إن الصراع الدامي بين الكيان الصهيوني وقوة المقاومة الفلسطينية، يظهر واقع صادم وواضح على الساحة الدولية: فشل الكيان الصهيوني وهزيمته أمام قوة المقاومة، في هذه الحرب حدثت تحولات كبيرة في الحقل الحربي، حيث لم يكن الكيان الصهيوني قادر على تحقيق أهدافه العدوانية وجني ثمار التمدد الإقليمي الذي كانيطمح إليه.
وفي ظل صمود وإصرار المقاومة، شهد الكيان الصهيوني سلسلة من الانكسارات والهزائم، فقد فشل في تحقيق التفوق العسكري المطلوب وواجه مقاومة فلسطينية قوية ومتنوعة، هذا الفشل ليس فقط في الميدان العسكري بل أيضاً في الجوانب الإستراتيجية والدبلوماسية، حيث تفشت الأزمات الداخلية والشكوك بين الأطياف الصهيونية، مما أثار اضطرابات وتساؤلات كثيرة.
توسع صهيوني
بعد تكبد آلة الحرب الصهيونية هزيمة ساحقة في معركة طوفان الأقصى في قطاع غزة، تستمر الحكومة الصهيونية في محاولاتها لتبرير الهزيمة والتفاخر بأفكار تستند إلى الاستيلاء على المناطق الحدودية، خاصةً محور صلاح الدين المعروف أيضاً بمحور فيلادلفيا، الذي يمتد لطول 14 كيلومتراً بين قطاع غزة ومصر.
تتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية بإلحاح عن أهمية السيطرة على هذا الشريط الحدودي لضمان أمان الكيان الصهيوني ولتقليل تهريب السلاح إلى المقاومة الفلسطينية. يتجاهل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الاتفاقيات الموقعة مع مصر ويصر على ضرورة العودة إلى احتلال هذا المحور، متجاهلاً التزاماته.
في هذا السياق، طرحت السلطات الصهيونية مزاعم حول موافقة القاهرة على عودتها لاحتلال محور صلاح الدين في صفقة يزعمون أنها تشمل مشاركة السلطة الفلسطينية في خطة ما بعد الهجوم على قطاع غزة. تم نفي هذه المزاعم بشدة من قبل المصادر المصرية، التي أكدت أنها محاولات لصرف الانتباه عن المواقف المصرية الثابتة ضد العدوان الصهيوني على غزة.
مصر، ترفض بحزم أي محاولة لتغيير واقع المحور الحدودي وتجاهل الاتفاقيات القائمة، القرار بشأن مستقبل قطاع غزة ينبغي أن يكون في يد الشعب الفلسطيني، ومصر تعكف على حماية حدودها والتزاماتها الدولية.
من خلال هذا السياق، يظهر بشكل واضح فشل الحكومة الصهيونية في تحقيق أمانها وحماية شعبها، تستمر مصر في رفض أي تغييرات يهدف الكيان الصهيوني إلى تحقيقه، ويعزز موقفه في وجه الأكاذيب والمحاولات الصهيونية الفاشلة لتصحيح صورته أمام شعبه.
في سياق الاتفاقية الصهيونية المصرية، والتي تعرف باسم اتفاقية فيلادلفيا، توصلت حكومة الاحتلال الصهيوني إلى اتفاق مع الحكومة المصرية لتنظيم الشريط الحدودي بين قطاع غزة ومصر،يتضمن الاتفاق 83 بنداً يحدد التزامات الأطراف والأسلحة المسموح بها، حيث تسمح الاتفاقية لمصر بنشر قوة من حرس الحدود مسلحة بأسلحة خفيفة وتقديم تسهيلات لوجستية لمكافحة التسلل والإرهاب عبر الحدود.
كما تحدد الاتفاقية أن نشر قوات مصرية على الحدود لا يؤثر على معاهدة السلام المصرية الصهيونية لعام 1979، وتظل سيناء منطقة منزوعة السلاح، تؤكد الاتفاقية أيضاً على طابع قوات مصرية كقوة لمكافحة الإرهاب والتسلل، وليست قوة عسكرية.
في إطار استعداد الاحتلال للانسحاب من قطاع غزة، نقلت حكومة الاحتلال سلطة محور صلاح الدين إلى السلطة الفلسطينية، وتم توقيع اتفاقية للعبور والحركة لتحسين الوضع الإنساني والتنمية الاقتصادية. وبعد سيطرة حماس على قطاع غزة في عام 2007، أصبحت حكومة حماس هي السلطة السائدة على محور صلاح الدين.
تأتي الادعاءات الصهيونية حول العودة إلى السيطرة على محور صلاح الدين كجزء من مخططات تهجير الفلسطينيين وإخلاء قطاع غزة، تمهيداً لتحقيق أهداف التوسع الصهيوني، كما تشير هذه الأطماع إلى رغبة الكيان في استمرار الاستيطان وبناء المستوطناتفي المناطق الفلسطينية.
وخلال هذه الفترة المؤثرة من الحرب الطاحنة ومن خلال التحديات والصراعات، يظهر بوضوح أن الكيان الصهيوني قد تكبد هزيمة قاسية أمام عزيمة المقاومة الفلسطينية. لم تكن هذه الفترة مجرد صراع عسكري، بل كانت تحدٍ للمفاهيم الاستراتيجية والأجندات الإقليمية. قوة الإرادة الفلسطينية استطاعت أن تقف وجهاً لوجه معالكيان الغاصب، تحدت التحالفات والضغوط الدولية، وكتبت قصة صمود جديدة للشعب الفلسطيني.
بعد هذا الصراع، يفتح الوقت أمام فرص جديدة لتكون المنطقة مكاناً أكثر استقراراً وعدالة، يتطلب ذلك التفكير بعمق في آفاق السلام والتعاون، والتخلي عن الأجندات الاستعمارية التي لا تخدم إلا المصالح الضيقة، وإن نهاية هذا الصراع ليست نهاية المعركة، بل هي بداية لفترة جديدة تتطلع فيها الشعوب إلى بناء مستقبل أفضل بعيداً عن أوهام التوسع والاحتلال.
فلنتطلع سويًا نحو غدٍ أكثر سلامًا وتعاونًا، حيث يكون العدل وحقوق الإنسان هما القيم الرئيسية التي توجهنا نحو تحقيق استقرار حقيقي وتقدم شامل.
بالتالي، تظهر الأوضاع الراهنة تحدياً لمشروع “إسرائيل الكبرى”، خاصة بعد معركة طوفان الأقصى، التي شكلت عقبة أمام مخططات الكيان الصهيوني لتحقيق هيمنته في المنطقة، كما يظهر المشروع الأميركي الجديد للممر السككي لتعزيز مكانة الكيان الصهيوني، ولكن الأوضاع الراهنة تكشف عن تحولات غير متوقعة قد تؤثر في تلك التطورات المستقبلية.
اتفاقيات الحدود الدولية
يعود تاريخ الاتفاقيات الحدودية إلى قرون مختلفة. قد تمت بعضها بعد الحروب لتحديد الحدود بين الدول المتنازعة، في حين تم توقيع البعض الآخر في سياق الانفصال أو التأسيس الدولي.
أسباب التوقيع: تتفاوت الأسباب التي تدفع الدول لتوقيع اتفاقيات الحدود، وتشمل تجنب الصراعات المستقبلية، وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي، وتحقيق الاستقرار الإقليمي، كما يختلف عدد الدول المتفاوتة التي توقع اتفاقيات الحدود باختلاف الحالة والسياق. قد تكون بعض الاتفاقيات ثنائية الجانب، في حين تشمل البعض الآخر مجموعة من الدول.
أما عن تفاصيل الاتفاقيات: تختلف تفاصيل الاتفاقيات حسب الحالة. تتضمن هذه التفاصيل تحديد الحدود بدقة، والمسائل المتعلقة بالموارد الطبيعية (مثل المياه والنفط)، وترتيبات السفر والتجارة.
بالنسبة للوساطة والقوانين الدولية، قد تشمل بعض اتفاقيات الحدود وساطة دولية أو تستند إلى القوانين والمبادئ الدولية.
ومن الأمثلة على اتفاقيات الحدود الدولية توقيع معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عامًا في أوروبا وكانت تاريخياً لتأسيس مفهوم السيادة الوطنية وتحديد حدود الدول، كما يوجد العديد من الاتفاقيات الحدودية الحديثة التي تم توقيعها لحل النزاعات وتحديد الحدود بين الدول المختلفة.
وبالعودة إلى المخطط الاستعماري الصهيوني، في الآونة الأخيرة، أثار رئيس وزراء “إسرائيل” بنيامين نتنياهو انتباه العامة بتأكيده على الروايات التوراتية في خطاباته، حيث أبرزت هذه الروايات في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، حيث ربط مفهوم السلام بتأمله في تحقيق معسكر الخير وتحقيق الرخاء، مع وصف “إسرائيل” بأنها في قلب هذا المعسكر، بينما ربط المعسكر الآخر بالحروب والاضطرابات التي تهدد الأمان والاستقرار العالمي.
تأتي هذه الروايات في سياق محاولة نتنياهو تأسيس مفهوم توراتي لشرعية “إسرائيل”، حيث يعتبر خصوم الدولة الصهيونية جزءاً من “معسكر الأشرار” ويقارنهم بـ “الساكنين في جبل عيبال”، في حين يصف حلفاء “إسرائيل” بأنهم “معسكر الأخيار” الذين يسعون للسلام العالمي والازدهار.
يظهر نتنياهو استمراره في الاستناد إلى التوراة لتبرير سياساته، وهو ما يشير إلى تكريس استخدام المزاعم التوراتية في الحياة السياسية. يُذكر أن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لهذا الكيان المارق، قد اعتمد نهجاً مماثلاً بالاستناد إلى التوراة بعد احتلال سيناء خلال العدوان الثلاثي على مصر في 1956.
يأتي هذا في سياق النزاعات الحالية، حيث استخدم نتنياهو في خطاباته مصطلحات توراتية لتبرير حربه على قطاع غزة، وفي أكتوبر الماضي، قال إن “نحن أبناء النور فيما هم أبناء الظلام”، مُعبّراً عن تصوره الثنائي للصراع، ومُشدداً على أن “سنحقق نبوءة إشعياء”، مع وعد بـ “تكريم شعبه وتحقيق النصر”.
بالتالي، يظهر تأكيد نتنياهو على هذه الروايات تشبعها في سياق استراتيجية الكيان الصهيوني، حيث يبدي القادة الصهاينة رغبتهم في تحقيق مخطط “إسرائيل الكبرى”، الذي يتضمن تهجيراًإضافياً للفلسطينيين. ورغم التحديات التي تواجهها مثل صمود الفلسطينيين والمقاومة الفعّالة في قطاع غزة، يستمر الكيان في مساعيه لتحقيق هذا المخطط وسط رفض مصري لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.
إنما لا بد من إحقاق الحق، فقد تمكنت المقاومة الفلسطينية بفضل صمودها الأسطوري من تحطيم مشروع التوسع الصهيوني، الذي يستهدف عدة دول عربية، هذا الصمود جعل هذه الدول ملتزمة بدعم المقاومة لمواجهة هذا المشروع الصهيوني الهمجي، وهو ما يتطلب تعزيزاً حقيقياً ودعماً واسعاً للمقاومة الفلسطينية، التي تعتبر بحق رأس حربة في مواجهة هذا التمدد الصهيوني.
الحقيقة الملموسة تشير إلى أن حركة المقاومة الفلسطينية ستحقق النصر على الآلة الحربية الصهيونية، بالرغم من تضحيات شهدائها والدمار الهائل في القطاع. سينهار الكيان الغاصب من داخله، وستتداعى أسس أمانه واستمراريته، وإذا لم يقبل الاحتلال وداعموه الهزيمة، ستتسع دائرة الصراع تدريجياً، وستحدث تحولات كبيرة في المواقف، حيث ستكون الهزيمة جماعية للدول التي تدعم العدوان، حيث ستكتب المقاومة الفلسطينية، فصلاً جديداً في تاريخ الشعوب الحرة، وسترسم معالم فترة جديدة تشهد على نهاية الهيمنة وبداية حقبة جديدة تلتئم فيها أمم تسعى إلى الحرية.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.