في ظلِّ ما يُثار من حديث حَوْلَ ضَعف وتراجُع القوَّة الشرائيَّة في الأسواق المحلِّيَّة، سواء في المولات والمراكز التجاريَّة الكبيرة أو كذلك المحال التجاريَّة المتوسِّطة والصَّغيرة. ومع تعدُّد وتنوُّع الأسباب المؤدِّية إلى هذا الأمْرِ، خصوصًا في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمُسرَّحين من أعمالهم، وما يعنيه ذلك من أنَّ نسبة كبيرة من الشَّباب ممَّن هُمْ في سنِّ الإنتاجيَّة والعطاء مغيَّبون عن الإنتاج أو حضورهم كقوَّة شرائيَّة، فَهُمْ لا يعملون، ولا يمتلكون من الموارد ما يُعزِّز حضورهم في سُوق العمل، في مُجتمع تصلُ فيه نسبة الفئة (0- 29) إلى (70%) من السكَّان، ناهيك عن ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وبقاء دخل الفرد على مستوياته أو انحساره في ظلِّ معطيات العمل بمنظومة الحماية الاجتماعيَّة، الأمْرُ الَّذي قلَّل من القدرة الشرائيَّة لمختلف فئات المُجتمع وتركيزها على الأولويَّات والضرورات الحياتيَّة المعيشيَّة اليوميَّة بعيدًا عن الكماليَّات والمتطلبات الثانويَّة والخدمات الأخرى المعَبِّرَة عن الرَّفاه الاجتماعي خارج نطاق المستلزمات الشرائيَّة الغذائيَّة والحاجات الأساسيَّة، هذا الأمْرُ يأتي أيضًا في ظلِّ اهتمام المتسوِّقين بعروض التَّخفيضات في المراكز والمولات، إذ القوَّة الشرائيَّة أصبحت مرهونةً بفُرَص عروض الأسعار الَّتي تُتيحها هذه المراكز فقط، بَيْنَما تشهد في فترات أخرى ضمورًا وتراجعًا في حركة التسوُّق، على أنَّ تداعيات رفْع الدَّعم عن الكهرباء والماء وارتفاع الفواتير وأسعار الاتِّصالات، لِتُضيفَ ضريبة القِيمة المضافة إلى هذه الأحداث فصولًا من الظروف والمعاناة لهَا أثَرُها على القوَّة الشرائيَّة للمواطن.
هذا الأمْرُ يأتي في ظلِّ استمرار البنوك التجاريَّة في سياستها الربحيَّة الصِّرفة المُستغِلَّة للمواطن في أصْعَبِ الظروف وأحْلَكِ المواقف، خصوصًا في ظلِّ ارتفاع القروض الشخصيَّة والالتزامات البنكيَّة للمواطنين وغياب المرونة الاقتصاديَّة أو التَّسهيلات الَّتي يقرُّها البنك المركزي كتثبيتِ سعر الفائدة في القروض الإسكانيَّة والتجاريَّة، والإعفاء من القرض بعد مرور نصف المدَّة أو فتح المجال للجمعيَّات الخيريَّة ذات الصِّلة بالقروض ودفع الالتزامات البنكيَّة وتحرير المواطن من ربقة الدَّين وقيوده المؤلِمة؛ لِتُشكِّلَ ظاهرة ارتفاع الأسعار هاجسًا للمواطن عامَّة والفئات ذات الدَّخل المحدود والفئات المُعسِرة والفئات الدَّاخلة ضِمْن منظومة الحماية الاجتماعيَّة والمتقاعدين من الدَّرجات الماليَّة المتدنِّية والمُسرَّحين من أعمالهم، يُضاف إِلَيْها الإجراءات الأخرى المُتعلِّقة بالأنشطة الاقتصاديَّة والصِّناعيَّة والتِّجاريَّة ومشروعات الشَّباب، والمؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة، والسِّياسات التمويليَّة لِبنكِ التَّنمية العُماني. فالاعتماد الكُلِّي على الرَّاتب الشَّهري، وغياب الفُرَص الاقتصاديَّة خارج الرَّاتب، قلَّل من فُرَص وجود فائض في الموارد يُمكِن ادِّخاره واستثماره. وبالتَّالي إلى أيِّ مدى كان لهذِه المعطيات تداعياتها على الواقع الاجتماعي والقوَّة الشرائيَّة للمُجتمع، وما الصُّورة الأخرى الَّتي باتَتْ تعكسها على السُّلوك الاستهلاكي العام؟
إنَّ استقراء الآثار والتَّداعيات النَّاتجة عن هذه المعطيات الاقتصاديَّة يؤسِّس لِمَرحلةٍ متقدِّمة من العمل الوطني الموَجَّه نَحْوَ قراءة الحالة الاقتصاديَّة في إطار المنظومة الاجتماعيَّة وعلاقتها بمكوِّنات وممكنات النَّسيج الاجتماعي الوطني، بمعنى أنَّ ضَعف القوَّة الشرائيَّة وارتفاع الحركة الاقتصاديَّة ليست حالة منفصلة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي، بل من الأهمِّية الوقوف عِنْد كُلِّ محطَّات التحَوُّل الَّتي يعيشها الإنسان العُماني والتحدِّيات والظروف الَّتي يعيشها، والحالة المعيشيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والاستهلاكيَّة، والعادات والتَّقاليد وتأثيرها على قواعد الاستهلاك وعلاقتها بانخفاض وارتفاع القوَّة الشرائيَّة، لذلك فإنَّ أيَّ سياسات أو توجُّهات أو إجراءات اقتصاديَّة يتمُّ اتِّخاذها يجِبُ أن تأخذَ في الحسبان قِيَم المُجتمع وهُوِيَّته والظُّروف الاجتماعيَّة والحالة المعيشيَّة للمواطن وحجْم الدَّخل، والمرونة الاقتصاديَّة المُتاحة للمواطن بحيث يتمُّ توجيهُ الفائض المالي في الموازنة العامَّة للدَّولة في رفْع مستوى معيشة المواطن ومساعدته على إحداث التَّغيير في سلوكه الاستهلاكي بناءً على حجْمِ ما يدخل في قَيْدِ راتبه الشَّهري من مُحفِّزات ودَعْم.
وفي ظلِّ هذه المعطيات يبقى التَّأكيد على أهمِّية العمل الوطني المشترك في بناء استراتيجيَّات عمل منتِجة، والبحث عن بدائل مقنِعة مقنَّنة، وحلول استراتيجيَّة مستدامة تقف عَلَيْها، وسياسات وطنيَّة تقرأ منظومة الحماية الاجتماعيَّة لكُلِّ هذه الفئات في إطار أكثر اعتدالًا وشموليَّة واتساعًا وعُمقًا واحترافيَّة؛ بالإضافة إلى أهمِّية توجيه مسار الإجراءات الاقتصاديَّة بطريقة تضْمن حماية كيان المُجتمع والمحافظة على نسيجه الاجتماعي وروح الانتماء والولاء الَّتي يتمتع بها، وتقوية فُرَص التَّكافل الاجتماعي وتنشيط نظام الحماية الاجتماعيَّة لِصَالحِ جودة حياة المواطن، وعَبْرَ إحداث تحَوُّلَات في نمط الاستهلاك الأُسري وتقنينه وضبط الموارد وحُسن توجيهها وتعزيز الاقتصاد الذَّاتي الموَجَّه نَحْوَ الاستثمار في الخبرات والأفكار وإدارة المشروعات الاستثماريَّة للأُسرة والتَّسويق لمهارات أفرادها، وتوجيه الخطط الاقتصاديَّة نَحْوَ الإعلاء من هذا الدَّعم، وتعزيز الفُرَص والبدائل الَّتي تُتيح للأُسر التَّفكير في موارد رزق أوسع.
إنَّ التَّفكير خارج روتين الواقع ووصفاته غير المريحة يؤكِّد الحاجة إلى تعزيز الفُرَص النَّاعمة في هذا الشَّأن والَّتي تتجسَّد في الاهتمام بالجمعيَّات التَّعاونيَّة باعتبارها الخيار الأفضل والعملي والأمن الدَّاعم لِتَنشيطِ القوَّة الشرائيَّة والخروج من حالة الركود الاقتصادي، وأن تشهدَ المرحلة الحاليَّة والمُقبلة جهدًا آخر خارج أجهزة الحكومة ومؤسَّساتها، وعَبْرَ تبنِّي سياسات وطنيَّة تؤكِّد على تعظيم التَّشريعات والبنى الأساسيَّة والنَّاعمة المُعزِّزة للتوسُّع في إنشاء الجمعيَّات التَّعاونيَّة والفِرق الأهليَّة الخيريَّة، وتوفير التَّشريعات اللازمة لانطلاقتها وتوفير ضمانات الحماية والرعاية لهَا، وعَبْرَ إيجاد جمعيَّات تعاونيَّة ذات طابعَيْنِ: جمعيَّات تتعلق بمساعدة المواطنين في الخروج من ربقة الديون والالتزامات البنكيَّة والقروض، ومعالجة الأحكام القضائيَّة والملاحقات القانونيَّة الَّتي باتَتْ تُرافق الكثير من المواطنين بسبب عدم قدرتهم على سداد القروض البنكيَّة الإسكانيَّة والتِّجاريَّة وقروض المنشآت والمؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة غيرها ممَّا يدخل في هذا النِّطاق؛ لِمَا لهذا الأمْرِ من نتائج إيجابيَّة وفُرَص أكبر في قدرة المواطن على الادِّخار والبيع والشِّراء فتزيد القوَّة الشرائيَّة في ظلِّ حركة المال وتداوله وانتقاله، بالإضافة إلى الجمعيَّات الاستهلاكيَّة التَّعاونيَّة لِمَا لِحُضورِها من أهمِّية فاعلة في تغيير المشهد الاقتصادي والاجتماعي العُماني في مواجهة ضَعف الثَّقافة الشرائيَّة. هذا الأمْرُ من شأنه العمل على إيجاد فُرَص عمل جديدة ومبتكرة يجد أبناء المُجتمع فيها فرصتهم للتَّثمير في موارد محافظاتهم، وتشغيل أموال أبناء المحافظات داخليًّا من خلال تعزيز ثقافة الجمعيَّات التَّعاونيَّة، وتفعيل الجمعيَّات الخيريَّة الداخليَّة، والتوسُّع بشكلٍ أكبر في منظومة الجمعيَّات المهنيَّة على مستوى المحافظات وبناء أُطرها وتحديد آليَّاتها بالشكل الَّذي يقلِّل من أثَر الالتزامات الاقتصاديَّة على حياة المواطن، فهي من جهة تُتيح للأُسر والأفراد التَّفكير في موارد وخيارات رزق أوسع، ومن جهة أخرى تُعطي فُرَصًا أوسع لأبناء المحافظات في إنشاء شركات أهليَّة في مختلف المشاريع الحيويَّة الواعدة لِتُضمَّ فيها قائمة من ذوي الاهتمام والاختصاص أو العلاقة من مختلف ولايات المحافظة، الأمْرُ الَّذي ستكُونُ له نتائجه الإيجابيَّة على القوَّة الشِّرائيَّة والحركة الاقتصاديَّة في المُجتمع، مع ما يُقدِّمه من فُرَص تنشيط حركة المسؤوليَّة الاجتماعيَّة، والعمل التطوُّعي، والجمعيَّات الخيريَّة والصَّناديق الاستثماريَّة والوقفيَّة في الولايات والمحافظات لِمُساعدةِ الأُسر في تسهيل نفقات الزواج والوقوف معها في ظروف العزاء والأزمات والحرائق، والوقوف على احتياجات الأُسر في الظُّروف الاستثنائيَّة كالأعياد (عيدَي الفطر والأضحى) وشراء متطلبات الأُسر ذوات الدَّخل المحدود وذوات الحاجة من المؤن الاستهلاكيَّة والسِّلع الغذائيَّة.
وبِدَوْرها تُمثِّل الجمعيَّات التَّعاونيَّة الاستهلاكيَّة مدخلًا جديدًا في تنشيط الحركة الاقتصاديَّة والتِّجاريَّة في المحافظات، ومساحة أمان للمواطن في مواجهة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، ومساحة تجديديَّة لَهُ في إعادة النَّظر في الثَّقافة الشِّرائيَّة والممارسة الاستهلاكيَّة في ظلِّ ما يُمكِن أن تطرحَه هذه التَّعاونيَّات من فُرَص وحوافز وبدائل وتُقدِّمه من خيارات للمواطن وبشكلٍ خاصٍّ الأُسر ذوات الدَّخل المحدود والأُسر المُعسِرة وغيرها من الأُسر الدَّاخلة ضِمْن منظومة الحماية الاجتماعيَّة أو خارجها، لذلك فإنَّ المتوقَّع إذا تمَّ التَّعامل مع هذه الجمعيَّات وفق أُطر مقنَّنة واستراتيجيَّات واضحة، وارتبطت بموجِّهات عمل تُعظِّم من الفُرَص التغييريَّة لهَا في السُّلوك الاستهلاكي والثَّقافة الشِّرائيَّة للمواطن أن تُسهمَ بِدَوْر أكبر في ضبطه وإعادة توجيهه، خصوصًا في ظلِّ مسار المقاطعة للمنتجات الَّتي تدعم الكيان الصهيوني في عدوانه على غزَّة، وستكُونُ هذه الجمعيَّات فُرصةً للتَّرويج للمنتَج العُماني وتأكيد التوجُّه الوطني في برنامج الولاء للمنتَج الوطني، وتعظيم المنتَج العُماني وأهمِّية استحضاره في فِقه المواطن الاستهلاكي، وتشجيع الشَّركات المحلِّيَّة والأُسر المنتِجة نَحْوَ تقديم أفضل ما لدَيْها من منتجات عالية الجودة، فيرفع من ثقة المستهلك فيه ويمنحه أولويَّته في الاختيار، ويُقدِّم لَهُ في ظلِّ حضوره المستمرِّ وتسوُّقه فًرصة أكبر لِتنشطَ حركة الاستيراد فيها وضمان قدرتها على توفير المواد والبضائع والمنتجات ذات الجودة العالية وبأسعار أفضل ممَّا هي في مراكز التسوُّق الأخرى، الأمْرُ الَّذي سيُعزِّز من فُرَص المنافسة ورفع سقف القوَّة الشِّرائيَّة في هذه الجمعيَّات.
أخيرًا، ومع التَّأكيد على أهمِّية هذه الجمعيَّات بأشكالها المختلفة الدَّاعمة للمواطن انطلاقًا من مبدأ «فك كربة» في إخراجه من ربقة الدَّيْن والقروض البنكيَّة، أو كذلك التَّعاونيَّة الاستهلاكيَّة؛ باعتبارها الطريقة لإعادة إنتاج القوَّة الشِّرائيَّة بأدوات أفضل وخيارات أوسع؛ فإنَّ تعزيز نظام الجمعيَّات التَّعاونيَّة، وتوسيع انتشارها في كُلِّ المحافظات، وتوفير الضَّمانات القانونيَّة والتَّشريعيَّة والأُطر الهيكليَّة والتنظيميَّة والإداريَّة الَّتي تعمل على إدارة الجمعيَّات التَّعاونيَّة وبناء نظام عملها، وفلسفة الأداء والأهداف والغايات والمهام والاختصاصات؛ مرتكزات رئيسة من شأنها أن تُعزِّزَ من دَوْرها في المشهد الاجتماعي والاقتصادي القادم، مؤكِّدين في الوقت نَفْسه على أهمِّية العمل التَّكاملي المبتكر في دَوْر الجمعيَّات التَّعاونيَّة، بحيث تتَّسع اختصاصاتها والفئات المستفيدة مِنْها، والفُرَص الَّتي تعمل على إنتاجها، فهي من المُجتمع وإِلَيْه، هدفها احتواء المواطن والعمل من خلاله في تحقيق سلام داخلي ينعم الجميع به ويتعايش الجميع في روضه، لِتتَّجهَ وبكفاءة نَحْوَ بناء المُجتمع وتمكينه اقتصاديًّا.
د.رجب بن علي العويسي