كان الحرص على تلقي العلم من قبل العلماء المسلمين ونشره أمراً أساسياً وأسمى مبادئهم، فقد كانوا يعتبرون العلم مصدر إضاءة وهداية للناس، ولذلك كانوا يسعون جاهدين لنشر المعرفة وإفادة الجميع منها، ومن بين هؤلاء العلماء النبلاء كان الإمام الغزالي يتألق كنموذج يحتذى به في هذا السياق.
وبطريقة أدبية وروحية قوية، يُظهر الإمام الغزالي التوجه الحثيث نحو نشر العلم وإفادة الناس به، كانت رؤيته تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، حيث كان يعتبر العلم ميراثاً يجب تمريره إلى الأجيال القادمة بعناية فائقة وتفانٍ، كان يعمل على تبسيط المفاهيم العلمية المعقدة لتصبح مفهومة للجميع، وكانت دوماً همته الرئيسية هي ترك بصمة عميقة في عقول وقلوب الناس من خلال العلم والتعليم.
وبوصفه رمزاً للتفاني والتفكير العميق، يعكس الإمام الغزالي في توجهه هذا قيماً أخلاقية عالية وروحانية عميقة، حيث كان يرى في نشر العلم وإفادة الآخرين وسيلة لتحقيق الخير والرقي للإنسانية بأسرها.
وفي أوج عصره، وصل الإمام الغزالي إلى ذروة النجاح والشهرة، لقد حظي بثروة واسعة وشهرة واسعة، وكان اسمه يتردد في كل مكان، وكان له نفوذاً وجاهاً لا يضاهى، لكن على الرغم من هذا النجاح الباهر والثروة الطاغية، فإنه لم يفقد قدرته على الاستمرار في سعيه نحو المعرفة والعلم، فقد استمر في استكشاف العلوم الدقيقة وقراءة الكتب التي تتناولها بتمعن واهتمام شديد، وهو الأمر الذي أثّر بشكل كبير في مسار حياته لاحقاً.
أما عن قصة التحول الكبير فهي تنبثق من خلال رحلة الإمام الغزالي، حيث يروي لنا بتفصيل حيثيات تحوله الروحي، حيث بدأت هذه الرحلة بالاطلاع على كتب مختلفة، بما في ذلك “قوت القلوب” لأبي طالب المكي، وكتب الحارث المحاسبي، ومقتطفات مأخوذة من تعاليم الجنيد، ومن خلال هذه الدراسات، استشعر الإمام الغزالي بوضوح أن الحكمة الحقيقية لا تكمن في الكلمات فحسب، بل في تجربة الحالات والتجارب الشخصية، وبمجرد أن اكتسب هذا اليقين، بدأ في السعي نحو تحقيق السعادة الحقيقية والسلام الداخلي.
لقد وجد الإمام الغزالي في السعادة الحقيقية مجالاً للتقوى والاقتراب من الله تبارك وتعالى، وترك الشهوات الدنيوية والمغريات المادية، بالتالي، فإن مفتاح التحول الكبير كان في قطع العلاقة القلبية بالعالم المادي، والتفكير في الخلود والبعد عن مغريات الحياة الدنيوية، بالإضافة إلى ذلك، كان لابد من الرضا بالقليل، وعدم الاعتماد على الثروات والمكاسب المادية لتحقيق السعادة الحقيقية.
وفي لحظة تأمل عميقة، وجد الإمام الغزالي نفسه يغرق في متاهات الدنيا ومغرياتها، فراقب أفعاله بعين حادة ودقيقة، ووجد نفسه يُعلم الناس، ويُحسن التعليم، لكنه في الوقت نفسه كان يشعر بأنه يقدم على علوم ليست ذات فائدة في الحياة الآخرة، لذلك بدأ يستفسر عن نواياه في التعليم، فوجد أنها لم تكن صادقة لوجه الله تبارك وتعالى، بل كانت محركة برغبة في الجاه والشهرة، لذا تأكد له حينها أنه على شفا حافة الهلاك، وأنه إذا لم يتصدَّ لهذه الوضعيات فسيظل في حالة التفكير والتردد دون تغيير.
وبعد أن بلغت حاله هذا المرمى، ووجد نفسه أمام خيار البقاء في هذا الموقف أو التحرك نحو التغيير، لذلك قرر بجرأة الخروج من هذا الوضع، ثم بدأ يضع خططاً لمغادرة بغداد، وتخليص نفسه من تلك الأوضاع الضارة، لقد كانت رغبته الجادة في طلب الآخرة تواجهه تحديات كبيرة من جانب شهوات الدنيا التي كانت تحاول جذبه بقوة.
في هذه اللحظات، كانت أصوات الدين تهمس في أذنيه، تدعوه إلى التوبة والرحيل، ولكن الشيطان لم يكن بعيداً، بل جاء يحثه على عدم الانصياع لهذه الأفكار، ووعده بسرعة زوال هذه الحالة، لكن الإمام الغزالي، بعد أن زاد عزمه واصراره، قرر الانقياد لنداء الدين والتوبة، والتخلي عن كل ما يعترض طريقه نحو الخير والسعادة الحقيقية.
وفي فترة لا تتجاوز الستة أشهر، وتحديداً في بداية شهر رجب من العام 898، وقع الإمام الغزالي في حيرة بين شهوات الدنيا ومطامح الآخرة، ووصلت الأمور إلى نقطة الضغط المدمرة، خلال هذا الشهر، حدث ما دفعه إلى الاضطرار لاتخاذ قرار لا مفر منه.
لقد تجلى هذا الاضطرار عندما منع الله تعالى لسانه عن التعليم والتدريس، فوجد نفسه غير قادر على نطق كلمة واحدة، ورغم جهوده الحثيثة لتحفيز القلوب وإلهام الطلاب، وفي وقت كان يشعر بالعجز التام والاحتياج الملح، استنجد بالله تعالى بالدعاء الملح، الذي لا يوجد له حلاً سوى الاستجابة، ولما تلقى إجابة من ربه الكريم، سهل عليه الإقبال على الإيمان والتخلي عن طموحات الدنيا، سواء كانت الجاه، أو المال، أو الأولاد، أو الأصدقاء.
حينها، غادر الإمام الغزالي مدينة بغداد واتجه نحو الشام، حيث قضى عشر سنوات من حياته في تلك المنطقة، خلال فترة إقامته في الشام، قضى بعض الوقت في بيت المقدس، ولكن الغالبية العظمى من أيامه كانت مليئة بالعزلة والانفراد، كان يقضي أوقاتاً طويلة في الخلوة، يمارس الرياضة الروحية والمجاهدة الشخصية، كما كانت أيامه مليئة بالتفكير في تطهير النفس وتحقيق التزكية الروحية، وتنقية القلب للذكر الله تبارك تعالى، وكان يعتكف في منارة مسجد دمشق طوال فترات النهار، ماكثاً في الصلاة وذكر وتأمل في الله تبارك وتعالى.
لقد بدأ التحول الروحي للإمام الغزالي بانقلاب جذري في حياته، فقد اتجه نحو طريق الزهد والتفكير العميق، وترك الشهوات الدنيوية، وتخلص من الشهرة والمكانة الاجتماعية التي كان يتمتع بها، لقد بدأ يهتم ببناء القواميس الروحية والعمل على تحسين شخصيته، وتطوير أخلاقه، فقد أصبحت رؤيته للحياة متغيرة، حيث انقلبت رغباته من السعي وراء الدنيا إلى الاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية.
كما اعتنق الإمام الغزالي العمل على تأليف الكتب المعتبرة في الدين، مثل “إحياء علوم الدين”، وقام بتأليف مختصرات منها مثل “الأربعين”، وغيرها من الرسائل التي أصبحت مرجعاً للكثيرين في فنون العلم والدين، بالتالي، إن تأملاته وأفكاره في هذه الكتب لها تأثير عميق على فهم الإنسان لمفهوم الدين والحياة الروحية.
وبعد فترة العزلة التي استمرت لمدة عشر سنوات، عاد الإمام الغزالي إلى مسقط رأسه في طوس، حيث استمر في العزلة لسنة إضافية، ورغم إلحاح السلطات المحلية على العودة إلى التدريس، استمر الإمام الغزالي في عزلته، لكن مع تكرار طلبات الولاة والضغوط التي تلقاها، قرر الخروج للتدريس في مدرسة نيسابور.
بعد ذلك، انتقل الإمام الغزالي إلى نيسابور ليبدأ مهمته في التعليم في المدرسة النظامية هناك، وقد وصف هذه الخطوة بأنها بركة من الله سبحانه وتعالى، وأنها جاءت لتكمل مسيرته العلمية، أما بعد فترة طويلة من العزلة التي استمرت لمدة أحد عشر عاماً، عاد الإمام الغزالي إلى الساحة التعليمية بروحٍ جديدة ونية مختلفة تماماً.
فقد أشار الإمام الغزالي إلى أنه بينما كان في الماضي يسعى لنشر العلم بهدف الحصول على الجاه والشهرة، فإن نيته الآن تختلف تماماً، لقد أصبح هدفه الرئيسي هو نشر العلم الذي يؤدي إلى ترك الجاه والشهرة، ويعرف بقيمة الحقيقة، بالإضافة إلى ذلك، يعبر الإمام الغزالي عن إيمانه الثابت بأن التوجه نحو الحق والتوبة الصادقة ليس إلا بمساعدة الله العظيم، فهو يطلب من الله تبارك وتعالى أن يصلحه أولاً، ومن ثم يصلح به الآخرين، وأن يهديه ويهدي به، وأن يريه الحق بوضوح، ويرزقه اتباعه والابتعاد عن الباطل.
بالتالي، إن إقامة الإمام الغزالي في نيسابور لم تطل كثيراً، وكانت فترة دراسته في المدرسة النظامية قصيرة، بعد ذلك، قرر العودة إلى مسقط رأسه في طوس، حيث أنشأ مدرسة لتعليم الطلاب ومكانًا لتعلم الصوفية، حيث قسَّم وقته بين عدة أنشطة، بدءاً من ختم القرآن الكريم، ومجالسة العلماء، وحتى القيام بالتدريس.
لقد عاش الإمام الغزالي حياة مليئة بالمقاومة لمختلف الصعاب، والسعي للحفاظ على الإيمان والعلم، كما أنه تعرض للعديد من التحديات والمواقف الصعبة، بما في ذلك الصراع مع الخصوم والسعي للمصالحة معهم، وكذلك محاولات التقرب إلى الحكام في بعض الأحيان.
وفي نهاية حياته، تجهَّز الإمام الغزالي للرحيل عن هذه الدنيا، حيث ترك السعي وراء الملوك والقوى الدنيوية، وأخذ يُكرِّس وقته للحديث والسنة، ومجالسة العلماء، والتفكير في معاني الدين والحكمة، ولو أُتيح له المزيد من الزمن، لكان قد تفوق على الجميع في فن الحديث والتفكير الديني، فهذه النهاية المباركة تظهر توفيقاً عظيماً من الله تبارك وتعالى للإمام الغزالي، الذي جعل خاتمة حياته مليئة بالعلم والتقوى، وهي نهاية تُظهر كرم الله سبحانه وتعالى وفضله عليه.
كما لم يكن الإمام الغزالي من ذوي القدرة على الرواية الشعرية، ولم يكن له اهتمام بالأدب الشعري إلا بالقليل من البنات، حيث كانت لديه موارد كافية من الأسباب المالية والمكتسبات التي تمكنه من العيش براحة، وكانت لديه عروض مالية ولكنه لم يقبلها، وكانت من بين الأمور التي كان يعترض عليها البعض هو بعض الأخطاء النحوية التي قد تحدث أحياناً أثناء كلامه، وعلى الرغم من ذلك، كان يقوم بمراجعة أخطائه ويصححها، ويعترف بخطأه عندما يكون هناك تقصير في استخدام اللغة، لذلك كان يجتهد في التعبير بطريقة بليغة وواضحة، حيث كان يستطيع تأليف الخطب وشرح الكتب بطريقة تجعلها مفهومة للجميع، وتتجاوز فيها قدرة الأدباء والمتحدثين باللغة الفصحى.
من هنا، لقد اخترت أن أذكر هذا الجانب من قصة تحول الإمام الغزالي، لتكون شاهدة على ما يحدث اليوم، ففي عالم مليء بالمغريات والشهوات الدنيوية، يتسع قلب الكثيرين لإغراءات الحياة الدنيا ومتاعبها، متجاهلين حقيقة أنها محطة مؤقتة في رحلة الإنسان نحو الحياة الأبدية، الإمام الغزالي، كمثال مشرق، قدم دروساً قيمة في التخلّي عن الدنيا والسعي نحو الحياة الأبدية.
ففي هذا العصر، يندر من يتمسك بالقيم والمبادئ الروحانية والأخلاقية، ويسعى لمساعدة الناس وتثقيفهم بكل ما هو صالح ونافع، فعلى الرغم من كثرة العلوم الإسلامية والمعرفة المتاحة، إلا أن قلة من يستثمرها في تحقيق الخير العام وتعزيز القيم الإيجابية في المجتمع.
كما أن الحاجة الملحة في زمن الظلم والظروف الصعبة تكمن في وجود أفراد يتمسكون بالخلق الحسن والأخلاق النبيلة، ويسعون جاهدين لإصلاح الحال ومواجهة الظلم بالعلم والتعليم والمثل الحسن، فقط من خلال الالتزام بالقيم الروحانية والأخلاق النبيلة يمكن أن نحقق التغيير الإيجابي الذي نتطلع إليه في مجتمعنا، لذا، دعونا نستلهم من سيرة الإمام الغزالي ونسعى لتكريس جهودنا للتعليم والتوجيه والإصلاح، ولنجعل من العلم والمعرفة والدين أساساً لبناء مجتمع مثالي، يسود فيه العدل والسلام والتسامح، ويزهو فيه الخلق الحسن والأخلاق النبيلة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / فيل كاتب ومفكر – الكويت.