كان للشريعة الإسلامية تأثير عميق على تشكيل وتطوير النظم القانونية في الدول العربية، ولا يزال نطاق عملها واسعاً جداً اليوم، بالإضافة إلى ذلك، منذ السبعينياتـ وفي كثير منها، تعززت مكانة الشريعة الإسلامية، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى الاعتراف الدستوري بالإسلام كدين الدولة، والشريعة كمصدر للتشريع.
إن مكانة الشريعة ومكانتها في الأنظمة القانونية الحديثة في البلدان الإسلامية قد جذبت الاهتمام مؤخراً فيما يتعلق بمناقشة مشاكل الدولة الإسلامية وآفاق إحياء الخلافة، ويرى الفقهاء المسلمون العلامة الرئيسية للقوة الإسلامية على وجه التحديد في تطبيق أحكام الشريعة، وهذا يعتمد بشكل مباشر على وضعها الدستوري كمصدر للتشريع.
الإسلام دين الدولة
تنص الدساتير أو الوثائق ذات الطبيعة الدستورية للغالبية العظمى من الدول العربية على أن الإسلام هو دين الدولة، والاستثناء الأبرز هو الدستور اللبناني (1926)، حتى وقت قريب، كان سكان هذا البلد منقسمين بالتساوي تقريباً بين المسلمين والمسيحيين، لكن في العقود الأخيرة، زادت حصة المسلمين (الشيعة في المقام الأول) بشكل ملحوظ، لكن الميثاق الوطني (1943)، الذي ينص على توزيع المناصب الحكومية الرئيسية في نسبة معينة بين أتباع الديانات المختلفة، لا يزال ساري المفعول، وهذه الخصوصية للخريطة المذهبية والنظام السياسي وتشكيل الهيئات الحكومية في لبنان تحدد غياب الإشارة إلى الإسلام في دستور البلاد.
كما أن خصوصيات التطور التاريخي والتكوين الديني للسكان، فضلاً عن طبيعة النظام السياسي، تفسر حقيقة أن دستور سوريا (2012) لا يعلن أيضاً أن الإسلام هو دين الدولة، وبدلاً من ذلك، يشترط أن الإسلام هو دين رئيس الجمهورية.
ويتميز الدستور الصومالي المؤقت (2012) بخصوصيته، حيث جعل الإسلام دين الدولة مع منع ممارسة أي دين آخر في البلاد، بالإضافة إلى ذلك، يعتبر دستور موريتانيا (1991) الإسلام دين الدولة ليس فقط، بل الشعب أيضاً، بينما يعلن في الوقت نفسه أن البلاد جمهورية إسلامية، وأخيراً، يعتبر دستور دولة الإمارات العربية المتحدة (1996) والعراق (2005) الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، أما في ليبيا، بعد تغيير نظام القذافي، لم يتم اعتماد الدستور بعد، والإعلان الدستوري (2011) ساري المفعول هنا، وتم تعديله عدة مرات، حيث يعلن هذا القانون ليبيا دولة ديمقراطية مستقلة دينها الإسلام، وأدرج نص مماثل في مشروع الدستور الذي تم وضعه في عام 2014.
وتختلف المملكة العربية السعودية في سمات مهمة، حيث يعود دور الدستور الفعلي إلى النظام الأساسي للسلطة (1992)، هذا الاسم غير المعتاد لهذا القانون، والذي يتساوى مع دساتير الدول العربية الأخرى، يفسره الدور الخاص للإسلام في الحياة السياسية للمملكة ونظامها القانوني، وهنا لا يستخدم مصطلحا “التشريع” و”المشرع” رسمياً للدلالة على الأفعال القانونية المعيارية والجهات الحكومية التي تتبناها، إذ يعتبر الله هو المشرع الحقيقي الوحيد، والشريعة هي التشريع، كما أن مصطلح “القانون” لا يُستخدم لأنه في اللغة العربية تُستخدم كلمة “قانون” المستعارة للدلالة عليه، والتي ترتبط بثقافة قانونية غربية دخيلة، ووفقاً لهذا المفهوم، يُعتقد أن الدولة السعودية لا تمارس السلطة التشريعية بالمعنى الدقيق للكلمة، بل تتمتع فقط بصلاحيات تنظيمية في إطار الشريعة الإسلامية، وهذا ما يفسر اختيار المصطلح المستخدم في عنوان القانون المذكور: فمن معاني كلمة “نظام” في اللغة العربية “الأنظمة”.
ويحتوي النظام الأساسي على العديد من الأحكام التي تضمن المكانة الخاصة للإسلام، وعلى وجه الخصوص إن المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى (أي القرآن) وسنة رسوله، وفي الوقت نفسه، من الثابت أن الملك يتولى ممارسة السلطة وفقًا لهذه المصادر المقدسة للشريعة، ويبنى المجتمع السعودي على أساس الالتزام الصارم لجميع أفراده بإرادة الله، كما تحمي الدولة أسس العقيدة الإسلامية، كما تتحمل مسؤولية الدعوة إلى سبيل الله، وحماية أسس العقيدة الإسلامية واجب على كل مواطن.
وينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن دساتير العديد من الدول العربية تقتصر على إعلان الإسلام ديناً للدولة ولا تذكر شيئاً عن الشريعة، وفيما يتعلق بمسألة العلاقة بين الوضع الدستوري للإسلام والشريعة، يعبر الفقهاء العرب عن وجهات نظر مختلفة، على سبيل المثال، إن النص الدستوري المتعلق بطبيعة الدولة للإسلام يخلو من المعنى القانوني ويعني في الأساس فقط أن غالبية مواطني دولة ما يعتنقون الإسلام، وهو ما تعترف به الدولة على هذا النحو، وعيب ذلك أنه تتجاهل خصائص الإسلام، الذي ليس ديناً.
وبالنسبة لشكل النظام من القواعد القانونية، إن النص الدستوري المحدد يفصل بشكل مصطنع الأسس العقائدية ومعايير عبادة الإسلام عن القواعد القانونية للسلوك، وهو ما لا يتوافق مع طبيعته كنظام عالمي للتنظيم الاجتماعي، ولذلك فإن الصيغة الدستورية التي لا تحدد سوى طابع الدولة للإسلام، تعلن شعاراً خالياً من المضمون القانوني، لأنها لا تلزم الدولة باتخاذ الشريعة أساساً عند إعداد القوانين التشريعية، ونتيجة لذلك، حيث لا يذهب الدستور إلى أبعد من إعلان الإسلام ديناً للدولة، فمن الطبيعي أن لا تكون عملية صنع القوانين موجهة نحو امتثال القوانين المعتمدة لمعايير الشريعة الإسلامية.
ولدى بعض الفقهاء العرب تفسير مختلف للنص الدستوري المتعلق بطبيعة الدولة للإسلام، فبعضهم يرى أن هذا المعيار يفترض منطقياً الاعتراف بالشريعة كمصدر للتشريع، إن تأمين هذه الوضعية للشريعة ليس ضرورياً إذا كان الدستور قد أعطى الإسلام بالفعل طابع الدولة.
وهذا الرأي لا يتفق عليه أغلبية الفقهاء العرب، وهم يعتقدون أن إحياء القواعد القانونية الإسلامية باعتبارها جوهر القانون الحالي يفترض، في المقام الأول، سياسة واعية تهدف إلى أسلمة النظام القانوني، بالتالي، فإن الانحراف المؤقت عن هذا الخط لا مبرر له إلا من خلال التطبيق التدريجي لأحكام الشريعة على مستوى التشريع الوضعي في بلد معين، وذلك بشرط رغبة السلطات في انتهاج مثل هذه السياسة، إن مجرد إعلان الإسلام ديناً للدولة لا يحل هذه المشكلة، وتحقيق هذا الهدف يتطلب الترسيخ الدستوري لمكانة الشريعة كمصدر للتشريع.
الدساتير العربية حول الشريعة
حالياً، تنص دساتير معظم الدول العربية على أن الشريعة أو الفقه هو مصدر التشريع، وقد ورد هذا لأول مرة في الدستور السوري (1950)، ثم اعتمد دستور الكويت (1962) نصاً مماثلاً، وذلك منذ أوائل السبعينيات، وقد اتبعت دساتير العديد من الدول العربية الأخرى مساراً مماثلاً، واليوم، تعترف دساتير 14 دولة من أصل 22 دولة عضو في جامعة الدول العربية بشكل أو بآخر بالشريعة كمصدر للتشريع.
ومن المهم أن نأخذ في الاعتبار أن هناك اختلافات ملحوظة في أشكال توحيد هذا الحكم، والتي يمكن أن يكون لها أهمية قانونية خطيرة وتفسر التفسير غير المتكافئ لهذا الوضع الشرعي في مختلف البلدان العربية، وتتحدث معظم دساتيرها عن الشريعة باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع، مستخدمة عبارة “المصدر الرئيسي” دون أداة التعريف في النص العربي الأصلي، بالتالي، إن مثل هذه التفاصيل اللغوية التي تبدو بسيطة، تمنح معنى قانونياً عميقاً في بعض البلدان.
وهذه الصياغة مدرجة في دساتير البحرين والعراق وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة وفلسطين، ومن السمات الخاصة للدستور السوري (2012) أنه يعترف بالفقه وليس الشريعة كمصدر رئيسي (بدون مادة محددة) للتشريع، ومع ذلك، فإن الاختيار بينهما ليس له أهمية أساسية، وبغض النظر عن المصطلح المستخدم، فإن الحكم الدستوري المعني يتم تفسيره بحيث تشير المواد ذات الصلة في الدستور إلى الاعتراف بالشريعة ليس باعتبارها الشريعة الوحيدة أو حتى الرائدة، ولكن فقط باعتبارها أحد مصادر التشريع التي تصنف على أنها الرئيسية، ويأتي هذا التفسير من فهم الشريعة والفقه كمرادفات.
على سبيل المثال، تؤكد المذكرة التوضيحية لدستور الكويت على أن الشريعة تعني في الأساس الفقه، الذي يعتبر المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا يعني أن المشرع يجب أن يركز على الفقه كمصدر أولوية، لكن هذا لا يمنعه، عند وضع القواعد، من التوجه إلى مصادر أخرى بحثاً عن حلول لمسائل لم يضع الفقه لها قواعده الخاصة، بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا ممكن تماماً عند وضع التشريعات إذا كان استخدام مصادر أخرى بدلاً من الشريعة ناجماً عن احتياجات التطور التاريخي الطبيعي، على سبيل المثال، تسمح هذه الصيغة الدستورية باستخدام نماذج التشريعات الجنائية الحديثة المقبولة عمومًا حتى لو كانت هناك عقوبات محددة بدقة على الجرائم الفردية في الشريعة.
ولا يمكن السماح بمثل هذا الاقتراض إذا كان الدستور يستخدم مصطلح “المصدر الرئيسي” بأداة التعريف، ففي نهاية المطاف، تعني مثل هذه الصيغة أنه من المستحيل اللجوء إلى أي مصدر آخر في أي قضية تقدم لها الشريعة قاعدة بديلة جاهزة، وهذا بدوره يمكن أن يخلق صعوبات كبيرة للمشرع عندما تجبره المصلحة العملية على تأخير الالتزام الإلزامي بمستنتجات الفقه، على سبيل المثال، يتعلق هذا بتشريعات الشركات أو إدخال القواعد القانونية في مجال التأمين، والخدمات المصرفية، والعلاقات الائتمانية، والمسؤولية الجنائية عن تلك الجرائم التي تنص العقوبات عليها بوضوح في الشريعة الإسلامية، وما إلى ذلك.
وفي الوقت نفسه، تؤكد الوثيقة على أن اللغة المنصوص عليها في الدستور الكويتي تلزم المشرع بالرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية بكل صراحة ولا لبس فيها، قدر الإمكان، فهو لا يمنع فحسب، بل يسهل إدراج قواعد الشريعة في النظام القانوني الحالي في جميع القضايا عندما يراها المشرع في الوقت المناسب وضرورية، وفي الكويت، جرت محاولات متكررة لتعديل الدستور بإضافة مادة محددة إلى عبارة “المصدر الرئيسي” للتشريع، وهي الشريعة، في عامي 1973 و 1975 وقدمت مجموعة من نواب الجمعية الوطنية مشاريع القوانين ذات الصلة، وفي عام 1980، قدم العديد من أعضاء اللجنة التي تم إنشاؤها لتطوير التغييرات في الدستور اقتراحاً مماثلاً، لكن الجمعية الوطنية لم تؤيد قط مثل هذه الفكرة.
وجدير بالذكر أن حكومة تشكلت في التسعينيات، اللجنة الاستشارية العليا للتنفيذ النهائي لأحكام الشريعة الإسلامية في الكويت، ومع ذلك، فإن المشاريع التي طورتها لجعل التشريعات متوافقة مع الشريعة الإسلامية لم تحصل بعد على اعتراف رسمي، فقد تم أخذ المقترحات الفردية للجنة فقط في الاعتبار جزئياً عند وضع تشريعات جديدة – على سبيل المثال، عند إدراج قسم خاص بالبنوك الإسلامية في قانون البنك المركزي وتداول العملات النقدية.
وفي بعض الدول العربية الأخرى، لا يثير الإعلان الدستوري للشريعة كمصدر رئيسي (بدون مادة محددة) للتشريع أي جدل، وهو عبارة عامة ولا يؤثر على القانون القائم، وهكذا، أُعطي الفقه مكانة المصدر الرئيسي للتشريع بموجب الدستورين السوريين لعامي 1950 و1973، لم يكن له معنى حرفي، بل اعتبر بديلاً لتعزيز طابع الدولة في الإسلام، حيث أن المبدأ الأخير لا يتميز بالغموض الدلالي، بالتالي، إن أهمية مثل هذا التقييم تؤكدها حقيقة أن هذا المعيار، الذي اعتمده الدستور السوري الحالي، هو في طبيعة الشعار التصريحي ولا يضفي توجهاً إسلامياً على النظام القانوني في البلاد، بل على العكس من ذلك، فإن سياسة استعارة النماذج التشريعية الغربية مستمرة.
لكن موقف المشرع السوري، الذي يتجاهل فعلياً تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل مخالف للقاعدة الدستورية، يختلف كثيراً عن السياسات القانونية المتبعة في الدول العربية الأخرى، التي تكرس دساتيرها الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، وصياغة عبارة “المصدر الرئيسي” أي في حالة غامضة نحوياً في الأصل العربي، ومن بينها دول تلعب الضوابط الشرعية في أنظمتها القانونية، على عكس سوريا، دوراً نشطاً، وهنا يعطى المعنى القانوني للمواد الدستورية المتعلقة بالشريعة أهمية كبيرة، وفي بعض البلدان، تطور تقليد لتفسير مثل هذه المواد عند النظر في الادعاءات المتعلقة بدستورية التشريعات التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، ودولة الإمارات العربية المتحدة رائدة في هذا الصدد، حيث تم تأكيد هذا الاستنتاج من خلال الممارسة القضائية، خاصة وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
هناك فروق دقيقة في التفسير القضائي للوضع الدستوري للشريعة في الإمارات، اعتماداً على إمكانية التطبيق المباشر لمعايير الشريعة على القضايا التي لا ينظمها القانون، أو حول تقييم دستورية التشريع الذي يحتوي على أحكام تتعارض بشكل واضح مع الشريعة.
بالنسبة لمصر، من المثير للاهتمام مقارنة تجربة التفسير القضائي للشريعة كمصدر للتشريع في دولة الإمارات العربية المتحدة مع ممارسة تلك الدول العربية التي تلجأ إلى نموذج مختلف لترسيخ مكانة الشريعة كمصدر للتشريع، دساتيرهم، عند وصف العلاقة بينهما، تستخدم مصطلح “المصدر الرئيسي” مع أداة التعريف.
وتتجلى الأهمية الأساسية لهذا الفارق الدقيق في تجربة مصر، حيث منذ الستينيات، وقد تم إنشاء اللجان مراراً وتكراراً لصياغة مبادئ الشريعة وتنظيم قواعدها، والتي ينبغي أن تكون أساس تشريعات البلاد، وفي عام 1966، تم تشكيل لجنة بحثية تابعة للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية لوضع مبادئ الشريعة، حيث قامت بإعداد عدد من المؤلفات العلمية التي تناولت مسائل التدوين الفقهي، وفي عام 1970، قام مركز الأزهر للدراسات الإسلامية، بتشكيل هيئة تنظيم الشريعة، وكان من نتائج نشاطها نشر كتب تمثل التدوين الفقهي للقواعد الفقهية المتعلقة بعقد البيع والشراء عند المذاهب الفقهية السنية الأربعة: المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي.
أما في عام 1971، دخل الدستور المصري حيز التنفيذ، والذي ظل ساري المفعول حتى تغيير نظام الرئيس مبارك في عام 2011، ولأول مرة في تاريخ البلاد، أعلن مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي (دون تحديد محدد) وعملاً بهذا المعيار، تم في عام 1972 إدخال ثلاثة مشايخ من خبراء الشريعة والفقه من الأزهر إلى اللجنة التشريعية بمجلس الشعب (البرلمان)، كان من المفترض أن يراقبوا الامتثال لجميع القوانين.
المشاريع على مبادئ الشريعة
لعدة سنوات، لم تؤثر هذه الابتكارات على حالة القانون المصري، الأمر الذي تم تسهيله إلى حد كبير من خلال التفسير التقييدي لهذه القاعدة الدستورية، في 1970، أعطت السلطات المصرية معنى ضيقاً للنص الدستوري الخاص بوضع مبادئ الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع، ولم تكن تميل إلى أسلمة النظام القانوني، ومع ذلك، تم اتخاذ بعض التدابير الرسمية في هذا الاتجاه، وهكذا، في عام 1975، قرر وزير العدل إنشاء هيئة عليا لتحسين التشريع على أساس أحكام الشريعة الإسلامية، وقد عملت حتى منتصف عام 1978، وأعدت عدداً من مشاريع القوانين لمجلس الشعب، الذي شكل في ديسمبر من نفس العام لجنة خاصة لتدوين قواعد الشريعة. ويشهد هذا النشاط على نية السلطات تمهيد الطريق لتحويل هذه القواعد إلى قانون فعال.
وكانت الخطوة الحاسمة في هذا الاتجاه هي الاستفتاء الذي أجري في مايو 1980 حول تعديل الدستور، وفقاً لنتائجها في الدستور وفي المادة 2 من النظام الأساسي، أضيفت كلمة التعريف إلى عبارة “المصدر الرئيسي”، فأصبحت لمبادئ الشريعة معنى المصدر الرئيسي للتشريع، بالتالي، إن فهم المعنى القانوني لمثل هذا التعديل، وكذلك المحتوى القانوني لمصطلح “المصدر” ينعكس باستمرار في الممارسة القضائية المصرية، وفي المقام الأول في قرارات هيئة الرقابة الدستورية – المحكمة الدستورية العليا، على وجه الخصوص، وبالنظر إلى الادعاء بشأن صحة شرط دفع الفائدة للتأخير في توفير الأموال لدعم الأسرة، أشارت المحكمة العليا إلى أن مثل هذا الإجراء منصوص عليه في المادة 226 من القانون المدني (1948)، الذي دخل حيز التنفيذ قبل فترة طويلة من اعتماد الدستور (1971)، وعلى هذا الأساس، لا يمكن اعتبار تلقي الفوائد غير دستوري، رغم أن مثل هذه الممارسة محرمة شرعاً، والتي أعلن الدستور مبادئها المصدر الرئيسي للتشريع إلا في عام 1980، ولذلك فإن هذه المادة من القانون دستورية.
وقدمت المحكمة الدستورية العليا حججاً مماثلة عند البت في مسألة دستورية المادة، المادة 317 من قانون العقوبات المصري (1937) التي تنص على أن السرقة يعاقب عليها بالسجن، ولوحظ أن مثل هذه العقوبة لا تتوافق في الواقع مع الشريعة الإسلامية التي تنص على قطع اليد في هذه الجريمة، ولذلك فهو يتعارض شكلياً مع النص الدستوري الذي يعترف بمبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، لكن المحكمة لفتت الانتباه إلى حالتين:
أولاً، تم التأكيد على أن هذه المادة من الدستور لا تنطبق على التشريعات المعتمدة سابقاً (وهذا يشمل القانون الجنائي)، والذي، حتى لو انحرف عن قواعد الشريعة، فهو دستوري وخاضع للتطبيق من قبل المحاكم؛
ثانياً، ذكرت المحكمة العليا أن حكم الدستور بشأن وضع مبادئ الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع موجه فقط إلى المشرع، الذي يلزمه بمراعاة القيد الوارد فيه في أنشطته اللاحقة في مجال وضع القواعد ولا يمكن أن يكون أساساً لرفض المحكمة تطبيق أي مادة من القانون الحالي.
بالإضافة إلى ذلك، ومنذ تعديل الدستور المصري في عام 1980 والاعتراف بالشريعة كمصدر رئيسي للتشريع، أصدرت المحكمة العليا أكثر من عشرين قراراً تعيد إنتاج الحجة المذكورة أعلاه، لأنه يقوم على تبرير مبادئ الشريعة المنصوص عليها في المادة 2 من الدستور، باعتباره مصدراً مادياً (تاريخياً) للقانون، فضلاً عن الاستنتاج بأن هذا دستوري.
وهذا الحكم موجه للمشرع وليس للقاضي، إلا أن هذا الموقف لم يحظ بتأييد جميع القضاة، على سبيل المثال، محمود عبد الحميد جراب رئيساً للمحكمة الابتدائية من عام 1980 إلى عام 1985، فقد اتخذ أكثر من 30 قراراً استناداً إلى الشريعة الإسلامية بدلاً من التشريعات الحالية، تتعلق على وجه الخصوص باستخدام المشروبات الكحولية، والقتل والإيذاء الجسدي، والفوائد على التأخر في سداد الديون، حيث تم تبرير العديد من هذه القرارات بالرجوع إلى المادة 2 من الدستور، الذي اعترف بمبادئ الشريعة باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع.
ولم تدخل جميع قرارات المحكمة هذه حيز التنفيذ، فقد تم رفض معظمهم في مرحلة الاستئناف، وأوقفت المحكمة العملية أربع مرات وتوجهت إلى المحكمة العليا بطلب تقييم القانون الواجب تطبيقه من وجهة نظر امتثاله للنص الدستوري المحدد، وفي كل مرة رفضت هيئة الرقابة الدستورية تلبية المطالبة وأكدت أن المادة 2 من الدستور تتحدث عن مبادئ الشريعة باعتبارها مصدراً مادياً للقانون وهي موجهة إلى المشرع، وليس إلى المحكمة.
ويظل هذا الموقف الخاص بهيئة الرقابة الدستورية سارياً بعد تغيير النظام في مصر في عام 2011، حالياً، يعمل في البلاد دستور عام 2014، حيث يكرر نص دستور 1971 بصيغته المعدلة عام 1980 ويعلن أن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، بالتالي، تستنسخ ديباجة الدستور هذا الحكم وتؤكد أن تفسيره وارد في قرارات المحكمة العليا، إلا أن المشرع المصري يتبع هذا التفسير جزئياً فقط، حيث يتأكد من أن التشريعات المعتمدة حديثاً لا تتعارض رسمياً مع مبادئ الشريعة، لكنه ليس في عجلة من أمره لجعل القوانين المعتمدة سابقاً متوافقة معها، ونتيجة لذلك، لا يزال هناك عدد كبير من القواعد القانونية الإيجابية التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية سارية المفعول في البلاد.
والخلاصة تشير إلى أن مكانة الشريعة في النظم القانونية في الدول العربية لا تعتمد بشكل صارم على الصيغة الدستورية لتأمينها كمصدر للتشريع، على سبيل المثال، يتحدث الدستور المصري عن مبادئ الشريعة باختيار صيغة نحوية محددة لكلمات “المصدر الرئيسي للتشريع”، بالإضافة إلى ذلك، كما لوحظ بالفعل، فإن هذا الفارق اللغوي له أهمية قانونية خطيرة، ولكن في النظام القانوني المصري، تحتل معايير الشريعة مكانة أكثر تواضعاً بكثير مما هي عليه في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث، عند وصف وضع الشريعة، يستخدم مصطلح “المصدر الرئيسي للتشريع” في النص الأصلي العربي للدستور دون أداة التعريف، والحقيقة هي أن مثل هذا الحكم الدستوري يتم تنفيذه هنا جنباً إلى جنب مع متطلبات التشريعات الحالية، التي تمنح معايير الشريعة مكانة المصدر القانوني للقانون.
وفي الوقت نفسه، فإن دور الشريعة في النظام القانوني لدولة عربية معينة لا يتحدد فقط من خلال قواعد التشريع، بما في ذلك الدستور، ولكن بشكل رئيسي من خلال الاتجاه العام للسياسة القانونية، وهذا هو بالضبط ما يملأ في كثير من الأحيان مواد متطابقة من الدساتير ذات محتوى مختلف، على سبيل المثال، يعترف النظام الأساسي (القانون) لسلطنة عمان (1996) بالشريعة كأساس للتشريع، ويرد موقف مماثل في المعنى في دستور اليمن (1991) (مع الإضافات والتعديلات اللاحقة)، الذي يعلن أن الشريعة الإسلامية هي مصدر جميع التشريعات، ومع ذلك، هناك اختلافات عميقة بين النظم القانونية في كلا البلدين، وإذا كانت اليمن من الدول العربية التي يكون فيها موقف الشريعة في التطور القانوني هو الأقوى، فإن سلطنة عمان، على العكس من ذلك، تتميز باستعارتها الواسعة للتشريعات الغربية.
ومن المستحسن تتبع العلاقة بين ترسيخ الشريعة كمصدر للتشريع وأولويات السياسة القانونية باستخدام مثال المملكة العربية السعودية وليبيا، ويفسر اختيار هذه الدول بالسمات الملحوظة لمكانة الشريعة في تطورها القانوني، حيث تضع المملكة العربية السعودية نفسها كراعية للمبادئ الإسلامية ومتبعة صارمة لمعايير الشريعة في شكلها التقليدي، وكانت ليبيا الدولة العربية الأولى التي قامت بذلك سلك طريق أسلمة النظام القانوني (الموجه سابقاً نحو التجربة الأوروبية) وتدوين الاستنتاجات الفقهية.
بالتالي، يتناقض الوضع المعياري للشريعة في المملكة العربية السعودية مع تجارب الدول العربية الأخرى، حيث ينص النظام الأساسي على قوة المملكة على أن القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فوق كل نظام، بما في ذلك هذا الفعل نفسه، فالدولة تطبق الشريعة وتنفذ أوامر الله تبارك وتعالى وتمنع ما نهى عنه، ومن الثابت أن جميع النظم مقبولة وفقاً لمتطلبات الشريعة ومصادر جميع الفتاوى المعلنة هي القرآن والسنة، أما عند النظر في القضايا، تطبق محاكم المملكة قواعد الشريعة بما يتوافق مع الكتاب والسنة، وكذلك الأنظمة التي لا تتعارض مع الشريعة (المادة 48)، وينص هذا القانون الدستوري على المسؤولية المشتركة لمجلس الوزراء وجميع أعضائه عن تطبيق الشريعة والأنظمة (المادة 57).
وتتيح لنا هذه التعليمات أن نستنتج أن مبدأ سيادة الشريعة في المملكة العربية السعودية مكرس فيما يتعلق بالتشريعات المعمول بها في البلاد والتي مصدرها هو نفسه، إن أحكام الشريعة المنصوص عليها في النظام الأساسي تميز محتوى النظام القانوني للمملكة، الذي يرتكز على الشريعة باعتبارها الأساس الذي لا يتزعزع لجميع التشريعات، ومعيار مقبولية اعتماد أي أعمال قانونية، وفي نفس الوقت فإن الشريعة هنا مصدر قانوني للقانون ولها الأسبقية على التشريع، حيث تم إنشاء هذا التسلسل الهرمي من قبل النظام فيما يتعلق بالنظام القضائي وقواعد العملية القضائية.
وهكذا، فإن نظام العدالة في المملكة العربية السعودية (2007)، مع تعزيز استقلال القضاة، ينص على أن أنشطتهم في المجال القضائي تخضع فقط لسلطة الشريعة والأنظمة المقابلة لها، وقد ثبت أن المحكمة العليا تمارس الرقابة على التطبيق الصحيح لمعايير الشريعة وتلك التي تعتمدها سلطات النظم، والتي لا تتعارض معها إلى جانب أن نظام الإجراءات المدنية (2013) يوجه المحاكم، عند النظر في القضايا، إلى تطبيق قواعد الشريعة المستندة إلى القرآن والسنة النبوية، وكذلك تلك التي اعتمدتها سلطات النظام، والتي لا تتعارض مع هذه المصادر الدينية، ويرد نفس الحكم بالضبط في النظام المعتمد في عام 2013 بشأن الإجراءات الجنائية والعملية المطبقة في قسم الشكاوى (المحكمة الإدارية).
أما بالنسبة للتجربة الليبية، بعد تغيير النظام، يلعب دور الدستور من خلال الإعلان الدستوري، الصادر في أغسطس 2011، فقد أعلنت هذه الوثيقة في البداية أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، ومصطلح ” “المصدر الرئيسي” تم استخدامه مع مقالة محددة، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2012، أوصى المجلس الوطني الانتقالي، الذي كان آنذاك أعلى سلطة في البلاد، بأن ينطلق البرلمان المقبل، مؤتمر الشعب الأعلى، من فكرة أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، وفي الوقت نفسه، تم التأكيد على أن هذه القضية لا تخضع للاستفتاء، لأن الوضع المحدد للشريعة يتعلق بأسس المجتمع الإسلامي غير القابلة للتغيير.
وفي خريف عام 2013، بأمر من وزير العدل، تم تشكيل لجنة لحصر التشريعات الحالية ووضع المقترحات لجعلها متوافقة مع القواعد والمبادئ الأساسية للشريعة، وفي ديسمبر 2013، تم تشكيل وزارة العدل نشر وثيقة فريدة مخصصة لتطبيق قواعد الشريعة. وتنص على أن هذه القواعد تقف فوق التشريعات، وهي ذات طبيعة فوق دستورية ولها الأولوية في أنشطة هيئات العدالة وفي عملية إنفاذ القانون، ودعت الوزارة كافة “القضاة العادلين” في ليبيا إلى ممارسة الرقابة على رفض تطبيق أي حكم قانوني يؤكد الظلم ويتعارض مع معتقداتهم الدينية ومبادئ العدالة التي تحميها الشريعة الإسلامية.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن مشروع دستور البلاد تم تطويره في عام 2014، حيث تنص المادة 5، مثل النص الأصلي للإعلان الدستوري، على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وفي الوقت نفسه، لا يمكن للمرء أن يتجاهل التغييرات التي أدخلت على الإعلان الدستوري في مايو 2015، فلا يقتصر البند الأول من هذه الوثيقة على إعلان الشريعة باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع، بل ينص على أن أي تشريع يتم اعتماده بشكل يخالف قواعد الشريعة ومقاصدها يعتبر باطلاً.
ولا تظل مثل هذه المتطلبات التنظيمية مجرد شعار فارغ، وهي تعكس تصميم السلطات الليبية على اتباع طريق الأسلمة المستمرة للنظام القانوني، وهذا ما يؤكده بيان مؤتمر الشعب العام المعتمد في إبريل 2016، والذي أورد خطوات في هذا الاتجاه، منها تطوير التشريعات الخاصة بالوصايا والربا والزواج والطلاق والعقارات والتعويض النقدي عن القتل والعقوبة على ارتكاب هذه الجريمة وفق مبدأ الانتقام والتمويل والاستثمار والأوراق المالية والبنوك الإسلامية وحماية الآداب العامة والسرقة والسطو والعلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج والاتهامات الكاذبة بارتكاب هذه الجريمة، وقد أدت هذه التدابير التشريعية إلى حقيقة أن الشريعة تلعب دوراً أكثر بروزاً في النظام القانوني الحالي في ليبيا مما كانت عليه في عهد القذافي، عندما أصبحت البلاد رائدة في مجال أسلمة القانون في العالم العربي.
من هنا، وفي خلاصة كل ما سبق، يتيح لنا التحليل أن نستنتج أن مكانة الشريعة في التطور القانوني للدول العربية الحديثة يعتمد على عوامل عديدة، ومع ذلك، بشكل عام، يتم تحديد دور الشريعة هنا اليوم في المقام الأول من قبل المشرع، وعلى المستوى الدستوري في المقام الأول، وفي هذا الصدد، اكتسبت دراسة الوضع الدستوري للشريعة كمصدر للتشريع أهمية علمية وعملية خاصة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.