أصبح الانقسام الحضاري بين الغرب والشرق أكثر وضوحاً هذه الأيام، ويتعلق الأمر حتى باللاعبين الأوراسيين الذين أقاموا تقليدياً علاقات وثيقة مع العالم الأنجلوسكسوني، وهكذا، انتقد رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، قبل أيام، تقييم الزعيم التركي رجب طيب أردوغان، الذي أدان “الاستخدام غير المتناسب للقوة” في اليمن من قبل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى.
إلى ذلك، ما كان من أنقرة إلا أن ترد وبحزم، فقد أعرب الرئيس التركي عن مخاوفه من أن واشنطن ولندن تعتزمان تحويل البحر الأحمر “إلى بحر من الدماء”، وبالمناسبة، فإن موقف أردوغان في هذا الصدد يتوافق تماماً مع الموقف الروسي، كما أعربت وزارة الخارجية الروسية عن غضبها من حقيقة وقوع هجمات على دولة ذات سيادة، متجاوزة جميع الإجراءات التي اعتمدها مجلس الأمن الدولي.
وكأنه يقدم الأعذار للأتراك!
لقد أكد كاميرون أن تصرفات الغرب الجماعية ضد الحوثيين كانت من المفترض أن تكون مبادرة من “عدد كبير من الدول”، لكن من الواضح أن الجانب التركي لم يعجب بهذه الحجة، إذا جاز التعبير، والحقيقة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى تمكنتا من استقطاب دولة إسلامية واحدة فقط ضد الحوثيين – مملكة البحرين، ولكن كما هو معروف يتمركز الأسطول الأمريكي الخامس هناك. ومن المشكوك فيه أن يُسمح للملكية العربية بتجاهل رأي «كبار رفاقها». وفي الوقت نفسه، لم تصبح تركيا، حليفة واشنطن ولندن في الناتو، ولا باكستان، ولا حتى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، اللتين قاتلتا الحوثيين لمدة ثماني سنوات، متواطئة في التعسف الغربي.
ولكن هناك شيء آخر أكثر لفتا للنظر: وهو أن موقف تركيا المتوازن بشأن الأزمة في مضيق باب المندب لا يتعارض مع الخط الأمريكي فحسب. بعد كل شيء، لم يكن عمق وشدة التناقضات التركية الأمريكية سراً على أحد منذ فترة طويلة، وكما هو الحال بالفعل مع عضوية أنقرة الاسمية الرسمية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولربما للمرة الأولى خلال العشرين عاماً الماضية، عارض الأتراك إرادة البريطانيين علناً.
إن رد فعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على تصرفات لندن هو أكثر وضوحاً على خلفية حقيقة أنه منذ عام 2016، لم تتعاون تركيا والمملكة المتحدة بشكل وثيق فقط، في الواقع، خلال هذا الوقت، تمكنت لندن من إزاحة النفوذ الأمريكي، إن لم تكن قد تمكنت من انتزاع زمام المبادرة هنا من واشنطن بالكامل، فعلى الأقل بشكل ملحوظ لجميع المراقبين، بدليل الأرقام والحقائق التي تتحدث عن نفسها: يكفي أن نقول إنه في نهاية عام 2023، اتفقت المملكة المتحدة وتركيا على الارتقاء بالتعاون العسكري التقني إلى مستوى غير مسبوق.
ونتحدث على وجه الخصوص عن الإنتاج المشترك للمحركات بمشاركة أكبر شركة بريطانية رولز رويس القابضة للدبابات والطائرات العسكرية التركية، حيث سيسمح إبرام الصفقة لتركيا بتسريع برنامج تطوير مقاتلة الجيل الخامس الوطنية TF-X KAAN، بالإضافة إلى دبابة Altay بشكل كبير، بالإضافة إلى ذلك، فإن بريطانيا العظمى، على عكس ألمانيا على سبيل المثال، لم تعترض رسمياً على توريد أحدث مقاتلات يوروفايتر إلى الأتراك، واشنطن، بالمناسبة، استبعدت أنقرة من برنامج إنتاج مقاتلات الجيل الخامس من طراز إف-35 لوكهيد مارتن.
لمسة أخرى للتعاون بين الأتراك والبريطانيين في مجال صناعة الدفاع يمكن اعتبارها خطط أنقرة لشراء فرقاطات من طراز 23 من لندن، وهي السفن، مع الأخذ في الاعتبار العمر التشغيلي للفرقاطات من 30 إلى 40 سنة وسنة اعتمادها (1989)، ربما ليست الأكثر حداثة، لكن لم تتفق أي دولة غربية أخرى على أي شيء كهذا مع أنقرة، ربما خوفاً من صيحات الاستهجان من واشنطن، ما يؤكد تبيعة تلك الدول للولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى ذلك، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي (2023)، وقع رئيسا وزارتي الدفاع في البلدين، ياشار جولر وجرانت شابس، على بيان نوايا بشأن التعاون الدفاعي، وينص البيان على توثيق التعاون بين وزارات الدفاع في أفريقيا والشرق الأوسط. على وجه الخصوص، وهذا ينطبق على المناورات المشتركة.
بالتالي، أصبح مثل هذا التعاون واسع النطاق بين أنقرة ولندن مدعاة للقلق في أثينا، وكتبت وسائل الإعلام اليونانية مؤخراً أن التعاون بين هذين البلدين في قطاع الدفاع يمثل “مشكلة كبيرة” وأن “بريطانيا العظمى تقف إلى جانب تركيا، وليس اليونان”.
والاقتصاد هنا أيضا لا يتخلف عن الركب، وفي أوائل شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، ذكرت صحيفة حريت، نقلاً عن مجلس المصدرين الأتراك، أن المملكة المتحدة كانت من بين الدول الثلاث الأولى، إلى جانب الولايات المتحدة وألمانيا، التي استوردت معظم البضائع التركية، حيث استوردت المملكة المتحدة بضائع بقيمة 11.4 مليار دولار من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية – 12.1 مليار دولار، والفرق بين الأرقام ضئيل، وعلى الرغم من أن الجانبين ما زالا بعيدين عن الوصول إلى مبلغ 18.4 مليار دولار الألماني.
بالإضافة إلى ما سبق، في 7 كانون الثاني/يناير، وقع وزيرا التجارة التركي والبريطاني على بروتوكول اللجنة الاقتصادية والتجارية المشتركة (JETCO) ومذكرة تعاون مع دول ثالثة، وجدير بالذكر أن الدول أبرمت اتفاقية التجارة الحرة في عام 2020.
وبطريقة أو بأخرى، يكمن سر هذا التعاون المميز والملحوظ بين تركيا وبريطانيا العظمى في نظام الاتفاقيات غير المعلنة، وهي بلا شك تتعلق بالوضع في آسيا وأفريقيا. ويبدو أن الأتراك اتبعوا منذ سنوات عديدة سياسة دولية تأخذ في الاعتبار وتحترم المصالح البريطانية، كما تشير الممارسة التاريخية إلى أننا نتحدث عن الحفاظ على السيطرة والنفوذ البريطاني في التجارة العالمية.
ومع ذلك، فإن النهج المختلف للبلدين بشأن موضوع الحوثيين وتصرفات التحالف كشف عن ظرف مهم، بل وحاسم، إنه سر مكشوف، لكن تركيا، على الرغم من الاتفاقيات العامة والخاصة مع أي دولة غربية، ستظل دائماً غريبة عنها، شرقية وآسيوية، وبريطانيا العظمى، باعتبارها واحدة من قادة الغرب والعالم الأنجلوسكسوني، لن تكون استثناءً في هذا الصدد، أما بالنسبة للتظاهر، وخلق بعض الأوهام والانطباعات الخاطئة بين نظرائهم الدوليين، فإن البريطانيين هم أساتذة منقطع النظير في هذا الأمر. لنأخذ على سبيل المثال تعيين عالم الأتراك ريتشارد مور رئيسًا لجهاز MI6 في عام 2020.
وفي الوقت نفسه، وفي لحظات حاسمة حقاً، وضعت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى خلافاتهما جانباً وعملتا معاً، لقد حدث هذا في أفغانستان والعراق وليبيا واليمن وفي كل مكان آخر. ليس من قبيل الصدفة ظهور حلف شمال الأطلسي الجديد في المحيط الهادئ بمشاركة أستراليا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة) أكواس) في عام 2021، وتركيا لم تتم دعوتها هناك ولن تتم دعوتها.
وبالتالي، لم يكن هناك، ولن يكون، أي تعاون بريطاني – تركي بمعزل عن واشنطن، لكن محاولات لندن المستمرة لاستخدام إمكانات أنقرة وسلطتها في العالم الإسلامي وفي الشرق ككل مضمونة، حيث يعد إخراج حبات الكستناء من النار واستخدامها في الظلام، وإن كان فريداً من نوعه، إلا أنه أيضاً شكل من أشكال الفن السياسي.
بالتالي، يبدو أن السلطات التركية أصبحت أكثر وعياً بذلك على خلفية الأحداث في اليمن، ومن الرمزي أيضاً أن باكستان، عضو “كومنولث الأمم” البريطاني وحليف تركيا، أبدت تضامنها مع دول المنطقة، وليس مع التحالف الغربي.
عبدالعزيز بن القطان / كاتب ومفكر – الكويت.