انطلاقًا من أنَّ لكُلِّ زمن جيله وظروفه، وطبيعته وأحداثه، ومتغيِّراته ومستجدَّاته، فاليوم ليس كالأمس، والغد ليس كاليوم، محطَّات في الحياة تستدعي المزيد من المهنيَّة والاحترافيَّة في التَّعاطي معها في ظلِّ ثورة الواقع وتعاظم طموحاته، وتبقى هذه المعطيات محطَّات يجِبُ أن تكُونَ حاضرةً لدى كُلِّ مسؤول حكومي يقوم على رعاية أبناء الوطن وأدَّى القَسَم أمام السُّلطان بتحقيق هذه المهِمَّة والوفاء بهذا الالتزام والإخلاص فيه وبذل الجهد واستفراغ الوسع في تنفيذ متطلَّباته، ولَمْ تَعُد مسألة التَّأخير أو التَّضييق أو التَّحايل أو غيرها من الممارسات مسارًا إيجابيًّا يُمكِن من خلاله التخلُّص من هذه الالتزامات أو يعطي مبررًا في إرجاء تنفيذ الأمْرِ بهدف نسيان النَّاس لَهُ، بل أثبتت هذه الممارسات أنَّ الجيل الحالي في طبيعة تشكيله وكفاءة استخدامه للتِّقنية باتَ لا يأبه لهذِه المُبرِّرات ويُدرك ما تتَّجه إِلَيْه من مخاطر وأضرار، فيبقى على إصراره متمسكًا بطموحاته وأهدافه وغاياته مهما طال الوقت أو قصر، لا يفتُّ التَّأخير من حرصه على نَيْل الاستحقاق أو الوصول إلى بُغيته وغايته قَيْدَ أُنملة، فهو يبحث عن حقوقه بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وتحت أيِّ ظرف من الظُّروف، قليل الانتظار فالوقت عِنْده كالسَّيف إن لَمْ تقطعْه قطَعَك، وهو يستشعر بأنَّ هذا المتطلَّب الَّذي يسعى إِلَيْه حقٌّ لَهُ بنَصِّ القانون يجِبُ أن يوفَّرَ لَهُ تحت أيِّ ظرف، لذلك كان من الأهمِّية أن يتداركَ الجهاز الإداري للدَّولة هذا الأمْرَ، وهو ما جاءت التَّغييرات وإعادة الهيكلة الحكوميَّة من أجْلِ تحقيقه، وما جاءت رؤية «عُمان 2040» من أجْلِ تأطيره وإثباته وتأصيله وعَبْرَ سرعة البحث عن آليَّات تضْمَن تحقيق هذه الطموحات، لذلك أصبحت هذه الأمور بحاجة إلى مزيدٍ من الجِديَّة والاهتمام والحرص، وأن تنالَ نصيبها من التَّفكير والتَّأمل والمراجعة والتَّصحيح واتِّخاذ القرار، وإدارتها في ظلِّ عقليَّة مُتجدِّدة تستوعب الأحداث وتتناغم مع ما يفكِّر به الجيل الحالي وأولويَّاته واهتماماته والجوانب الَّتي تُشبع شغفه، بحيث تحافظ على درجة كبيرة من الشَّفافية والوضوح ومنح الفُرَص وتمكين المواطن من صناعة التَّغيير.
وبالتَّالي التَّأكيد على أنَّ ملفات وقضايا الباحثين عن عمل والمُسرَّحين من أعمالهم من القِطاع الخاصِّ والأمان الوظيفي وغلاء المعيشة والتحدِّيات الَّتي تواجه الأُسرة وتعقّد الإجراءات والتوسُّع فيها، ملفَّات جوهريَّة مرتبطة بالإنسان قلبًا وقالبًا وجَب معالجتها، وباتَ التَّأخير فيها خطرًا يُهدِّد سلامة كيان إنسان هذا الوطن وعقله وفكره وقناعاته، ويرسِّخ لدَيْه قناعات سلبيَّة نَحْوَ نَفْسِه ووطنه وولائه وانتمائه، لِمَا فيها من شعور الشَّاب الشغوف الجادِّ بأن يخدمَ وطنه من تعطيل قدراته وتعمُّد تهميشه أو محاولة فرض واقع جديد عَلَيْه قَدْ لا يكُونُ نابعًا من اختياره أو معبِّرًا عن إرادته، ممَّا يُقلِّل من الثِّقة في النَّفْس والاعتماد على الذَّات ويقلِّل فيه الدافعيَّة وروح المبادرة والمبادأة وشغف العِلم والعمل والعطاء، فتتعطَّل مداركه وشغفه الَّذي كان يتَّجه لبناء وطنه أو رفع درجة الإصلاح والصَّلاح فيه لِتتَّجهَ الممارسة إلى التَّغريد خارج سرب الوطن، وما ارتفاع مؤشِّرات القلق النَّفْسي والاجتماعي النَّاتج عن ارتفاع هاجس السلبيَّة، ونُمو الكثير من الظواهر المُجتمعيَّة والعادات السلوكيَّة غير السارَّة، مع ارتفاع جرائم المخدّرات والجرائم الاقتصاديَّة كالغشِّ والاختلاس والاستفزاز والابتزاز وغيرها من الأمور، إلَّا جزء من هذه التشوُّهات الَّتي كان من بَيْنِ أسبابها البطء والتَّأخير وغياب الجِديَّة في التَّعامل مع قضايا الشَّباب وهواجسهم اليوميَّة، خصوصًا ما يتعلَّق مِنْها بقضايا العمل والتَّوظيف والتَّشغيل والتَّسريح ومشاريع الشَّباب والديون والقروض البنكيَّة، وغيرها من التَّراكمات الَّتي باتَتْ تتَّجه بالشَّباب إلى المنصَّات الاجتماعيَّة فيرتمي في أحضانها لِيؤدِّيَ تجييش الذُّباب الإلكتروني والحسابات الوهميَّة دَوْرها في اغتنام فرصة دخول الشَّباب الحائر في هذه المنصَّات لِتبدأَ بالتَّأثير عَلَيْه والتَّغيير في المُسلَّمات والقناعات والأفكار والثَّوابت الَّتي يؤمن بها، الأمْرُ الَّذي سيترتَّب عَلَيْه تعريض النَّشء للكثير من المخاطر الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة وانتزاع الشُّعور الوطني لدَيْه والهُوِيَّة الوطنيَّة في ظلِّ قياسها بمعيار المادَّة والمكافآت والحوافز.
من هنا تأتي أهمِّية إعادة النَّظر في هذا المسار وخلق صورة أخرى تستنهض ذات المواطن وتستشعر أولويَّاته وتلقى هاجس الاهتمام بما يفكِّر فيه وما يتحدَّث عَنْه في القضايا المختلفة الَّتي باتَ يواجهها، وشكَّلت تحدِّيًا كبيرًا في ظلِّ ما تفرضه من تناقضات وأحداث ومتغيِّرات بحيث تؤسِّس فيه جهود المؤسَّسات وما تقوم به من مهام وما تتَّجه إلى تنفيذه من خطط وبرامج أو تقرُّه من أولويَّات بحيث يجد قربها من اهتماماته وسعيها للأخذ بيَدِه والارتقاء بمواهبه وتمكينه وضمان احتوائه، فتؤسِّس فيه قِيَم الولاء والانتماء والانصهار في كيان الوطن ومُكوِّناته وتأصيل المواطنة المنتِجة النَّابعة من صِدق إيمانه بالوطن وما يحمله من أجْلِه وما يسعى لِتَحقيقِه من غاياته تستهدف الارتقاء بأبنائه وفتح أبوابه لَهُم، من خلال الاهتمام به والإنصات إِلَيْه والاستماع لَهُ واستشعار دَوْره وأهمِّية وجوده وضرورة الانتقال به إلى مرحلة القوَّة؛ كونه شريكًا استراتيجيًّا مع الحكومة في رسم ملامح المستقبل القادم بسلطنة عُمان، فإنَّ تماهي هذه الجهود وتناغمها في تحقيق المُكوِّن الوطني وسعيها نَحْوَ بناء جسور تواصليَّة بَيْنَ المواطن والمؤسَّسات والقِطاعات ورؤية الدَّولة وأهدافها، سوف يكُونُ لَهُ أثَره في تحقيق استحقاقات الشَّباب وإخراجه من الدَّائرة الضيِّقة في التَّفكير الَّتي قَدْ لا تتعدَّى الوظيفة والحصول على المكافأة والتَّرقيات والحوافز لِتتَّجهَ به في إطار التَّفكير المعمَّق والأداء المُخطَّط والعمل المُتقن إلى تأصيل فلسفة التَّغيير والبناء في ذاته وتجسيد قِيَم الإخلاص والاحترافيَّة لِتبرزَ بصورة أكبر في تضحياته وولائه وانتمائه والتزامه ومسؤوليَّته في الانتقال بهذه البرامج والمستهدفات إلى ميادين المنافسة وعرصات الإنتاج وإثبات بصمة حضور في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة.
لذلك كان بناء هذه العقيدة الوطنيَّة القائمة على رفع درجة الشعور الإيجابي للمواطن بما يُقدِّمه الوطن من منجزات، وما يتَّجه إِلَيْه من خطوات في البناء والتَّطوير والتَّحديث، بحاجة إلى إخلاص المسؤول وامتلاكه ضمير المسؤوليَّة وروح المساءلة وحِسَّ التَّغيير، وإنتاج الأفكار والحلول المنتِجة والتوسُّع في الخيارات والبدائل وتجدُّدها في ظلِّ إيمانه بعقليَّة الوفرة الَّتي تفتح للمواطن أرحب الآفاق، وتبني فيه الآمال العريضة والأحلام الكبيرة بحيث يجسِّدها في واقع عمله وطبيعة مهامه ومسؤوليَّاته الوظيفيَّة، ويؤطِّرها في مدخلات البناء ومسوِّغات الإنجاز ويستحضرها في كُلِّ محطَّات العمل القادمة، لِتبقَى المسؤوليَّة الوظيفيَّة للمسؤول الحكومي والموقع الَّذي يجسِّده في هرم المؤسَّسة، خيوطًا ممتدَّة لِبناء المستقبل والعمل معًا من أجْلِ التقدُّم بثِقة، ولذلك نعتقد بأنَّ الرهان الأكبر اليوم في ظلِّ رؤية التَّجديد والتَّطوير وما حملته رؤية «عُمان 2040» من طموحات متعاظمة تقع على المسؤول الحكومي في فلسفة البِناء والتَّجديد والإنجاز والإعجاز الَّتي يؤمن بها ويجسِّدها في واقع عمله ويطرحها، خيارات استراتيجيَّة في سبيل إعادة توجيه المسار لِصالحِ تحقيق نواتج نوعيَّة وأداءات مُبهِرة.
عَلَيْه، فإنَّ معالجة هذه القضايا والملفَّات وفتح المجال للمواطن لِضمانِ إثبات حضوره وموقعه في تشكيل هُوِيَّة العمل والمستقبل والحفاظ على درجة التَّوازنات في شخصيَّة المواطن، بحاجة إلى فتح محطَّات ومنصَّات حواريَّة أوسع من أجْلِ استقطابه واحتوائه، وهو الأمْرُ الَّذي وجَّه إِلَيْه جلالة السُّلطان المُعظَّم في أكثر من خِطاب لَهُ بالوقوف على الواقع المعيشي للمواطن والاستماع إِلَيْه والإنصات لَهُ، والاستفادة ممَّا يطرحه عَبْرَ المنصَّات الرَّقميَّة من قضايا وأولويَّات بعد تشخيصها وتحليلها وإعادة تبويبها وتصنيفها؛ كما أنَّ توجُّهَ سلطنة عُمان نَحْوَ تطبيق اللامركزيَّة والإدارة المحليَّة في المحافظات، وتفعيل البرامج والمنصَّات الإلكترونيَّة في تبسيط الإجراءات، وتعزيز الحوكمة والكفاءة والإنتاجيَّة، والاستمرار في إعادة هيكلة مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة وربطها بالمُجتمع وتعميق اتِّصالها بالمواطنين من خلال إدماجها في المُجتمع وتمكينها من تقديم خدمات نوعيَّة، ووضع المواطن في صورة العمل الوطني والجهد المؤسَّسي؛ إنَّما يأتي تأكيدًا للنَّهج السَّامي لِجَلالةِ السُّلطان المُعظَّم في أن يكُونَ المواطن حاضرًا في كُلِّ تفاصيل العمل الوطني ومنظوماته، وسوف يقدِّم مساحة أوسع للعمل الوطني القائم على استشعار هذه الأولويَّات ويتقاسم مع المواطن روح التَّغيير الَّذي يتَّجه إلى عُمان الغاية والهدف، ويبقى على المؤسَّسات أن تجتهدَ في تقديم صورة مميَّزة لِخدماتِها حَوْلَ أدائها بقربها من المواطن واستيعابها لِطموحاتِها، وحرصها على معالجة التحدِّيات الَّتي يواجهها، وتذليل الصعوبات الَّتي تعكِّر من مزاجه أو تؤخِّر حصوله على هذا الحقِّ الوطني؛ فإنَّ روح التَّغيير الَّتي تسري في عمل المؤسَّسات وقِيَمها وخططها وبرامجها وأدواتها ومنتجها وطريقة إدارتها لمتطلَّبات الواقع ومعالجتها لِمُشْكلاته، ستنعكس إيجابًا على أشرعة التَّغيير الَّتي تزيِّن حياة المواطن وقناعاته وطريقة تفكيره، واستجابته وردود أفعاله، وتعاطيه مع الأمور، وأحكامه الَّتي يسقطها على عمل المؤسَّسات، والعقيدة الَّتي يتبنَّاها حَوْلَ هذه المؤسَّسة أو تلك، بل أيضًا يستشعر ما تخرج به هذه المؤسَّسات من مبادرات واستراتيجيَّات وأُطر ونماذج، فيتبنَاها لِشُعورِه بأنَّها تُمثِّل الوطن والمواطن، فيتقبَّلها بقَبول حسَن ويبعث فيها روح الشُّعور بأثَرها في تشكيل صورة المستقبل لدَيْه في إطار من الحكمة والوعي والثِّقة.
إنَّها رسالة لكُلِّ مسؤول في هذا الوطن الغالي أقْسَم بالمحافظة على النِّظام الأساسي للدَّولة ورعاية مصالح المواطنين والإخلاص لله والوطن والسُّلطان؛ أن يكُونَ خير نموذج يحافظ على هذه الأمانة ويصدُق في إتمام هذه الرسالة وإتيانها على أكمل وَجْه. فسلطنة عُمان نعمة يجِبُ المحافظة عَلَيْها في نفوس أبنائها، وعقيدتهم وفِقه حياتهم، فلا تُضيِّع أيُّها المسؤول استشعار أبنائها لِفضلِها عَلَيْهم بتأخير أو تضييق أو سردِ أعذار ومبرِّرات المنْع والنُّدرة في حصولهم على حقوقهم الوطنيَّة واستحقاقاتهم الَّتي جادَ بها عَلَيْهم الوطن وجلالة السُّلطان.
د.رجب بن علي العويسي