأثير الحرب “الإسرائيلية” على تلك التوترات.
بالتالي، يظهر استهداف إيران لإقليم كردستان العراق في هذا الوقت تحديداً، استراتيجية إيران في تعزيز نفوذها وتأثيرها في المنطقة، ومن خلال هذا الهجوم، تسعى إيران إلى توجيه رسائل تحذير وتأكيد لقواعدها الإقليمية وللمنافسين والخصوم، بما في ذلك الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، أما في سياق العلاقات بين إيران والعراق، يظهر هذا الهجوم توتراتٍ إقليمية متصاعدة، خاصةً مع تحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، والحكومة العراقية تجد نفسها في مأزق، حيث تتعرض لضغوطٍ داخلية وخارجية، وتكون عرضةً لتأثيرات الصراعات الإقليمية، وهنا لا مكان للمواقف الرمادية، فإما موقف محدد أو ستكون العراق مسرحاً لتصفية الحسابات من دول الجوار والولايات المتحدة الأمريكية.
كما يعزز هذا الهجوم توتر العراق الداخلي، حيث يضع الحرس الثوري الإيراني حكومة العراق في وضع حرج، ويكشف عن عجزها في حماية السيادة والأمان على أرضها، بالتالي، تزداد التحديات الأمنية والسياسية، ويشير ذلك إلى ضعف الهيكل الأمني في العراق وضرورة تعزيز قدراته للتصدي للتحديات المستمرة.
وفي إطار المتغيرات الإقليمية، يشير الهجوم إلى استمرار المخاوف من تصاعد التوترات والأعمال العسكرية، وهو ما يتسبب في عدم استقرار المنطقة بشكل عام، يُظهر هذا الحدث أهمية التفاعلات الإقليمية في تحديد مسار الأحداث وتأثيرها على الدول المتورطة، وخاصةً في ظل التشدد المستمر في العلاقات الإقليمية، كمت يُظهر الهجوم الإيراني على كردستان العراق التعقيدات الإقليمية وتشابك الصراعات، ويعكس التحولات الديناميكية في الساحة الإقليمية. يتسلل التوتر إلى العديد من الأبعاد، مما يجعل تحليل الأوضاع وفهم العلاقات الإقليمية أمرًا أكثر تعقيدًا وتحديًا.
بالنسبة للعراق وأركز عليها، تبرز حاجة العراق إلى تعزيز هياكله الأمنية وتطوير قدراتها للتصدي للتحديات الأمنية المتزايدة، وذلك للحفاظ على سيادته واستقراره الداخلي، الحدث يسلط الضوء على الحاجة الملحة لتعزيز التعاون الإقليمي والدولي لدعم العراق في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية.
بالتالي، يتساءل الكثيرون عن كيفية تأثير هذه التطورات على العلاقات بين العراق وإيران، وكذلك على الدور الأمريكي في المنطقة، حيث يُظهر الهجوم أن العراق يشهد تصاعداً في التداخلات الإقليمية، مما يجعل التحالفات والتوجهات السياسية تتأثر بشكل كبير، كما يرفع الهجوم الإيراني تساؤلات حول مدى استقرار المنطقة وإمكانية تفاقم الصراعات الإقليمية، وقد يؤدي الوضع الحالي إلى تأزم العلاقات بين الدول المعنية، مع تأثيرات سلبية على الأمان والاستقرار في المنطقة.
في المستقبل، يجب أن تكون الجهود موجهة نحو تعزيز الحوار والتفاهم بين الأطراف المعنية والسعي لحلول سلمية للنزاعات الإقليمية. يعزز هذا الحادث أهمية الجهود الدولية للتصدي لتصاعد التوترات وتعزيز الاستقرار في المنطقة.
وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال مهم، منذ سنوات وإيران تتعرض لهجمات إرهابية، على الأقل خلال العقد الأخير، كما حدثت اغتيالات كثيرة لقاداتها في عدة دول، لماذا قررت الآن الرد؟
إن إعادة النظر في استراتيجية الرد الإيراني الحالية تظهر تفاقم الظروف الإقليمية والدولية التي تشهدها، حيث يمكن تفسير الهجمات الصاروخية الحديثة على إقليم كردستان العراق على سبيل المثال بمجموعة من العوامل:
الرد على الاعتداءات السابقة: قد يكون الهجوم الإيراني رداًعلى الاعتداءات والاغتيالات التي تعرضت لها إيران في الفترة الأخيرة، مثل اغتيال قادة إيرانيين في سوريا ولبنان وتصاعد الأحداث في المنطقة.
تصاعد التوترات الإقليمية: يمكن أن يكون الهجوم الإيراني استجابة لتصاعد التوترات في المنطقة، خاصةً مع استمرار الأزمة “الإسرائيلية” الفلسطينية وزيادة الضغوط على إيران من مختلف الجهات.
تغيير في الديناميات الإقليمية: قد تكون إيران تعتبر هذا الوقت مناسباً لتغيير ديناميات النفوذ الإقليمي، خاصةً في ظل التحولات التي قد تحدث في العراق والمنطقة بشكل عام.
ضغوط داخلية: قد تكون هناك ضغوط داخلية على الحكومة الإيرانية تتعلق بالشؤون الاقتصادية أو السياسية، مما يجعلها تستخدم التوترات الإقليمية كوسيلة للتصدي لهذه الضغوط.
وفي النهاية، يتعلق الأمر بتقدير إيران للمصلحة الوطنية والإقليمية للدفاع عن نفسها وتعزيز نفوذها، حيث تظهر هذه الهجمات كجزء من استراتيجية إيران في مواجهة التحديات والتغيرات الإقليمية والدولية، وإيران تستجيب بشكل حاسم للتحديات المتزايدة، سواء كانت ذلك عبر التصدي لأزماتها الداخلية أو مواجهة التحديات الإقليمية، بالهجمات الصاروخية على إقليم كردستان العراق، ترسل إيران رسائل قوية إلى الخصوم والشركاء على الساحة الإقليمية والدولية.
ومن الواضح أن هذه الأحداث تتيح للمجتمع الدولي فهماً أعمق للتفاعلات الإيرانية واستراتيجيتها في ظل التحديات المتزايدة، في الأوقات القادمة، يتعين على الجميع متابعة التطورات عن كثب وفحص التأثيرات على الاستقرار الإقليمي، مع التأكيد على أهمية الحوار والتفاهم لتجنب التصعيد الخطير والبحث عن حلول تلبي مصالح جميع الأطراف في هذا السياق الحساس.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.