إنَّ المتتبع للنِّظام الأساسي للدَّولة وخطابات جلالة السُّلطان المُعظَّم، ومستهدفات رؤية «عُمان 2040» وما حفلَت به جميعها من إشارة صريحة أو ضمنيَّة إلى المبادئ العامَّة لسياسة الدَّولة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، ومنظومات القِيَم والأخلاق والهُوِيَّة والمواطنة والسَّمت العُماني، والنَّهج العُماني الأصيل والثَّابت في ممارستها على المستوى الداخلي والخارجي، يتأكَّد لدَيْه بأنَّ الثَّوابت العُمانيَّة خط أحمر لا يصحُّ تجاوزها، أو محاولة العبَث بها بأيِّ شكلٍ من الأشكال، ويؤكِّد في الوقت نَفْسه على أن تكُونَ الثَّوابت الوطنيَّة خارج مقاييس الموازنات العامَّة والمعايير المادِّيَّة؛ لكونها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن الوطني، والهُوِيَّة العُمانيَّة وسلطنة عُمان القيادة والحكومة والدَّولة والأرض والإنسان، وأنَّ القصور أو التنازل في تحقيق المسؤوليَّة الوطنيَّة بشكلٍ صحيح بما يحافظ على مُكوِّنات المُجتمع ومكتسبات النَّهضة وممكّنات البناء الوطني، سوف يتَّجه بالمُجتمع نَحْوَ الخطر، ونتائج كارثيَّة يتنازل فيها المُجتمع عن عقيدته ومبادئه وثوابته الَّتي تشكِّل شخصيَّته وتحافظ على مسافة الأمان لدَيْه، لذلك نعتقد بأنَّ التوجُّه نَحْوَ تقنين الموارد وحوكمة الأداء الوطني وتعزيز الاستدامة الاقتصاديَّة ورفع درجة الجاهزيَّة المؤسَّسيَّة، لا يجِبُ أن يؤثِّرَ سلبًا على استمرار الثَّوابت الوطنيَّة والمحافظة على وجودها وكفاءة الإجراءات ومعايير الرقابة والمتابعة الَّتي تقوم بها المؤسَّسات الأمنيَّة والمدَنيَّة والعسكريَّة وفق اختصاصاتها، ذلك أنَّ ما تؤدِّيه هذه الثَّوابت من دَوْر في المحافظة على المكاسب الوطنيَّة والخصوصيَّة والسَّمت العُماني وصناعة التوازنات الشخصيَّة العُمانيَّة؛ أكبر من اختزاله في رقم معيَّن كعائد مادِّي أو ربحي تعُودُ عوائده على الموازنة العامَّة للدَّولة، ولنَا في حجْم السُّقوط الأخلاقي الَّذي يعيشه عالَمنا المعاصِر، النَّاتج عن جرائم الاحتلال الصهيوني وعدوانه على غزَّة، وحربه على الشَّرف والفضيلة والإنسانيَّة والقِيَم والمشتركات، خير دليل يؤكِّد على أهمِّية التكامليَّة بَيْنَ منظومات المُجتمع الدينيَّة والثقافيَّة والفكريَّة والتعليميَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة في بناء شخصيَّة النَّشء ومحافظته على الثَّوابت العُمانيَّة نَحْوَ فلسطين والإنسانيَّة جميعًا.
وعِنْد الحديث عن البناء الفِكري للنَّشء يأتي «المسجد» الَّذي صبغ حياة العُمانيِّين وكوَّن شخصيَّاتهم على مَرِّ العصور، ليس فقط باعتباره مكانًا للذِّكر والعبادة، ولكن للدَّوْر التَّربوي والثَّقافي والإنساني والفِكري والاجتماعي الأخلاقي الَّذي يؤدِّيه في حياة المُجتمع العُماني عامَّة والأُسرة العُمانيَّة المُسلِمة بشكلٍ خاصٍّ؛ وتعزيز دَوْره في صناعة التحوُّل، وإعادة هندسة السلوك الاجتماعي والدِّيني للنَّاشئة، يؤكِّد الحاجة اليوم إلى إعادة إنتاج دَوْر المسجد في مواجهة التحدِّيات الفكريَّة والنَّفْسيَّة والأخلاقيَّة الَّتي تتعرض لها النَّاشئة، بما يضْمَن تعظيم رسالة المسجد في صناعة التَّغيير وإدارة التحوُّلات وإنتاج الفرص وبناء القوَّة وتفعيل الدَّوْر التَّربوي والتَّوجيهي والتَّعليمي والوعظي لأئمَّة المساجد، بحيث تُشكِّل منظومة حوكمة الأداء محطَّة داعمة لِتَثبيتِ دعائم ومرتكزات هذا الدَّوْر المحوري القادم وتطويره في رسالة المسجد، ما يؤكِّد على أنَّ ما يظهر من توجُّهات لدى وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة الموقَّرة بشأن تقنين الإنفاق واعتماد نفقة أئمَّة المساجد على مداخيل المسجد والمحالِّ التجاريَّة التَّابعة له، وما أدَّى به هذا التوجُّه من التسرُّع في سحْبِ أئمَّة المساجد من المساجد الَّتي لا تُصلَّى فيها صلاة الجمعة دُونَ تقييم للوضع أو دراسة لِمَا قَدْ ينتج عَنْه من اختلالات في موازين الثَّوابت والمرتكزات العُمانيَّة ودُونَ مراعاة للمتغيِّرات الَّتي تُشكِّل هذه الصورة بَيْنَ منطقة وأخرى، ومناطق الإسكان القديمة ومخطَّطات الإعمار الجديدة والَّتي تشهد تسارعًا في العمران وتنوُّعًا في المشارب الثقافيَّة والفكريَّة بَيْنَ السكَّان، وما أثاره هذا الأمْرُ من تساؤلات، وأثاره من مواقف وأحداث باتَتْ تتَّجه نَحْوَ مسارات غير آمنة وتوجُّهات غير سارَّة، ما يؤكِّد اليوم على أنَّ مسألة التَّطوير والحوكمة يجِبُ أن تؤطَّرا في إطارهما الصَّحيح من غير أن تفقدَ الخصوصيَّة العُمانيَّة موقعها ومكانتها أو احترامها أو ثباتها واستدامتها، بل أن تضْمنَ استمراريَّة هذه الثَّوابت لحفظ كيان المُجتمع وتعزيز بنائه الفِكري.
وبالتَّالي ما يعنيه هذا المسار من استشعار حجْم الدَّوْر الَّذي تؤدِّيه رسالة المسجد في بناء هذه التَّوازنات في حياة الفرد، إذ يمارس المسجد مع التَّعليم عالي الجودة والإعلام المحترف صورة نموذجيَّة لبناء الإنسان القادر على العيش في عالَم متغيِّر، ويتعايش مع تناقضات وظروف مختلفة، ما يُسهم في إحداث نقلةٍ نوعيَّة في حياة النَّشء وتأصيل منهجي عقدي وفكري وفلسفي وعلمي ومفاهيمي رصين، يصنع في دوافع الإنسان الإيجابيَّة هرمون النَّجاح، إذ يُمثِّل المسجد بذلك حقنة الأنسولين الَّتي إذا ما أضيفت للجسد أعطته قوَّة ونشاطًا واستطاعت أن تصنعَ في الممكنات الأخرى كالتَّعليم والإعلام روحًا تغييريَّة أكثر استدامة وقوَّة. فمفعول المسجد وتأثيره لا ينتهي بانتهاء الحالة، وروح التَّغيير الَّتي تلازمه وتلتصق به ستظلُّ خيوطًا ممتدَّة تنتقل للفرد في كُلِّ مراحله، وتجسِّد مواقفه، وتحكمه في ظروفه وانفعالاته؛ فإنَّ الميزة التنافسيَّة الَّتي يحتويها المسجد؛ كونه رابطة إيمانيَّة إنسانيَّة، فهو أيضًا مشترَك قِيَمي ومؤتلَف إنساني، يقدِّم صورة مبتكَرة يتجلَّى غراسها في حياة الإنسان، الأمْرُ الَّذي يؤكِّد على أهمِّية البحث في إعادة إنتاج رسالة المسجد ودَوْر أئمَّة المساجد انطلاقًا من أنَّ المسألة ليست مقتصرة على الصَّلاة فيه أو استفتاء النَّاس، بل بما يقدِّمه وجود الأئمَّة من احتواء اجتماعي وعاطفي وإنساني وأخلاقي ودِيني، ورفع درجة الضبطيَّة الأخلاقيَّة والقِيَميَّة الَّتي ستُشكِّل رادعًا للإنسان من الوقوع في المحظور، ويصبح وجود أئمَّة المساجد المؤهَّلة والمدرَّبة والمُعدَّة لصناعة التَّغيير وبناء إرادة التحوُّل في سلوك النَّاشئة، الطَّريق لإعادة الهيبة لرسالة المسجد، والانتصار للقِيَم والأخلاق ولُغة الحوار المُجتمعي والعائلي ومشاركة المسجد وإسهامه الفاعل في توعية مُجتمع طلبة التَّعليم وتوجيههم حَوْلَ قضايا المخدِّرات والابتزاز الإلكتروني والدِّعاية والإعلانات ومواجهة الإشاعات، وضبط النَّفْس عِنْد الغضب، وانتقاء خير الأصحاب، والإيمان بالثَّواب والعقاب، كُلُّ ذلك وغيره سوف يصنع محطَّة قوَّة تُعِيد إنتاج دَوْر المسجد بشكلٍ أكثر تناغمًا مع الواقع مع المحافظة على الثَّوابت والمرتكزات وإنتاجيَّة الأحكام بشكلٍ يتكيَّف مع معطيات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والتَّنموي.
إنَّ ما يحصل اليوم من موجات التَّشويه للثَّوابت والقِيَم العُمانيَّة، سواء بشكلٍ متعمَّد مقصور أو غير ذلك، وما باتَ يُثار عَبْرَ التقنيَّات والمنصَّات الاجتماعيَّة حَوْلَ بعض الرموز الوطنيَّة، ممَّا يجِبُ التصدِّي له لِمَا لذلك من تداعيات على الأمن والاستقرار والمحافظة على استدامته تتطلب غرس الوعيِ المُجتمعي وترقيته وتأصيله وتأطير البِناء الفِكري والعقَدي لدى النَّاشئة العُمانيَّة، والَّتي يُشكِّل المسجد مع التَّعليم والإعلام والأُسرة دَوْرًا كبيرًا في المحافظة عَلَيْها، لذلك فإنَّ الحديث اليوم عن الثَّوابت والقِيَم والمرتكزات العُمانيَّة والتَّأكيد السَّامي لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم في افتتاح دَوْر الانعقاد الأوَّل من الدَّوْرة الثَّامنة لمجلس عُمان في الرَّابع عشر من نوفمبر 2023، بقوله: «إنَّنا إذ نرصُد التحدِّيات الَّتي يتعرَّض لها المُجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقيَّة والثقافيَّة؛ لَنؤكِّد على ضرورة التصدِّي لها، ودراستها ومتابعتها، لِتَعزيزِ قدرة المُجتمع على مواجهتها وترسيخ الهُوِيَّة الوطنيَّة، والقِيَم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأُسرة؛ لكونها الحصنَ الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتِّجاهات الفكريَّة السلبيَّة، الَّتي تخالف مبادئ دِيننا الحنيف وقِيَمنا الأصيلة، وتتعارض مع السَّمْت العُماني الَّذي ينهلُ من تاريخنا وثقافتنا الوطنيَّة»؛ الطَّريق لِتَعظيمِ دَوْر المسجد في التَّنشئة والتربية والوعي، وإعادة هيكلة وإنتاج دَوْر ومسؤوليَّة أئمَّة المساجد ليكُونُوا أكثر قربًا من النَّاشئة، وتعظيم دَوْر مدارس القرآن الكريم لِتُشكِّلَ محطَّات تحوُّل في صناعة التَّغيير وبناء الحافز لَهُم للاستقامة الدينيَّة والتَّوازنات الفكريَّة، فإنَّ دَوْر أئمَّة المساجد في ظلِّ تزايد حجْم التحدِّيات والظواهر الفكريَّة والنَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والتَّأثير الَّذي باتَتْ تُحدِثه المنصَّات الاجتماعيَّة وأصحاب الأفكار المُنحرِفة على أخلاق النَّشء، يستدعي حضورًا نَوْعيًّا ومؤثِّرًا لمنظومة الوعظ والإرشاد والتَّوجيه الدِّيني لِتشاركَ المدرسة والإعلام والأُسرة مسؤوليَّة التَّعاطي معها وإدارتها وضبطها، في وحدة الصَّف، واستثمار الكفاءات، والتَّثمير في موارد المسجد، وإعادة إنتاج الدَّوْر الاجتماعي والثَّقافي والعِلمي للمسجد عَبْرَ مبادرات أئمَّة المساجد في ضمان الاستفادة من كُلِّ الفرص البَشَريَّة والمادِّيَّة والمعنويَّة والمسؤوليَّة الاجتماعيَّة وتوجيهها لصالحِ المسجد والحيِّ السَّكني المحيط به، بما يُسهم في تعميق روح التَّضامن والتَّعاون والتَّكافل الاجتماعي بَيْنَ أبناء الحيِّ، وهي مرتكزات أصيلة وثوابت بحاجة إلى المتخصِّصين والكفاءات والقيادات الدينيَّة الَّتي ترفع من سقف التوقُّعات بما يقدِّمه المسجد من فرص جمْعِ أهْلِ الحيِّ السَّكني على كلمة سواء، وإعادة إنتاج السُّلوك الفردي والمُجتمعي في ظلِّ التَّراكمات النَّفْسيَّة والاقتصاديَّة والمُشْكلات الأُسريَّة وتصدُّع العلاقات الاجتماعيَّة الَّتي باتَتْ تسيطر على حياة النَّاس، ويُمكِن لرسالة المسجد أن تؤدِّيَ دَوْرها في إعانتهم ورفع المشقَّة عَنْهم، وفتح آفاق الأمل والحياة لَهُمْ في استشعار إيماني بالمسؤوليَّة الأخلاقيَّة والإنسانيَّة والاجتماعيَّة والدعويَّة الَّتي تقدِّمها رسالة المسجد.
عَلَيْه، كان يجِبُ أن تقرأَ جهود الحوكمة الَّتي انتهجتها رؤية «عُمان 2040» وعملت بمقتضاها وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة الموقَّرة في إعادة هندسة الاختصاصات ورفع سقف التوقُّعات وتأصيل البناء العقَدي والفِكري للنَّاشئة في ظلال القرآن الكريم والسنَّة النَّبويَّة المطهَّرة، وتأهيل أئمَّة المساجد وتدريبهم وإدماجهم في مُجتمع المُعلِّمين والمرَبِّين والدُّعاة والتربويِّين لِيقُوموا بدَوْرهم في توجيه النَّشء وتعليمهم ومساعدتهم في مواجهة التحدِّيات الفكريَّة والظواهر السلبيَّة، واستنطاق القِيَم الدينيَّة والأخلاق والمبادئ الشرعيَّة وربطها بالهُوِيَّة العُمانيَّة والسَّمْت العُماني في سبيل تعزيز الوعي الاجتماعي والأُسري والرقابي، الطَّريق لترسيخِ الوازع الدِّيني الَّذي يصنعه المسجد، وتبنيه التَّربية السَّليمة والتَّنشئة الدينيَّة المُلهِمة، الَّتي تقف بكُلِّ صلابة وثِقة وإيمان ومنهج حياة في وجْهِ ثورة سلبيَّة الواقع، وتنشِّط فرص الإيجابيَّة والاحتواء المنطلِقة من روح القرآن وهدي سيِّد الأنام محمد رسول الله ـ عَلَيْه أفضل الصَّلاة والسَّلام.
د.رجب بن علي العويسي