تُمثِّل الدقم وجهة اقتصاديَّة واعدة نظرًا لِمَا تُشكِّله من موقع اقتصادي وتجاري استراتيجي، على طريق التجارة العالَمي، لذلك شهدت المنطقة الاقتصاديَّة بالدقم في السنوات الأخيرة تحوُّلات اقتصاديَّة كبيرة، حيث يُمثِّل الافتتاح الرَّسمي لميناء الدقم في الرابع من فبراير من عام 2022، والَّذي يُعَدُّ من أهمِّ واكبر الموانئ الاستراتيجيَّة التجاريَّة واللوجستيَّة في الشَّرق الأوسط على خطوط التِّجارة العالَميَّة، بحضور جلالة الملك فيليب ليوبولد لويس ماري ملك البلجيكيِّين وقرينته جلالة الملكة ماتيلد ماري كريستين جيسلاين ملكة البلجيكيِّين، حدثًا اقتصاديًّا كبيرًا، وتظاهرة اقتصاديَّة عالَميَّة فتحت أبواب الاستثمار الخارجي لسلطنة عُمان، وفي الشهر نَفْسه وبعد مرور عاميْنِ نشهد اليوم الأربعاء السَّابع من فبراير من عام 2024 افتتاح مصفاة الدقم والصِّناعات البتروكيماويَّة تحت الرِّعاية السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم وبحضور صاحب السُّموِّ الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح أمير دَولة الكويت الشَّقيقة الَّذي يقوم بزيارة دَولة إلى سلطنة عُمان حيث يأتي افتتاح هذه المصفاة باعتبارها أكبر مشروع استثماري بَيْنَ سلطنة عُمان ودَولة الكويت الشَّقيقة.
يأتي افتتاح مصفاة الدقم تتويجًا لعلاقات التَّعاون الاقتصادي والتِّجاري واللوجستي بَيْنَ سلطنة عُمان ودَولة الكويت، لِتُشكِّلَ مدخلًا استراتيجيًّا وحافزًا كبيرًا نَحْوَ تنفيذ مجموعة متنوِّعة من المشروعات والصِّناعات التحويليَّة القائمة على الاستغلال النَّوْعي لمنتجات المصفاة وبما تُسهم به في تعظيم الاستفادة من الثروات الطبيعيَّة، وإضفاء قِيمة مضافة عالية للنفط الخام، حيث أنشئت وفق أعلى المعايير وباستخدام أحدث التقنيَّات بما يُعزِّز من تحقيق قِيمة مضافة للاقتصاد العُماني عَبْرَ تنويع الاستثمارات لِتُشكِّلَ مع المشروعات القريبة مِنْها في المنطقة الاقتصاديَّة بالدقم مِثل: ميناء الدقم مركزًا صناعيًّا موطنًا للعديد من الصِّناعات البتروكيماويَّة، إذ من شأن هذه المشروعات العملاقة أن تُعزِّزَ من حضور منطقة الدقم الاقتصاديَّة في الخريطة الاقتصاديَّة والاستثماريَّة الدوليَّة في سبيل تعظيم القِيمة التنافسيَّة المضافة للمنطقة الاقتصاديَّة للدقم لِتُسهمَ بِدَوْرها الفاعل في تعزيز الاستثمارات الخارجيَّة وتمكين سلطنة عُمان من توطين الصِّناعات البتروكيماويَّة، وتعزيز جهود سلطنة عُمان والشراكات الَّتي تمَّت بشأن الحياد الصفري، وجعل سلطنة عُمان مركزًا إقليميًّا تنافسيًّا لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وهو أمْرٌ سيكُونُ له مردوده الاقتصادي، خصوصًا في ظلِّ حجم الموارد الَّتي تضخُّها الدَّولة في هذه المنطقة الاقتصاديَّة بغية جاهزيَّتها، من حيث البنية الأساسيَّة والخدمات والمرافق وإنشاء الطُّرق والمطار والحوض الجاف وخدمات الاتصالات والكهرباء والمياه وغيرها؛ لضمان التهيئة المناسبة للاستثمارات ووصولها إلى درجة عالية من الأمان الاقتصادي والتَّكامل في الخدمات المساندة.
على أنَّ القِيمة المضافة النَّاتجة من افتتاح مصفاة الدقم يُعزِّز اليوم من فرص الصِّناعة التحويليَّة ليس فقط في كونها الركيزة الأساسيَّة لاقتصاد مستدام ومتنوِّع ويتكيَّف مع احتياجات الإنسان وأولويَّاته ويُعزِّز من فرص التنويع في الاقتصاد الوطني فقط، بل لِمَا يُقدِّمه من أمن اقتصادي يظهر في إعادة إنتاج وتوطين الصِّناعة وبناء مُجتمع صناعي يعتمد على نَفْسه ويستفيد من موارده، ويشجِّع المؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة على الاستثمار في هذا النَّوْع من الصِّناعات، وإعادة تدويرها وإنتاجها بشكلٍ يضْمَن تحقيق قِيمة مضافة تظهر في جودة المنتَج والشركات النَّاشئة والشركات الصغيرة والمتوسِّطة الَّتي تعمل في قِطاع النفط والغاز والبتروكيماويَّات واللوجستيَّات وغيرها، الأمْرُ الَّذي يؤدِّي إلى استقطاب الشَّباب العُماني من مخرجات الدبلوم العام، ذلك أنَّ الاهتمام بالصِّناعة التحويليَّة سوف يُعزِّز من فرص التَّركيز على المهارات النَّاعمة الَّتي يحتاجها سُوق العمل عامَّة والمصانع خاصَّة، بحيث يتقاسم هذا التوجُّه مع ما تطرحه رؤية «عُمان 2040» في تعزيز التنويع الاقتصادي وإعطاء الصِّناعات التحويليَّة حضورَا أكبر في هيكلة الاقتصاد الوطني. على أنَّ ما يؤكِّد على أهمِّية تعزيز قِطاع الصِّناعة التحويليَّة حجم الموارد الماليَّة والاستثمارات الضَّخمة الَّتي تضخُّها الحكومة في تعزيز بنية الاقتصاد العُماني، لِتُشكِّلَ منطقة الحوض الجاف وميناء الدقم، يضاف إليها اليوم مصفاة الدقم ومُجمَّعات الصِّناعات البتروكيماويَّة فرص نجاح كبرى في خلق فرص أكبر في تعزيز الصِّناعات التحويليَّة، وتقديم الحوافز والممكنات والامتيازات الَّتي ستُسهم بِدَوْرها في رفع درجة الجاهزيَّة والاستقرار في الاقتصاد الوطني وتشغيل القوى العاملة الوطنيَّة، وتوطين هذه الصِّناعات واستغلال الموارد الطبيعيَّة والصِّناعيَّة وإعادة تدويرها وإنتاجها داخل سلطنة عُمان، وتوفير الحوافز والامتيازات الَّتي تشجِّع الشَّباب على الانخراط فيها.
ويبقى تعزيز هذه المكانة الاقتصاديَّة للدقم كوجهة استثماريَّة واعدة، وإبرازها اقتصاديًّا وتعزيز حضورها في فِقه الاستثمار العالَمي والصِّناعات التحويليَّة المتكاملة، مرتبطًا بحضور الأبعاد الثلاثة، وهي:
البُعد السِّياحي؛ حيث تُشكِّل منطقة الدقم الاقتصاديَّة وجهة سياحيَّة واعدة في سلطنة عُمان، ذلك أنَّ ما وفَّرته الاستثمارات الخارجيَّة في ميناء الدقم والمنطقة الاقتصاديَّة من بيئة حضريَّة واستثماريَّة وفق معايير المُدُن الاقتصاديَّة العالَميَّة من خلال وجود مركز للمدينة ومناطق سكنيَّة وتجاريَّة وصناعيَّة منفصلة مُعزَّزة ببيئات ترويجيَّة بما توفِّره من فنادق عالَميَّة وحدائق ومتنزَّهات وأماكن للتَّرفيه والألعاب، وشقق فندقية ومراكز تسوُّق ومولات تجاريَّة، وبيئات متكاملة للاستجمام وقضاء أوقات ممتعة، عزَّزتها عمليَّة التَّنظيم الَّتي اتَّسمت بها المنطقة من خلال شبكات متكاملة للطُّرق والخدمات العامَّة جعل من الدقم نموذجًا اقتصاديًّا وسياحيًّا عصريًّا متكاملًا في محطَّاته، منسجمًا في حواره مع الطبيعة الجميلة لهذه المنطقة، لِتتَّجهَ الميزة التنافسيَّة للدقم بما وفَّرته البنية الأساسيَّة من بيئة نموذجيَّة متكاملة بما فيها من خدمات ومواقع سياحيَّة، عزَّزتها جغرافيَّة منطقة الدقم ذاتها، ومناخها المعتدل وإطلالتها البحريَّة على بحر العرب، لِتُشكِّلَ في امتدادها مع سواحل ولايات محافظة الوسطى إلى محافظة ظفار ومحافظة جنوب الشرقيَّة شريطًا ساحليًّا متناغمًا مع الطبيعة الجميلة لهذه المحافظة بما تتميز به من أجواء هادئة وشواطئ نظيفة واسعة، ورمال بحريَّة ذهبيَّة تمنح السَّائح والزائر لها ذائقة جماليَّة وترويحيَّة استثنائيَّة، لقضاء وقت ممتع.
البُعد الإعلامي؛ ذلك أنَّ تأكيد الدقم كوجهة اقتصاديَّة واعدة يتطلب اليوم مسارًا إعلاميًّا متكاملًا وفاعلًا في تشخيص حجم التحوُّلات الاقتصاديَّة والاستثماريَّة في منطقة الدقم الاقتصاديَّة، بحيث تستشرف آفاقًا أوسع في الإعلام الاقتصادي وتعميق دَوْره القادم في السِّياسة الإعلاميَّة العُمانيَّة، ويؤكِّد على أهمِّية إعادة إنتاج الإعلام الاقتصادي من جديد، ورسم استحقاقاته كمدخل استراتيجي في تطوير الاستراتيجيَّة الإعلاميَّة، من خلال إيجاد منصَّات إعلاميَّة أكثر كفاءة واحترافيَّة وتنوُّعًا، وبيئة إعلاميَّة حاضنة للإعلام التحليلي والاقتصادي المحاور، وبرامج إعلاميَّة اقتصاديَّة متكاملة تتَّسم بالتنوُّع والاستدامة والتأثير وقربها من المستثمِر والمنتِج والمستهلِك في تناول الفرص الاستثماريَّة في الدقم والمساحة المتاحة للمستثمِرِين، والإجراءات والضوابط والقيود، وجهود تبسيط الإجراءات وواقعيَّتها، ونماذج عمليَّة لها، والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة واستقطاب الفرص الشَّبابيَّة النَّاجحة، والشركات النَّاشئة؛ والتحدِّيات والعقبات الَّتي تواجه المستثمِرين في سلطنة عُمان، والحوافز الحكوميَّة المقدَّمة، ومستوى الاستفادة مِنْها، وتشجيع المُجتمع على الفرص الاستثماريَّة، برامج حواريَّة متخصِّصة متفاعلة تستقطب خبراء الاقتصاد في العالَم، وفق منهجيَّات واضحة ومسارات معلومة، ودَوْرة برامجيَّة متكاملة تتَّسم بالاستدامة والتنوُّع والمهنيَّة والعُمق والتحليل واستقراء المواقف، وتحليل العيِّنات وفَهْم مجريات سُوق العمل الوطني، إعلام اقتصادي فاعل يتناول العُمق الاقتصادي في منطقة الدقم والاستثمارات الحاليَّة ونواتجها وتفاصيل دقيقة تُبرز هذا التحوُّل الحاصل ونتائجه على المنظومة الاقتصاديَّة.
البُعد الأمني؛ فبقدر ما تُشكِّله المنطقة الاقتصاديَّة الخاصَّة بالدقم من أهمِّية استراتيجيَّة كبرى لسلطنة عُمان، بقدر ما يصبح تعزيز منظومة الأمن والأمان ورفع درجة معايير السَّلامة البحريَّة فيها خيارًا استراتيجيًّا لضمان المحافظة على درجة التَّوازن الأمني؛ وعِندها يصبح الحسُّ الأمني قِيمة مضافة تستهدف رفع درجات الجاهزيَّة والتنبُّؤ والاستباقيَّة واستدراك الخطر والوقاية مِنْه للوصول إلى درجة عالية من الأمان لدى الفرد والطمأنينة والاستقرار في المُجتمع، وتأكيد توافق الممارسات الحاصلة من الشركات والمؤسَّسات والأفراد في المنطقة الاقتصاديَّة بالدقم مع الأولويَّات الوطنيَّة وتحقيق الأمن الوطني الشَّامل؛ باعتباره مرحلة استباقيَّة متقدِّمة في تعزيز مسار الجاهزيَّة في التَّعامل مع الحالات الطارئة والمواقف والأحداث المتغايرة والظروف المتناقضة في ظلِّ طبيعة النُّمو الاقتصادي والسكَّاني للمنطقة الاقتصاديَّة الخاصَّة بالدقم، بما يُمكِن أن يقدِّمَه المسار الأمني من فرص قائمة على توسيع قاعدة التنبُّؤ والاستباقيَّة والفَهْم الواعي للأحداث والربط النَّوْعي بَيْنَ المتغيِّرات والظروف الاقتصاديَّة المؤثِّرة في تشكيل صورة الواقع الأمني في المنطقة الاقتصاديَّة بالدقم، في ظلِّ قراءة فاحصة معمَّقة شاملة واسعة مُتجدِّدة تستوعب احتياجات هذه المنطقة على مستوى الأمن البحري والخدمات اللوجستيَّة ومراكز الصيانة والإغاثة والعمليَّات البحريَّة ومنع التلوُّث البحري والبُقع الزيتيَّة، والتَّعامل مع الحرائق والمواد الخطرة والإشعاعات وأنظمة السَّلامة والوقاية للمنشآت التِّجاريَّة والصِّناعيَّة والخدميَّة ونفوق الأحياء المائيَّة والحدِّ من المخاطر النَّاتجة عن وجود أيَّة ثغرات أمنيَّة قَدْ تؤثِّر سلبًا على كفاءة المنطقة وجاهزيَّتها الاقتصاديَّة والاستثماريَّة.
أخيرًا، فإنَّ التوقُّعات بتحوُّلات اقتصاديَّة واستثماريَّة محفِّزة ومنتِجة في منطقة الدقم الاقتصاديَّة مرهونٌ بتكامليَّة العمل الوطني من مختلف القِطاعات، وتقليل فاقد العمليَّات المتكرِّرة عَبْرَ تبسيط الإجراءات وتقليل الهدر الإداري وجذْب الاستثمار وتوطين العقول الاستراتيجيَّة والاستثماريَّة، بما يضْمَن اقتصادًا حُرًّا نزيهًا، وبيئة أعمال آمِنَة تستوعب التجديدات، وتأسيس مركز أعمال اقتصادي عالَمي، وبيئة إنتاج تنافسيَّة محفِّزة لتوطين الشركات العالَميَّة العملاقة في أن يكُونَ لها موقعها في ميناء الدقم، ليس فقط في نوعيَّة السُّفن التِّجاريَّة وناقلات النفط والبضائع القادمة إلى الدقم بعد افتتاح مصفاة الدقم، بل أيضًا في قدرتها على أن تكُونَ مدينة مستدامة، وبيئة إسكان وترفيهٍ وتسوُّق، تستفيد من المُقوِّمات السِّياحيَّة والثَّقافيَّة ومنظومة الأمن في تعزيز كفاءة الاقتصاد العُماني والتَّنويع فيه.
د.رجب بن علي العويسي