يطرح ملف العقود المؤقَّتة ومحدودة المدَّة اليوم تساؤلات كثيرة ونقاشات مستفيضة في ظلِّ عدم وضوح مسار هذه العقود والخاتمة النهائيَّة لها على حياة العامل والموظف العُماني في القِطاعيْنِ الحكومي والخاصِّ على حدٍّ سواء. ولأنَّها قائمة على شرط المدَّة، سواء كانت مدَّة انتهاء المشروع أو انتهاء الغاية من وجود هذه العقود أو غيرها، فإنَّها مربوطة بَشَرط الوقتيَّة الَّذي باتَ يُشكِّل هاجسًا لدى الموظف أو العامل، وما يعنيه ذلك من تأثيره المباشر على مسار الإنتاجيَّة والأبعاد النَّفْسيَّة والقناعات السلبيَّة الَّتي تضع الوقت باعتباره المحكَّ الَّذي يقرِّر مصير هذا الموظف أو العامل في أداء مُهمَّته من عدمه.
على أنَّ ضبابيَّة مسار هذا الموضوع تزيد كُلَّ يوم من عتمة الملف وتعقُّده، إذ إنَّ ملف العقود المؤقَّتة ومحدودة المدَّة لَمْ يقتصر على القِطاع الخاصِّ والأهلي، بل أصبح جزءًا من سياسة الحكومة في استيعاب أعداد الباحثين عن عمل في القِطاع الحكومي. ورغم أهمِّية هذه الخطوة الَّتي تمَّ اتِّخاذها لمواجهة الارتفاع في أعداد الباحثين عن عمل، إلَّا أنَّها تواجه اليوم رفضًا كبيرًا وعدم قَبول من أوساط الباحثين عن عمل أو الَّذين تمَّ تعيينهم بعقود مؤقَّتة ومحدودة المدَّة، بل حتَّى من المؤسَّسات ذاتها؛ لكون الإجراءات وآليَّات العمل الحاليَّة نَحْوَهم بعد انتهاء المدَّة غير واضحة، ليتَّجهَ مصيرهم إلى التسريح القسري، ولكن هذه المرَّة يتمُّ عَبْرَ تشريع هذا المسار ووفق القانون، أي وفق الشرط الَّذي اتَّفق عَلَيْه الموظف والعامل المواطن مع المؤسَّسة في عقد العمل الَّذي يحدِّد فترة وجوده في هذه الوظيفة أو المؤسَّسة، الأمْرُ الَّذي تُخلي فيه المؤسَّسات أيًّا كانت حكوميَّة أم خاصَّة مسؤوليَّاتها عن أيِّ التزام مهني نَحْوَ هذا المواطن ـ رغم أنَّ مسؤوليَّاتها الإنسانيَّة والأخلاقيَّة والوطنيَّة والاجتماعيَّة في تقديرنا الشخصي تبقى حاضرة، لَنْ تسقطَها العقود المؤقَّتة ولَنْ يغفرَ لها شرط الوقتيَّة، لذلك باتَ ملف العقود المؤقَّتة يضيف إلى ملف التوظيف والتسريح اليوم ثقلًا آخر وتحدِّيًا أكبر وهاجسًا يدقُّ ناقوس الخطر، إذ العقود المؤقَّتة ومحدودة المدَّة ـ إن لم يصدر بشأنها إطار واضح بالتثبيت وفق معايير واضحة ومعلومة ـ تتساوى في حجم تأثيرها وتداعياتها مع التسريح القسري والفصل التعسفي باعتبارهما وجهيْنِ لعملة واحدة، وهي أن يتراجعَ المواطن من كونه موظفًا أو عاملًا إلى كونه باحثًا عن عمل، لِيعيشَ دوَّامة هذه التراكمات، وضحيَّة هذه القرارات غير المدروسة والوقتيَّة والَّتي لا يُمكِن البناء عَلَيْها واعتمادها كمسار وطني يقوم على تعظيم الكفاءة العُمانيَّة وتعزيز موقعها في منظومة العمل والتشغيل، والحفاظ على درجة استحقاقاتها في جانب الالتزامات والحقوق والواجبات والإنتاجيَّة وإدارة المشاعر، وتعزيز المواطنة وترسيخ قِيَم الولاء الوظيفي أو كذلك تحقيق الأمان الوظيفي؛ إذ لا أمان وظيفيًّا لشخص مهدَّد بالتسريح. فعلى الرغم ممَّا قد يثبته من كفاءة وقدرة وإنتاجيَّة وانضباط وولاء وانتماء وشعور بالمسؤوليَّة أو يقدِّمه من مبادرات ويصنعه من فرص ويبنيه من محطَّات التحوُّل الَّتي ستصنع في حياته الفارق، إلَّا أنَّه سيظلُّ مهددًا بالفصل التعسفي والتسريح القسري الَّذي هو في حقيقته انتحار للكفاءة العُمانيَّة، كما أنَّ نتائجه الكارثيَّة النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والمعيشيَّة والأسريَّة والاقتصاديَّة أقرب إلى أن وصف التسريح القسري بأنَّه ـ جريمة في حقِّ الإنسان ـ وكما قيل في المثل «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق».
وبالتَّالي نعتقد بأنَّ هذا المسار رغم أنَّه ساعد الكثير من الباحثين عن عمل في تخطِّي أزماتهم الوقتيَّة، وقدَّم لَهُمْ فرصة أسرع في الحصول على الوظيفة، إلَّا أنَّه لا يُمكِن اعتماده كخيار استراتيجي وطني، لبناء الكفاءة العُمانيَّة وإعادة إنتاجها، وتعزيز حضورها في مواقع العمل والإنتاجيَّة، ناهيك عن جملة المساوئ والتحدِّيات الَّتي ارتبطت بالعقود المؤقَّتة؛ كونها أحَد القرارات والتجاوزات الخاطئة الَّتي تبرز مساحة التباين الحاصلة في منظومة العمل والفجوة أو الحلقة المفقودة بَيْنَ قِطاعات الإنتاج، ناهيك عن ما تُمثِّله من معطيات سلبيَّة على بيئة العمل والمؤسَّسة والعامل على حدٍّ سواء، فإنَّها أيضًا كانت محطَّات ارتجاليَّة غير مدروسة. فعلى الرغم من أنَّها كانت فرحة لدى الباحث عن عمل، إلَّا أنَّها فرحة وقتيَّة كما يقال «فرحة ما تمَّت» إذ أسهمَت في خلق شعور بعدم الارتياح ومزيدٍ من القلق والتشويه لدى الموظف أو العامل حَوْلَ أدائه المهني، فمن جهة تتملكه الرغبة في العطاء والإنجاز، وفي الوقت نَفْسه يحاط بالكثير من التعقيدات فهو غير قادر على الحصول على الامتيازات أو حتَّى الفرص؛ كونها بعقد مؤقَّت ووجوده بالمؤسَّسة محدود بوقت مُعيَّن ـ تلك الشماعة الَّتي حاول أن يبنيَ عَلَيْها بعض المتنفذين في القِطاع الخاصِّ سابقًا واليوم يتغنَّى بها بعض القائمين على الإدارة في المؤسَّسات الحكوميَّة بأنَّ القوى الوطنيَّة العُمانيَّة غير مؤهلة للعمل، أو يحاول أن يرسلَ إيحاءات سلبيَّة للتشكيك في كفاءة الشَّباب العُماني، وهكذا تبدو المسألة أكثر غموضًا. فأبسط سؤال يسأله الموظف بعد انتهاء فترة عمله: هل أنا غير منتج؟ ألَمْ تجدوا في القدرة على العطاء؟ ألَمْ تكُنْ لديَّ المهارات والقدرات؟ تساؤلات تعتصر نَفْسه وقَلْبه في أن يفارقَ وظيفته أو مُهمَّته أو المؤسَّسة الَّتي عمل فيها لأكثر من عام فأحبَّها وأحبَّ عمله فيها لِيرجعَ إلى بيته باحثًا عن عمل يتصارع مع ما بداخله من هواجس ويستذكر ما سعى إلى تحقيقه من طموحات حتَّى تقشعت كسحابة صيف، صدمات كفيلة بقتل روح الإبداع والابتكار والإنتاجيَّة لدَيْه.
ويبقى مسار العقود المؤقَّتة غير آمن للمُقبلين على الحياة بروح التفاؤل والإيجابيَّة، والاعتماد عَلَيْه في بناء مستقبل الفرد المواطن غير ممكن، فهو يحتاج إلى أن تكُونَ لدَيْه أُسرة ومَركبة ومنزل للسكنى وعَلَيْه التزامات حياتيَّة وبنكيَّة وأسريَّة واجتماعيَّة، بل إنَّ مخاطره اليوم تعدَّت إلى تأثيره على البُعد النَّفْسي والاجتماعي، حيث يشعر الفرد بأن يعيشَ حالة من عدم التوازن، فهو مهدَّد بالتسريح عِندما ينتهي وقت العقد، كما أنَّه غير قادر على أن يمتلكَ عقارًا أو غيره؛ كونه لا يستطيع الحصول على القرض البنكي بسبب عدم تثبيته أو أن يتوافرَ الضامن البنكي له ـ وهو أمْرٌ نتج عَنْه الكثير من العواقب السلبيَّة والنزاعات العائليَّة والاجتماعيَّة وعدم الثقة، إذ إنَّ الكثير ممَّن ضمنوا أصحاب العقود المؤقَّتة، ونظرًا لتراكم الديون عَلَيْه وعدم قدرته على سداد مبلغ القرض بعد الفصل التعسُّفي له والتسريح القسري، لِيكُونَ الضامن البنكي الضحيَّة القادمة لهذا المسار، بالإضافة إلى أنَّ الصورة المُجتمعيَّة نَحْوَ الموظف والعامل بالأجْر المؤقَّت وبشكلٍ خاصٍّ لفئة الذكور مِنْهم يواجه اليوم تحدِّيات اجتماعيَّة ومنظورات وتقييمات أخرى، خصوصًا في ما يتعلق بأمور الزواج وقدرة الخاطب مِنْهم على بناء نَفْسه وأُسرته، وغيرها من التراكمات السلبيَّة والهواجس الشخصيَّة والأسريَّة الَّتي يعانيها المسرَّح من عمله، وتشمل أيضًا أصحاب العقود المؤقَّتة ومحدودة المدَّة المهدَّدين بالتسريح.
أخيرًا، شكَّلت التوجيهات السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ـ إلى مجلس الوزراء الموقَّر بإلغاء كلمة «مؤقَّتة» من جميع عقود العمل الَّتي يتمُّ توقيعها لتوظيف العُمانيِّين خطوةً مُهمَّة يطمح الشَّباب العُماني خلالها إلى الإنهاء الكُلِّي اللفظي والمعنوي للعمل بالعقود المؤقَّتة والعقود محدودة المدَّة. غير أنَّ واقع الموضوع ما زال يعيش حالة من الضبابيَّة، وعدم وضوح المسار حَوْلَ آليَّة التنفيذ، الأمْرُ الَّذي أثار امتعاض الشَّباب العُماني ممَّن تمَّ توظيفهم بالعقود المؤقَّتة في القِطاعيْنِ الحكومي والخاصِّ؛ لذلك نؤكِّد أن تطبيق التوجيهات السَّامية على أرض الواقع بعيدًا عن التفسيرات الجانبيَّة والأفكار المشوَّشة أولويَّة تُلقي بمسؤوليَّتها على مجلس الوزراء الموقَّر في تحديد فلسفة العمل بهذا التوجيه السَّامي والأحكام المرتبطة به والمقصود من إلغاء كلمة «مؤقَّتة» وما إذا كانت تُقرأ لذاتها أم يراد مِنْها إلغاء العمل الكُلِّي بالعقود المؤقَّتة والعقود محدودة المدَّة بأيِّ موقع أو مجال كان، بالإضافة إلى تكليف جهات الاختصاص ممثَّلة في وزارة العمل وغرفة تجارة وصناعة عُمان والاتِّحاد العامِّ لعمَّال سلطنة عُمان وغيرها في متابعة تنفيذ الأوامر السَّامية بهذا الشأن ومراقبة تطبيق العمل به، ورصد آليَّات التعامل الصحيحة معه، وإيجاد منصَّات لقياس لأداء والقِيمة المضافة الَّتي يحقِّقها إنهاء العمل بالعقود المؤقَّتة على إنتاجيَّة الفرد والمؤسَّسة، وقدرة القِطاعيْنِ الحكومي والخاصِّ على صناعة فرص وبدائل أوسع يجد فيها الموظف والعامل العُماني مساحة أكبر للاستقرار المهني والأمان الوظيفي. فهل سنشهد في قادم الوقت إجراءات ثابتة تحسم هذه التجاذبات والأفكار المطروحة حَوْلَ العقود المؤقَّتة ومحدودة المدَّة في القِطاعيْنِ الحكومي والخاصِّ للعُمانيِّين؟
د.رجب بن علي العويسي