ها هو رمضان قد أذن بالرحيل، وليته لم يرحل، فهل سترحل معه أمنياتنا وصلواتنا ودعاؤنا وشكرنا وتضرعنا والتزامنا واجتهادنا ومبادراتنا، أم ستظل محفوظة في القلب والعقل والسلوك، ممارسة واعية، ومقاصد نبيلة، وأمنيات حالمة، وأخلاق راقية. فشكرا لك رمضان فقد حملت لنا من أقدار الله وفضائله الكثيرة مما قرت به أعيننا، وارتاحت له نفوسنا، وسلمت به ألسنتنا ، وسعدت له مسامعنا، وسلكت له دروبنا، فضلا من الله وكرما، لقد صنعت لحياتنا قيمة، وأوجدت لها معنى ، رسمت للنفس خير طريق، وحملت للقلب خير رفيق، فكان للحياة مبادئها الصحيحة، وللإنسانية مسارها القويم، وللبشرية طريقها في التعاطي مع المواقف والظروف والأحداث وتغير الأحوال، مبادئ وحكم، وقيم وأخلاقيات، واستراتيجيات للأمن ، ومنطلقات للتنمية، ومسارات للتفوق، وحدود للسلوك، وضوابط للممارسة، وبرامج للترويح ، فأصل كل ذلك فينا روح التغيير، حياة متجددة تنهض بالإنسان وتسمو بأخلاقه وترقى بأفكاره وحواراته، تمنحه فرص التدبر وممارسة التأمل في مخلوقات الله، فرقرقت قلبه، وأصلت سمو هدفه، وهذبت عاطفته، وقننت مسارات عمله، ووجهته لكريم الخصال، وفضائل الطباع، حتى كانت له طريقا يجنبه الزلل، ويقيه العثرة، ويمنحه الثقة، ويرشده طريق الفضائل، لقد انتج رمضان مجتمعا فاضلا حمل أتباعه على إصلاح النفس، وحسن إدارة الفكر، ومنطق صياغة الكلمة، فأحبته القلوب الرضية، وانفتحت له أبواب السماء الندية، فأمنت النفوس واستراحت، وصلح الحال، وتهافت الناس لطلب الخير، ونشر زكاة العلم، وتقديم الصدقة، والسؤال عن زكاة الاموال والأنصبة، ورغب الناس فيما عند الله، فضلا من الله وكرما وتقوى منه ومغفرة، تحولت على إثره حياة الناس إلى استقرار، واغتسلت فيه الأنفس من تعب الكراهية والاحقاد والمشوهات ومعكرات المزاج، واتجهت فيه تتسابق لبلوغ الأجر وزيادة، فانبرى في الواقع من يحملون سيم التسامح والعطف، والابتسامة والاحترام ، امتثالا لأمر الله، وانقيادا طوعيا لما منه على الانسان من فضل وتكريم، فإذا فيه الناس رغم تقلب أمزجتهم وتغاير أحوالهم روحا واحدة، وفريق واحد؛ تكامل في الأدوار، وتناغم في بلوغ الهدف والوصول إلى مرحلة التقوي، حيث التسامح المعرفي، وقيمة السكوت، وفضل الصمت على الأذى، والرضا بالقضاء، لتجد الناس في أيامه فرصة لها للتعمق في دينها وتلاوة كتاب الله، فكان له في النفس حظوة، وفي القلب مكانه، وفي السلوك مقالا وموعظة، فإن رمضان في حياة الأمة المؤمنة طريقها لقراءة ذاتها، وفهم أساليبها، والثقة في أدواتها، ومراجعة تصرفاتها، وتعميق مبادئها، والتزام منهج الحق، إنه مدرسة الحياة تعلمت منها الإنسانية الواعية الصادقة مع نفسها وربها، معاني كثيرة ومبادئ عديدة، تؤكد منهجية التأثير، واستراتيجية إدارة السلوك، وتعميق مفهوم الوعي وإصلاح النفس، وقيم الصبر ، والشكر، والدعاء، والثقة في القدرات ، والقدرة على التحمل والمواجهة، وترسيخ مبادئ العدالة والمساواة والأمن الوقائي في مختلف جوانب حياة الإنسان الفكرية والسلوكية والأخلاقية والمهنية والذاتية، آمنه في المبدأ والمصير، والمنشأ والمرجع، وأصّل في النفس قيم الاعتدال والتوازن، وحسن إدارة الموارد ، وكيفية تنمية الذات، وأسس تحقيق الاستدامة فيها بزيادة الطاعة والصدقة والنفقة في وجود الخير، والتقرب إلى الله، والشعور بالتكامل الإنساني والتكافل الاجتماعي، وقبل ذلك كله أدرك الإنسان خلاله ضعفه وافتقاره الى الله ورغبته في الفضل وكسب الأجر ونيل الثواب ، والسعي لما عند الله ، وما عند الله خير وأبقى، فهو منهج لحفظ النعم، وترسيخ قيم التنمية، وسلوك الأداء، وتقييم الذات ومراجعة الممارسة، وترسيخ ثقافة القراءة والاطلاع والبحث وغيرها مما لا يعد ولا يحصى.
وبعد هذا وذاك ألا يستحق رمضان أن نمنحه شكرنا ووفاءنا لما قدمه لحياتنا من كريم فضل، وعظيم أمنية ، وفاؤنا لرمضان أن نعي ماذا كان في حياتنا، وكيف استطاع أن يغير مسار عملنا، أن ندرك ما قدمه لنا ولأعمارنا وأعمالنا ، ليظل رمضان حديث القلب والعقل، ومسك الحياة وعبيرها، وديمومتها واستمرارها، وفضلها وكرمها، حياة مبهجة ونفس مطمئنه، وروح وثابة للخير، ساعية للفضل ، أصيلة بمعدن قربها من الله والتزامها هديه، وإن حياة تمسسها الظروف وتعترض طريقها الأقدار، وتمارس دورها في ظل موجهات واختيار، كفيلة بأن تحمل من رمضان معينها للمواجهة وطريقها للرضا واجتهادها للابتكار وصناعة البدائل فتثمر وتنتج وتعطي عطاء غير مجذوذ ، وفاؤنا لرمضان يحمّلنا مسؤولية البحث في استدامة السلوك وتعافي النفوس واصلاحها، كيف نضع رمضان في قائمة البدائل التي نرى خلالها إنسانيتنا وكرامتنا وقدر الله فينا وكرمه علينا ولطفه بنا، وفاؤنا لرمضان بأن نمتلك الثقة في التعاطي مع متطلباته، ونرفع من سقف توقعاته فينا ومناّ، لنغرس في قناعتنا كيف استطعنا من رمضان أن نقدر الله حق قدره ، ننظر في ملكوته الساطعة ونتأمل مخلوقاته الباهرة، ليكن رمضان – مبادئ وقيم وأخلاقيات – طريقنا القادم في الثبات على مبادئنا وقضايانا وأولوياتنا ، ووطنيتنا وأخلاقنا واحترامنا وتغيير قناعاتنا، وتمكين شبابنا، ونمو تنميتنا وازدهار وطننا، وتعميق تواصلنا، وتطوير مؤسساتنا ومسؤوليتنا في صناعة أمن وطننا وسعادة أبنائه، لجمع كلمتنا، ورقي تعاملنا، للمحافظة على هويتنا، ووقايتنا من سلبية النفس والآخر، وتقوية ضميرنا بالحب والتواصل والألفة والعطف والحنان، لنحمل من رمضان مبادئه وأخلاقه ، ونسير بها في العالمين، نرسم خطاها في النفس فتصدقها الممارسة، وتعييها الفكرة، ويضبطها وازع الضمير واحترام القانون وحماية الممتلكات والمحافظة عليها، لنكون أوفياء لرمضان فقد صنع من أجلنا الكثير، ومنحنا الأكثر، وأرشدنا إلى استراتيجيات إدارة ذواتنا وتصالحنا معها، وأوجد للآخر في النفس القيمة، وفي القلب مكانه، فكان له حق الحوار والتعايش والاعتراف والأخذ بيده، ليكن رمضان حياتنا القادمة، في إحداث التحول في حياتنا بضبط مساراتها ولحجم انحرافها وبناء ذاتها وتعميق قيمة المبدأ فيها، وعندها تصبح أيام رمضان حياة قادمة لنا في نظرتنا للحياة والكون والإنسانية. إن الأمة التي تربى أجيالها على ما حمله رمضان من منارات الحياة الراقية وضيائها وجلالها وجمالها وقيمها وسموها، ومنهجيات للصلاح والاصلاح، ومنطلقات للتنمية والتطوير، وموجهات للأمن والنظام، واستراتيجيات للعلم والعمل، لهي أمة حازت قصب السبق في قدرتها على أن يكون لها في السماء شأنا، وفي الأرض بصمة وفي العالمين موقعا. إن رمضان بذلك أنموذج لمجتمع فاضل، تحكمه المبادئ وترعاه القيم، وتنظمه الأخلاق، وتضبطه القوانين والتشريعات واللوائح التي ينبغي أن توجّه لها ناشئة الوطن ويعي مسؤوليتها شيبه وشبابه، بما يجعلهم حافظين لقواعده، ملتزمين هويته، مؤمنين بسياساته، مدركين لما تقدمه لهم نهضته من رعاية وعناية. فشكرا رمضان لقد غرست فينا قيمة الحياة في ظلال الايمان والأخلاق والمبادئ، وأسست فينا روح التغيير وعظم الإرادة، واعدت فينا التفكير في أنفسنا وواقعنا، واكسبتنا روحا جديدة وآمالا متجددة، وانتفضت فينا حب العطاء والخيرية والعودة والرجوع والأوبة إلى الله، وعلمتنا قيم الدين العظيم، واستنطقت فينا روح الإسلام الخالدة. وأوقدت فينا اسباب الانتصار على أعداء الفضيلة والإنسانية والشرف، لتعيد لنا أحداث غزوة بدر الكبرى وعلامات النصر والتأييد التي وعد الله بها عباده المؤمنين، ليجسدها اليوم المؤمنون من أهل غزة في صمودهم وصبرهم وتضحياتهم فيما يواجهونه اليوم من حرب شرسة وعدوان ظالم من اليهود المغتصبين والصهاينة المحتلين ومن والاهم وشايعهم، فإن نصر الله لأهل غزة آت، ووعده فاعل، وفتحه المبين قادم بإذن الله.
ليكن رمضان لنا قضية وهدف، ومنهج ومسار حياة، نحافظ على ثبات وصدق مبادئنا نحوه، احتراما واجلال وتعظيما لفضله، نتفانى من أجل تطبيق أحكامه، نرد الجميل له، نعتبر ما كان في النفس نحوه ، نصيغ حياتنا على لحنه، وتراتيل نظمه، وشذى بلسمه، لنستمتع بما حمله لحياتنا من تغيير وتجديد وإعادة الأمل، ليكن لنا معينا لحياتنا القادمة، ومنهلا لمسيرتنا المظفرة نحو العطاء والتنمية والحب لديننا وأخلاقنا ومبادئنا، لوطننا وأمتنا، في ظل ما حمله لنا من نبل القصد، ورقي الهدف وسمو الخلق، وذوق المنافسة ، فاللهم نسألك ربنا أن تعيد علينا رمضان أعواما عديدة وأزمنة مديدة، وأن تنصر أهل غزة نصرا مؤزرا وأن تفتح لهم فتحا مبينا.
د. رجب بن علي العويسي