عبد العزيز بدر بن حمد القطان*
غرب شط العرب، تسكب مدينة البصرة بهائها ورونقها، تعانق مياه دجلة والفرات في رقصة تتراقص بها الأنهار، تحمل أحلام الزراعة والتجارة، وتعزف ألحان الحضارة والتاريخ، هنا، تقف البصرة بكل فخر، كبرياء العراق، ومحطة الفخر البحري، ترحب بالعالم بأبوابها المفتوحة، وترسم لوحة من الجمال الطبيعي والثقافة الغنية.
البصرة، أرض النضارة والجمال، حدائقها تتلألأ بألوان الزهور وأشجار النخيل، ترتوي من مياه الأنهار الجارية بلذة الحياة، وتزدهي بروح الإبداع والتجدد، هي الممر البحري الذي يربط العراق بالعالم، ونافذته النابضة بالحياة والحركة، تجسدت فيها عبقرية البناء والتخطيط، لتكون مركزاً حيوياً للتجارة والثقافة، قال عنها الخليفة عمر بن الخطاب، “هذه أرض نضرة قريبة من المشارب والمراعي والمحتطب”، وفي كل زاوية من أزقتها، تنسج البصرة خيوطاً من الحكايات والأساطير، تحمل عبق الماضي وروح المستقبل، فتتحدث عن أيام المجد والعز، وعن تألق الحضارات وتراث الأمم، فيها، ترتفع الأبراج وتتلاطم الأمواج، في لوحة فنية ترسمها يد الحكمة والإبداع، محاطة بعبق التفاصيل وجمال الروح، إنها بصرة العراق، المدينة التي لا تنام.
بصرة العراق، ليست مجرد مدينة، بل هي قصة حية ترويها الأنهار والأرض، وتحفظها الأزقة والمعالم، فهي رمز للحضارة والتاريخ، تعيش في قلوبنا كلما سمعنا صوت أمواجها وشمنا عبق هوائها وشخصياً لي الكثير من الذكريات الطيبة فيها، في أحضان هذه الأرض العراقية، تنبت مدينة البصرة كنسيم عذب يعبق بعطر الحضارة وينثر نسيم الفنون والثقافة، هي مهد الأمجاد وقبة العلم، تلك البصرة التي أرادها عتبة بن غزوان مجرد استراحة لجيشه، لكنها انطلقت بعزمها وتألقت بشموخها، ترسم لوحة جديدة في سماء الحضارة الإسلامية، هنا، في غمرة المعارك وصخب الفتوحات، استقرت العقول النيرة وتفتحت القلوب الرحيمة، لتنمو في جوفها زهور العلم وثمار الحكمة، بصرة العراق، لم تكن مجرد موقع استراتيجي لاستراحة الجيوش، بل كانت محطة لتبادل الفكر والمعرفة، ومركزاً للتواصل بين الشرق والغرب، انبثقت في أرجائها أنهار النحو وينابيع الصرف، فأصبحت مصباحاً يضيء دروب اللغة ويزيد العلم نوراً، وفي أسواقها النابضة بالحياة، تلتقي الثقافات وتتجانس الأفكار، تتبادل الآراء وتترسخ القيم، فتظلّ بصرة العراق رمزاً للتعددية والتسامح.
أما في عتبة الشعر والأدب، تتوسع أفق الإبداع وتتفتح زهور الفنون، حيث ينساب الكلام كالنهر الجاري وتتراقص الأبيات كالنجوم في السماء، إنها بصرة المثقفين والأدباء، التي أطلقت لنا أصداء الشعراء ونغمات الأدب، فأصبحت مصدر إلهام لكل من يحن إلى جمال اللفظ وعمق المعنى، وهكذا، تبقى بصرة العراق تحفةً معماريةً من الحضارة، ومحطة عالمية للعلم والفن، تروي لنا قصة البشرية وتحملنا عبر الزمن والمكان إلى عالم من الجمال والتاريخ والإبداع.
وتنبعث البصرة كجوهرة نفيسة من باطن الأرض، محملة بتاريخ حافل وإرث ثري يجسد عبق الإسلام وروعته، بدأت رحلتها الإسلامية بنبوءة عتبة بن غزوان، تحت رعاية أمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب، حيث ازدهرت كموقع استراتيجي للجيش الإسلامي، ولكنها تحولت في رحلة الزمن إلى مركز للعلم والفن والثقافة في عالم الإسلام، وفيها تجمعت عقول العلماء والفقهاء، حيث وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي أسس النحو والعروض، وألهب سيبويه شرارة علم الخليل وأضاء مسار اللغة العربية، وفي مساجدها، تلألأت علوم القرآن والتفسير والحديث، حيث تناثرت الأفكار وتعاقبت النقاشات، وازدهرت المدرسة المعتزلة كمنارة للفكر والفلسفة.
فالبصرة ليست مجرد مدينة، فهي ملتقى الأدب والفن، ومهد الحضارة والتاريخ الإسلامي العريق، منبر العلماء وساحة الفكر، تظل بصرة رمزاً للحضارة والتقدم، تحمل على كاهلها تراثاً يشهد لها بعظمتها وجلالها في عالم العلم والفكر الإسلامي، في أرض العراق، تتوشح بصرة بزي الجمال والعزّ، تتلألأ كنجمة ساطعة في سماء الحضارة الإسلامية، تنبض بمعالمها القديمة وآثارها العريقة، تشكل لوحة فنية تروي قصة تراث عظيم وإرث عريق.
وجامع البصرة، أول مسجد بني في العراق، يتألق كنسيم الإيمان ومركز العلم، حيث كان ملتقى العلماء ومحطة لطلبة العلم، يعلو سماءه صوت القراءة والنقاش، يتردد صدى أسماء العلماء والفقهاء في أروقته، فكل سارية من سواريه تحمل حلقة دراسة ومجلس علم، تذكرنا بطلبة العلم العرب الكبار كالخليل بن أحمد والحسن البصري والأصمعي وغيرهم، وعلى أرصفة سوق المربد، تناثرت ألوان التجارة ورنين الحياة، فأصبحت هذه المحلة مركزاً للعطاء الفكري والاقتصادي، حيث التقت فيه البادية بالحضرة في جو من الفصاحة والأصالة، واستقطبت مواهب الشعراء والفقهاء لتضفي على أسواقها بريق الثقافة والحضارة.
وتحفظ متاحف بصرة تاريخها العريق وتقوم بدور منارة تنير درب الزمن، حيث تضمّ الآثار القديمة والإسلامية وتعكس جمال الفنون وعظمة الحضارة، وتزيّن مراقد الأئمة والصالحين الأرض العراقية بقبورهم الشريفة، حيث يتدفق إليها الزوار من كل مكان ليستنشقوا عبق التاريخ ويتأملوا في عظمة الإسلام، إن بصرة العراق، بمعالمها الروحانية وآثارها العريقة، تظلّ واحةً ترفع راية الحضارة والتقدم في عالمنا الإسلامي، مكاناً يستحق الفخر والاعتزاز، فهي ليست مجرد مدينة، بل هي رمز للإيمان ومركز للعلم والثقافة في قلب العراق.
وفي لحظةٍ مهمةٍ ترتبط بشغف العلم وإشراق الحضارة، أجد نفسي مستوحىً بشدة للكتابة حول شخصية الحسن البصري، العالم الجليل الذي ترك بصمة لامعة في تاريخ الإسلام وثقافته، إن اختياري لهذه الشخصية العظيمة يأتي كمناسبةٍ خاصة، فهو رمز للعلم والتفوق، وقدوة لكل من يسعى إلى العلم والتقدم، إن الحسن البصري، بعلمه العميق وتفانيه في خدمة المعرفة، يشكل نقطة انطلاقٍ لكتابتي، حيث سأسعى لاستكشاف أفق الفكر وتجسيد تراث العراق والعالم الإسلامي من خلال تأملاتي ومقالاتي.
وفي لحظةٍ من لحظات العظمة والسرور، خرجت أم سلمة، زوجة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، تترقب مولوداً جديداً لتضيء حياتها بنوره وجماله، كانت قلوبهم مليئةً بالفرح والبهجة عندما وصلتهم بشرى قدوم الطفل المنتظر، الذي أنارت مولاته وخادمتها «خيرة» الأرواح بقدومه، عندما جاء الطفل الجميل إلى حضنهم، استقبلوه بأجمل التحايا وأعذب العبارات، فقد غمرت أم المؤمنين قلبها بحبه الذي انبثق من أعماق الوجود، كان الصبي يملك جمالاً فريداً، مليئاً بسحر الطفولة وبراءتها، وكانت نظراته تشع نوراً وسعادة، بهذه اللحظة العظيمة، استبشرت أم المؤمنين بقدوم الحسن، فأطلقت عليه هذا الاسم الجميل، الذي يحمل في طياته الجمال والعظمة، وينبض بروح النبل والطهارة، إنه الحسن، الذي يحمل في اسمه لوحةً من الجمال والنقاء، ويعكس قيم الإسلام وروح السلام التي تتجلى في شخصه النبيل.
وفي ظلال المدينة المنورة، وفي لحظةٍ عظيمةٍ من لحظات التاريخ، وُلد الحسن البصري، الإمام العظيم، والشخصية البارزة في ساحات الإسلام، كانت تلك اللحظة هي بداية رحلةٍ عظيمة، حيث تكون السماء مرصعة بنجوم الفرح، وتعطرت الأرض بعبق الأمل والتوقعات الجميلة، في سفره الرائع “تذكرة الأولياء”، وصف فريد الدين العطار الحسن البصري بأجمل العبارات، ووصفه بأسمى الصفات، إذ وصفه بأنه “ربيب النبوة ومعتاد الفتوة”، وبأنه “كعبة العمل والعلم”، و”خلاصة الورع والحلم”، وهو الإمام الذي كان يسبق الجميع بحكمته وعلمه، وينطق بالحق ويعيشه بكل تفاصيل حياته.
وقد تنبأت أم المؤمنين بالعظمة والنبل التي يحملها الحسن، فتعلقت به بكل محبة وودّ، ولم يكن هذا الفرح مقتصراً على بيت النبوة وحده، بل امتدت البهجة والسرور إلى ديار الصحابة، حيث غمرت دار الصحابي زيد بن ثابت رضي الله عنه أيضاً بعبق الفرح، وفي قلبه فرح وسعادة بقدوم الحسن البصري، وهو الطفل الذي أشرق شمس النور والفضيلة في سماء الإسلام.
كانت تلك اللحظة هي بدايةٌ لرحلةٍ كبرى، وإشارةٌ لمستقبلٍ مشرق، حيث برزت شخصية الحسن البصري كشمعةٍ تنير دروب العلم والتقوى في ساحات الإسلام، وكانت أصوات الفرح ترنو بأن الصبي الجميل سيكون له شأن عظيم في تاريخ الدين والعلم.
وتحت سقف بيت النبوة الشريف، وُلد الحسن البصري، الإمام العظيم الذي سطع نوره في سماء الدين والمعرفة، كانت لحظة ولادته لحظةً خاصةً، لا يمكن تجاوزها بسهولة، فقد جاء إلى الدنيا وهو مكللاً بقلادة النبوة والمعرفة، وعلى يد أم المؤمنين الطاهرة أم سلمة رضي الله عنها، نشأ وترعرع في حضن المحبة والإيمان، ومنذ نعومة أظفاره، كان الحسن يتألق ببريق الحكمة ونبل الأخلاق، فكان يتحدث بلسانٍ مهذب، ويتصرف بأدبٍ رفيع وحياءٍ عميق، كانت كلماته تنبعث منها عبق الطهارة والنقاء، وكأنها تردد أناشيد الإيمان والتقوى في كل لفظة ينطق بها.
وكانت تلك اللحظات المقدسة التي أطل فيها الحسن إلى الحياة، تحمل بين طياتها وعداً عظيماً، وكانت إشارةً لبدايةٍ جديدةٍ لعالم الدين والعلم، فكانت تلك اللحظة هي بدايةً لمسيرةٍ رائعةٍ من العطاء والتفاني، وكانت بشارةً بمستقبلٍ مشرقٍ مليء بنور العلم والإيمان.
وفي سرد القصص ورواية الحكايات، نجد صورة الحسن البصري تتألق ببريق النور، وتنطلق بشغفٍ وإيمان نحو آفاق العلم والدين، وهذا الصبي هو الحسن البصري، الرمز العظيم للتقوى والعلم في ساحات الإسلام، كانت حياته مليئة بالتقدير والتعظيم، فقد غمرته محبة الله ورسوله، فانبثقت من قلبه ينابيع الزهد والتفاني، وتجلى في سيرته النبيلة تطلعاتٌ عالية نحو مرضاة الله والابتعاد عن الدنيا الزائلة، الحسن البصري، أحد علماء الدين الكبار، كان قامة فذّة في عالم الفقه والسنة النبوية، حيث جسّد قيم الاستقامة والشجاعة، وعاش وفق مبادئ الدين والعدل، سكنت روحه الزهد والتفكير العميق في الأمور الدينية، واشتهر بفصاحته وحكمته التي كانت تعكس وسامة العلم والتفكير.
وقد انعكست عظمة الحسن البصري في سكنى المدينة الباسقة، حيث كانت شخصيته تتألق بين الناس وتحظى بإجلالهم واحترامهم، كان يتوجه إلى الولاة والحكام ببيان الحق والمعروف، دون خوفٍ أو تردد، وكان يتحدث بلسانٍ رشيقٍ يذكر بأقوال الأنبياء، ويبعث في نفوس الناس روح الإيمان والتقوى، وعندما استلم عمر بن عبد العزيز الخلافة، كان يعاني من تحدياتٍ كبيرة، فلجأ إلى الحسن البصري بطلب المساعدة والنصيحة، فأجاب الحسن بحكمةٍ وثقةٍ بالله، داعياً إلى الاعتماد على الله والاستعانة به في كل أمور الحياة، وهكذا، تألق الحسن البصري كقدوةٍ للعلم والدين، ورمزٍ للتقوى والحكمة، وسطعت شمسه في سماء الدين والمعرفة، دون أن يطمع في المال أو المكانة، بل كان يسعى فقط لرضى الله وخدمة الإسلام والمسلمين.
الرضا الإلهي
كما تجلى عبق التقوى والعمق الروحي في حياة الحسن البصري، الذي عاش في قلب الحزن والهموم، ليكون قدوةً تنير درب الباحثين عن الرضا الإلهي، كان الحسن البصري يتسم بالحزن الدائم، فقد كانت روحه مشرعةً للخشوع والخضوع، مختلطة برائحة الدموع التي انسكبت من عينيه خشية وتقديراً لربه العظيم، لم يكن حزنه مجرد عبث أو هواية، بل كانت تلك الحالة الروحية نابعةً من تقدير عميق لعظمة الله ومخافة العواقب.
وفي وقتٍ كان البعض يظنه عبثاً، كان الحسن يعلم أن الحياة ليست سوى محطة عابرة، وأن اللحظات المؤلمة تُذكرنا بفناء هذا الدنيا وقُرب يوم الحساب، لذا كان يُراقب أعماله ويُحاسب نفسه بشدة، خوفاً من يوم يتجلى فيه الحق بأسمى صوره، كان الحسن يقول ببساطة وعمق: “نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا”. كلماتٌ تنبعث منها رائحة التواضع والخضوع، تُذكرنا بأهمية الاعتراف بضعفنا وخطايانا أمام الله العظيم، وكما كان يقول الحسن: “أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي”، هذه الخوف النبيلة التي تتجلى في سيرته، تذكرنا بضرورة الاستعداد والتأهب ليوم الحساب، والعمل بجدية لكي نفوز برضا الله ورحمته.
وفي زمنٍ تغلغلت فيه الرغبات الدنيوية وانغمست القلوب في جمود الهوى، كان الحسن البصري يقف شامخًا في وجه التحديات، يدافع عن الحق بكل قوة وإصرار، دون أن يخشى أو يتردد، فقد كان له نهجٌ راسخ في مواجهة الظلم والطغيان، وكلمته كانت دائمًا مرفوعةً في سبيل الحق والعدل، وهكذا، يبقى الحسن البصري نموذجاً يحتذى به في الطاعة والورع، وفي النضج الروحي والتقوى، فقد بذل جهوداً كبيرة لترسيخ قيم الدين والعدل في قلوب الناس، وتبقى سيرته وذكراه خالدةً في قلوب المؤمنين، تُذكرنا بأهمية الاستمرار في السعي نحو الله والبحث عن رضاه في كل الأوقات والأماكن.
المنهجية
أنار الحسن البصري دروب التربية الإسلامية بنور الإيمان والعقل، كانت أقواله ومواقفه تعكس فلسفة تربوية أصيلة، تجسدت في محورين أساسيين يمثلان أساساً لأي تربية إسلامية رشيدة:
أولاً، كان الحسن البصري يشير بشكل متكرر إلى أهمية بناء الشخصية الإسلامية على أسس دينية صحيحة، كما كان يؤمن بأن جوهر التربية يتمثل في بناء شخصية قوية، تتمتع بالإيمان والقوة الروحية، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق التأكيد على قيم الإسلام والأخلاق الحميدة، فالتربية الإسلامية الحقيقية تهدف إلى تنمية الإيمان وتقوية العقيدة، وبناء شخصية إنسانية تسير على خطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً، كان الحسن البصري يركز بشدة على أهمية توجيه الشباب نحو العلم والمعرفة، كان يعتبر العلم والتعليم من أساسيات التربية الإسلامية، وكان يدعو إلى تعلم الدين والعلوم الشرعية كوسيلة لنهضة الأمة، فالعلم يمثل النور الذي ينير دروب الحياة، ويساهم في بناء مجتمع متقدم ومتعلم.
كما أن تجربة الحسن البصري تعتبر مصدر إلهام لكل من يسعى لبناء مستقبل واعد للأمة الإسلامية، فقد أظهرت حياته وأقواله إن النهوض بالأمة لا يكون إلا من خلال التمسك بقيم الإيمان والتعليم، وبناءً على هذه القيم يمكن أن نصنع جيلاً قادراً على مواجهة تحديات العصر بثقة وعزيمة.
في طريق البحث عن السلامة الروحية والنجاة في زحمة الحياة، يعتبر القلب مركز الاهتمام والعناية، فهو المملكة التي يسكنها الإيمان وتتجلى فيه الصفات النبيلة التي تحدد مصير الإنسان، ومن ذلك الفهم العميق لأهمية تصحيح وتطهير القلب، نستلهم دروساً قيمة من حياة وأقوال الحسن البصري، الذي كان يعتبر القلب مركزاً للإيمان ومصدراً للخير والشر، في كلماته وأقواله، نرى الحسن البصري ينقل لنا تجاربه ومعارفه في رحلة تطهير القلوب وتنقيتها من الشوائب، حيث يشدو بأسلوبه الشاعري والأدبي، قائلاً: “حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور”، وفي هذه العبارة ينقل لنا الفكرة العميقة بأن القلب يتأثر بسرعة بما يحيط به، فعلى الإنسان أن يحرص على تنقية قلبه وتصحيحه بشكل مستمر.
ومن ثم، يوجه لنا دعوة إلى “اقرعوا هذه الأنفس فإنها تنزع إلى شر غاية”، مؤكداً على أهمية مراقبة النفس والسعي لإصلاحها، حتى لا تنزلق نحو الشر والخطيئة، كان يحث الناس على تعزيز إيمانهم وثباتهم في الدين، معتبراً أن “الناس في العافية سواء”، وأن الاختبارات والبلاءات هي التي تبرز حقيقة الإيمان وتثبته، ثم يتوجه بدعاء ينم عن تواضعه وتوجهه الروحاني، حيث يطلب من الله تعالى تطهير قلوبنا وثباتنا على الإيمان، مؤكداً على أن القوة الحقيقية تكمن في قوة الإيمان والاستقامة، إن تلك الدروس والمواعظ التي نقلها الحسن البصري تظل مصدر إلهام وتوجيه لكل من يسعى للارتقاء بحياته الروحية وتصحيح طريقه نحو الله.
وفي نظرة الحسن البصري، تتجلى جميع تصرفات الإنسان وأخلاقه في حالة قلبه، فالقلب هو المركز الذي ينبع منه الإيمان وينبثق منه الخير والشر، ولذلك كانت رؤيته للتربية مرتبطة بشكل أساسي بتصحيح القلوب وإصلاحها، ومن هنا، نرى كيف أن منهجه التربوي ينطلق من الإيمان العميق بأن القلب هو محور السلوك والتصرفات، اتسمت نصائحه بأسلوب موجز ومعبر، حيث يُذكره بأهمية التقوى والاستعداد للحساب الآتي. وينبهه إلى خطورة الاستسلام لأفكار الشيطان والكسل والرغبة، مشدداً على ضرورة تقوية الإيمان واليقين لمواجهة هذه الأفكار والغلبة عليها.
ومن أقواله المأثورة، نجد تراثاً تربوياً غنياً، حيث يربط بين قوة الإيمان وقوة العمل، ويحث على الاستمرار في تطوير النفس ومحاسبتها بشكل دائم، وتتجلى في كلماته رؤية واضحة لعقيدة المسلم الصادق، حيث يرى في الذنوب سبباً للندم والتوبة، وفي العمل الصالح سبيلاً للقرب من الله وتحقيق النجاة، وهكذا، يظل إرث الحسن البصري في التربية والإصلاح ينطوي على دروس عميقة في تربية النفس وتصحيح المسار، مما يجعلنا نستلهم منه الكثير في رحلتنا نحو التطهير الروحي والنجاة في الدنيا والآخرة.
أما في حقل التربية والإصلاح، يتألق اسم الحسن البصري كنجم لامع في سماء التاريخ الإسلامي، حاملاً راية التقوى والإيمان بكل فخر واعتزاز، إنه الفقيه الرباني، الذي عاش وترعرع في بيئة الصحابة، واستمد من علومهم وسمو أخلاقهم، ليكون قدوةً للأجيال اللاحقة في سلوك الطريق الصحيح نحو الله، تجسدت رؤية الحسن البصري في التربية من خلال روحه النقية وقلبه السليم، حيث رأى في إصلاح القلوب أساس بناء المجتمع الإسلامي، بالنسبة له، لا يمكن تحقيق النجاح والتقدم إلا من خلال تصحيح المسار الداخلي وتطهير القلب من الأمراض الروحية، كانت أقواله ومواعظه تنبعث من عمق الإيمان وحسن النية، فكان يحث الناس على الاستقامة والتوبة، ويدعوهم إلى التأمل في أعمالهم وتصحيحها قبل يوم الحساب، وكان يعتبر القلب مركز العملية التربوية، حيث يجب أن تنبع جميع الأعمال الصالحة والطاعات من صفاء القلب ونقائه.
ومن أبرز أقواله التي تجسد هذه الفلسفة التربوية العظيمة: “إن القلوب إذا رغبت فقد أشركت، وإذا اطمأنت فقد توحدت”، وهذا يعكس رؤيته العميقة لأهمية السلام الداخلي والانسجام مع إرادة الله تعالى.
كان الحسن البصري يعتبر العلم والتعلم وسيلة لتقوية الإيمان وتحقيق الاستقامة، ولذلك كان يشجع على الاجتهاد في طلب العلم ونشر العلم النافع لخدمة المجتمع وتحقيق الخير العام، وفي ساحة التربية والمعرفة، بالتالي، يظل الحسن البصري واحة من العلم والحكمة، ينير الطريق للسالكين في دروب الإيمان والتقوى. إنه العلم الشامخ الذي جذب قلوب الباحثين عن الحق والمعرفة، وأصبحت معرفته مصدر إلهام وإرشاد للجميع.
وفي رحاب التربية، كان الحسن البصري قدوة ونموذجاً يحتذى به في سعيه لنشر العلم والإصلاح، فقد بدأ مسيرته التربوية بالدعوة بنفسه، وبتفاني وجد في البحث عن العلم وتحصيله، كان يعتبر العلم سلاحاً فعالاً في تحقيق الإصلاح ونشر الخير، ولهذا السبب أسهم بكل قوة في نشر المعرفة وتعميقها في أذهان الناس، كانت شخصيته العلمية المتميزة تجعله محط أنظار العلماء والطلاب على حد سواء، فكانت أقواله ومواعظه تتراقص على ألسنة الناس كأنغام الحكمة ونغمات الإيمان، ما جعله مصدر إلهام للكثيرين ومنبعاً للحكمة والعلم.
بالإضافة إلى ذلك، لقد شهد علماء عصره على علمه العميق وحفظه الوافر، حيث كانوا ينصحون الناس بالتوجه إليه للاستفادة من علمه وحكمته، كانوا يجعلونه قدوة في الفهم الصحيح للدين وتطبيقه في الحياة اليومية، ومع كلمات الإشادة والتقدير التي صاحبت سيرته، استمر الحسن البصري في تقديم العلم والإرشاد، حيث كان يبذل قصارى جهده في توجيه الناس نحو الحق والخير، وكانت مساهمته في نشر العلم واضحة كالشمس في سماء العلم والمعرفة.
وفي عالم التربية والتوجيه، يتألق الحسن البصري كنجم لامع، ينشر نور العلم والحكمة في سماء الإسلام، فهو ذلك الداعية الذي لا يعرف للكلل والملل سبيلاً، تتجلى همته العظيمة في توجيه الناس نحو الله والخير، وتحديد السلوكيات السلبية التي تعود إلى نقص في التربية والتعليم، كان الحسن البصري طبيب القلوب الذي يشخص الأمراض ويصف الدواء، حيث كان يبحث عن جذور المشاكل ويعمل على علاجها بالعلم والإيمان، فقد تجلت حكمته في توجيهاته العميقة التي تشير إلى أهمية التفكير في الآخرة والسعي للخير في الدنيا، كانت مواعظه ونصائحه تنبعث منها رائحة اليقين والإيمان، حيث كان يحث الناس على التفكير في مصيرهم الروحي وضرورة الاستعداد للحياة الآخرة، لقد كان يدعو الناس إلى التوبة والاستغفار، وكان يذكرهم بأن الدنيا مجرد محطة عابرة في طريقهم إلى الآخرة.
كانت شخصيته العلمية والروحانية تجذب الناس إليه، حيث كان يُعتبر مصدراً للعلم والحكمة، كما كان يحظى بتقدير العلماء والطلاب على حد سواء، وكانت معرفته الوافرة وحكمته العميقة تجعله قدوة للجميع في السعي نحو الخير والتقوى.
وفي رحاب تربية الإسلام، يظهر الحسن البصري كقامة عظيمة تنبض بالحكمة والوعظ، متأملاً في أعماق الدين ومقاصده، ومستلهماً من روح التسامح والرحمة التي تتسم بها الشريعة الإسلامية، بينما يحرص على تقدير دور السلوك وأهميته، فقد رفض الحسن البصري بشدة كل أشكال الإفراط والتطرف، وتبذ التشدد والتنطع في تطبيق شرائع الدين، وأكد على أهمية الوسطية والاعتدال في التعامل مع الأمور، مبتعداً عن الغلو والتطرف الذي يمكن أن يؤدي إلى العنف والظلم، وفي زمن اضطرابات ابن الأشعث، الذي قاتل الحجاج وارتكب الفساد وسفك الدماء بلا رحمة، استشاره الناس الحسن بصري بشأن قتله، لكن بدلاً من التشجيع على العنف والثأر، نصح الحسن بالصبر والتسامح، مشدداً على أن أخذ الحق يعود لله وحده، وأن الانتظار هو الطريقة الصحيحة للتعامل مع البلاء.
كما تعتبر هذه الحكمة والرؤية السديدة من أبرز سمات الحسن البصري كمربي وداعية، حيث بنى مفهوماً تربوياً متكاملاً ينبعث منه السلام والتفاهم، وعكس مبادئ الإسلام السامية التي تدعو إلى العدل والمساواة والرحمة، وبهذه الطريقة، فقد قدم الحسن البصري إرثاً تربوياً ثرياً يستمد قوته من عمق الدين ومرونته، ملهماً الأجيال بروح التوازن والحكمة، تاركاً خلفه أثراً يستمر عبر الأجيال.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.