تتضمن الشريعة الإسلامية والقوانين الوطنية العديد من الأحكام والمبادئ التي تنظم تفاعل الفرد مع القرارات الإدارية، حيث تهدف إلى تحقيق العدالة وضمان حقوق الأفراد بما يتماشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية والقانون، ومن بين هذه الأحكام، تم توجيه النظر فيما يتعلق بنفاذ القرارات الإدارية ومتى ينبغي أن يصبح القرار نافذاً في حق الأفراد.
وتشمل الأحكام الشرعية والقانونية النظر في آليات إثبات معرفة الأفراد بالقرارات الإدارية، حيث يتم تحديد الطرق المقبولة لإثبات العلم اليقيني بالقرار والتي يمكن أن تكون متعلقة بالاعتراف الصريح، أو التظلم، أو تنفيذ القرار، أو الطعن فيه، أو المراسلات بين الفرد والجهة الإدارية، أو نشر القرار الإداري.
وتُؤكد الأحكام الشرعية والقانونية على مبدأ عدم جواز رجعية القرارات الإدارية، حيث يكون نفاذ القرار من تاريخ علم الفرد به، ولا يجوز تطبيق القرار بصورة رجعية على الأحوال السابقة لصدوره، ويجب أن يُعلم الفرد بمضمون القرار الذي يمس مصالحه وحقوقه، وذلك وفقاً لمبادئ العدالة والشرعية التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين سلطات الإدارة وحقوق الأفراد، ولهذا، سنتناول في هذا النص تحليلًا شاملاً للمبادئ الشرعية والقانونية التي تنظم نفاذ القرارات الإدارية وآليات إثبات معرفة الأفراد بها، مع التركيز على مبدأ عدم جواز التطبيق الرجعي للقرارات وضرورة إعلام الأفراد بحقوقهم ومصالحهم وفقاً لأحكام الشريعة والقانون.
بالتالي، تصدر الإدارة قرارات تؤثر على الموظفين والعمال والأفراد الآخرين، ويضمن الدستور والقانون حق الأفراد في التظلم من تلك القرارات إذا كانت تؤثر على حقوقهم ومصالحهم الشخصية والقانونية، حيث يجب على الأفراد أن يكونوا على علم بالقرارات المتعلقة بهم لكي يتمكنوا من ممارسة هذا الحق، لكن عندما يكون العامل غير على علم بالقرار الإداري الذي يؤثر عليه، فإن سريان ذلك القرار يبدأ عندما يتعرف عليه رسمياً، حينها يمكن أن تقدم الوثائق والأدلة التي تثبت عدم علم العامل بالقرار دعماً لهذا الاستنتاج، في بعض الحالات، قد تختلف المحاكم المختصة في النظر في قضايا متعلقة بالاختصاص القضائي، ويتوجب على الأطراف تقديم الأدلة والحقائق للمحكمة لتحديد الاختصاص المناسب في القضية.
من خلال ما ورد أعلاه، إن المقصود بـ “المعني بالأمر” هو الفرد المتأثر بالقرار الإداري الذي يؤثر على مركزه القانوني وحقوقه ومصالحه، أما المقصود بـ “المعرفة المؤكدة” بالقرار الإداري، فيشير إلى معرفة الفرد بمضمون القرار وبنوده وعناصره وأسبابه ومحتوياته ومرفقاته بطريقة ثابتة وشاملة، حيث يجب أن تكون هذه المعرفة علماً مؤكداً يقينياً واضحاً، متجنباً الجهالة، ويتيح للفرد تحديد موقفه ومركزه القانوني بشكل دقيق، إذا تم تأكيد المعرفة المؤكدة للفرد المعني بالأمر بالقرار الإداري، فإن هذه المعرفة تكافئ الإشعار الرسمي بالقرار، وهذا ما يُعتبر مبدأ نظرية المعرفة المؤكدة التي تطبقها بعض المحاكم في مصر.
تنص شروط تطبيق نظرية المعرفة المؤكدة بالقرار الإداري على:
الشرط الأول: يجب أن تكون المعرفة بالقرار معرفة قطعية ومؤكدة يقينياً، دون أي شكوك أو افتراضات، وهذا ما أكده القضاء في المحكمة الإدارية العليا في مصر.
الشرط الثاني: أن تكون المعرفة بالقرار شاملة لجميع بنوده ومحتوياته وعناصره وأسبابه، بحيث يمكن للمعني بالأمر تحديد موقفه القانوني من القرار بشكل دقيق.
ولم يحدد الفقه والقانون طرقًا محددة لإثبات العلم اليقيني بالقرار الإداري، ولكن القضاء الإداري في اليمن ومصر وفرنسا اعتاد على الاعتماد على مجموعة من وسائل الإثبات التالية:
1- الاقرار بواسطة صاحب الشأن: يمكن أن يكون الاعتراف صريحًا أو ضمنيًا، وقد يكون كتابيًا أو شفهيًا، ولا يُشترط أن يتم في مكان معين أو في حضور القضاء.
2- التظلم من قبل صاحب الشأن: يعتبر التظلم دليلاً على معرفة صاحب الشأن بالقرار الذي يظلم منه.
3- تنفيذ صاحب الشأن للقرار الإداري: يُعتبر تنفيذ القرار دليلاً على معرفة صاحب الشأن به.
4- الطعن في القرار أو المطالبة بإلغائه: يُعتبر طعن صاحب الشأن في القرار أو طلب إلغائه دليلاً على معرفته بالقرار.
5- المراسلات بين صاحب الشأن والجهة الإدارية: قد تحتوي المراسلات على دلائل توضح معرفة صاحب الشأن بالقرار الإداري.
6- نشر القرار الإداري: يُشترط أن يُنشر القرار في صحيفتين محليتين، وفي بعض الحالات يُشترط النشر في الجريدة الرسمية، ويُشترط أن يكون النشر شاملاً لتفاصيل القرار حتى يتمكن صاحب الشأن من معرفة كيفية الطعن فيه.
7- الشهادات: يُعتمد في بعض الأحيان على شهادات الشهود لإثبات معرفة صاحب الشأن بالقرار الإداري.
بالتالي، إن حكم القضاء بأن القرار الإداري لا يصبح سارياً في حق الأفراد إلا من تاريخ علمهم اليقيني بالقرار، وقد سبق ذكر طرق تثبت علم صاحب الشأن بالقرار الإداري، ومن مبادئ نفاذ القرار الإداري من تاريخ العلم اليقيني به مبدأ عدم جواز تطبيقه رجعياً على الحالات السابقة لصدوره، وبالتالي، يُضاف في الجزء الأخير من القرار الإداري عبارة “(يطبق اعتباراً من تاريخ صدوره)”.
وعلى الرغم من أن القاعدة العامة هي نفاذ القرارات الإدارية من تاريخ صدورها، فإنه يمكن تأجيل نفاذ بعض القرارات التنظيمية إلى وقت لاحق من تاريخ صدورها، لأن نفاذ هذه القرارات يتطلب وقتاً وإجراءات تنفيذية تستدعي تأجيل النفاذ إلى المستقبل.
من هنا، نرى أن أهمية التوازن بين سلطات الإدارة وحقوق الأفراد في ضوء الأحكام الشرعية والقانونية التي تنظم نفاذ القرارات الإدارية. فالشريعة الإسلامية والقوانين الوطنية تسعى جميعها إلى تحقيق العدالة وحماية حقوق الأفراد، وتنظيم عمل الإدارة بما يحقق توازناً بين احترام السلطات العامة وضمان حقوق المواطنين.
بالتالي، إن أهمية تطبيق مبدأ عدم جواز التطبيق الرجعي للقرارات الإدارية، وضرورة أن يكون نفاذ القرار مشروطًا بمعرفة الأفراد به، وذلك لحماية مصالحهم وضمان تمتعهم بحقوقهم بشكل ملائم. ومن المهم أيضًا فهم الآليات المتاحة لإثبات معرفة الأفراد بالقرارات الإدارية، والتي يجب أن تكون متوافقة مع الأحكام الشرعية والقانونية، كما يجب على الإدارة أن تكون شفافة ومتعاونة مع المواطنين في توضيح مضمون القرارات الإدارية والمعلومات المتعلقة بها، وتوفير الإجراءات اللازمة للطعن فيها والاعتراض عليها بشكل ملائم. إن تحقيق هذا التوازن يعكس التزام الدولة بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان، ويسهم في بناء مجتمع يسوده العدل والمساواة بين جميع أفراده.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.