تطرح إشكاليات الباحثين عن عمل والمُسرَّحين من أعمالهم وأنماط العمل ومبادرات التوظيف في ظلِّ ارتفاع أعداد الوافدين، أهمِّية إحداث تحوُّل نَوعي في مسار بناء الوظائف وإعادة إنتاج وهيكلة قِطاعات التعليم والتوظيف والتشغيل وسُوق العمل ومؤسَّسات الإنتاج لتتَّجهَ نحو تعظيم المهارات وإعادة تسويقها لإنتاج المواطن اقتصاديًّا، وتمكينه من إدارة وتطوير مشروعه الاقتصادي.
لذلك يُمثِّل إنتاج المواطن اقتصاديًّا أولويَّة وطنيَّة يجب أن يكُونُ لها حضورها الواسع والجادُّ في كُلِّ الممارسات التنموية، فالتعليم الذي تقع عليه مسؤولية إعداد المواطن اقتصاديًّا عَبْرَ مناهجه وأنشطته وبرامجه وحجم الممارسة الاقتصادية والمالية والنشاط الابتكاري والمواهب التي يتمُّ صقلها في بيئة المدرسة فتنمو في حياة الطالب وتنضج لتشكِّلَ طريقة في بناء مستقبله، والمحافظة على نسيجه الاجتماعي، في ظلِّ ما يحمله من فرص الإنتاج ومساحة المبادرة والجديَّة في تكوينه الاقتصادي، ويصنع للمسار المهني والتقني والفني حضورًا واسعًا في برامجه وتخصُّصاته وعَبْرَ توجيه هذه التخصُّصات لسُوقِ العمل وربطها بالتحوُّلات الحاصلة في الاقتصاد الرَّقمي، بل تتَّجه به إلى أن يكُونَ مسوقًا لذاتِه مستنطقًا ما لدَيْه من قِيَم الاقتصاد والوعي المالي والقدرة على إدارة المشاريع الاحترافية، وإثبات بصمة حضور نَوعية له في عالمه، معتمِدًا على ذاته مجسِّدًا خبراته، مستنطِقًا جوانب الابتكارية والتطوير والتسويق المالي وريادة الأعمال لتكُونَ محطَّاته النَّوعية التي يجسِّد فيها نتائج مراحله السابقة، لتبدأَ مرحلة جديدة من العمل والجهد والإنتاجية عَبْرَ تأسيس آليَّات واضحة وبناء إطار عمل هدفها مراقبة التطوُّرات الحاصلة في سُوق العمل للوقوفِ على طبيعتِه ومراجعة التخصُّصات الأكاديمية واتِّخاذ الإجراءات اللازمة لتحليلِ الاحتياجات والمتطلبات الضرورية بما يتناغم مع معطيات سُوق العمل المحلِّي ومتطلبات القِطاعات الحكومية والخاصة من الوظائف المستقبلية، بالإضافة إلى تبنِّي سياسات أكثر وضوحًا في دعم وإعادة إنتاج المشاريع الطلابية بالمدارس والجامعات؛ باعتبارها نواةً لتكوينِ الطالب اقتصاديًّا، وبناء آليَّات عمل واضحة ونماذج مقنّنة تضْمن قيام القِطاع الخاص بِدَوْر فاعل في تبنِّي المشاريع الطلابية والاستفادة منها، وتعظيم دَوْر مراكز الاستكشاف العلمي والمختبرات العملية بالمدارس بحيث توجَّه جهود هذا القِطاع من أجْلِ تقديم خبراته النَّوعية لاكتشافِ المواهب وصقلها وتنميتها وتطويرها بشكلٍ يضْمَن استمرارية أدائها وجودة ابتكاراتها القادمة، وإيجاد التشريعات والقوانين التي تضْمَن لهذه المشاريع الاستدامة والتنوُّع.
كما تطرح ثقافة العمل الحُر، وريادة الأعمال والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة نماذج عملية لِدَوْر التعليم في بناء ثقافة اقتصادية متوازنة، تُعزِّز في المنتج التعليمي إدارة المشروع، وإنتاج المشاريع الطلابية، والشركات الطلابية، وتقوم على تعظيم مفهوم أعمق لإنتاجية التعليم ومؤسَّساته، الأمر الذي يُمثِّل مدخلًا يُعزِّز من جهود الحكومة في مراحل العمل التنفيذية الأخرى، فبالإضافة إلى دَوْر التعليم القوَّة النَّاعمة في بناء المتعلم اقتصاديًّا وإعادة إنتاج وصقل وبناء مهاراته الناعمة والتقنية، وخلق روح التغيير لديه، وتعظيم فرص الإبداع والابتكار والتجديد في قناعاته، وإضفاء مسارات الحوكمة والمهنية والكفاءة في أدائه، ورفع نسب الاستيعاب في التخصُّصات المهنية والتقنية التي يحتاجها سُوق العمل والتوسُّع في التخصُّصات المهنية، والتنويع في المسارات التعليمية منذ فترة مبكرة، بما يُمكِن أن تتخذَه الحكومة من مبادرات التسريع في الإجراءات المرتبطة بنمو ثقافة العمل الحُر وريادة الأعمال والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة في سلوك مخرجات التعليم، وعَبْرَ اتِّخاذ خطوات جادَّة نحو تبسيط الإجراءات، وسرعة إصدار التراخيص، والتوسع في الخيارات والبدائل المبتكرة التي تتناغم مع اهتمامات الشَّباب ويرتكز عليها سُوق المستقبل والعرض والطلب المحلِّي والعالمي، بالإضافة إلى تبنِّي سياسات أكثر استدامة وأقدر على صناعة التغيير في مشاريع الشَّباب من خلال فرص التحفيز المستمرِّ والدَّعم المالي المنتج، والمتناغم مع قيمة المشروع، والحدِّ من الإجراءات المرتبطة بمراجعات المؤسَّسات الخدمية، بالإضافة إلى تفعيل البرامج والتطبيقات الإلكترونية لتؤديَ دَوْرها بكفاءة وجودة عالية، والتأكيد على أهمِّية وجود آليَّات واضحة تقرن القروض والدَّعم المالي بالتدريب والتأهيل وصقل مهارات الشَّباب، بمعنى أنَّه لا يكفي فقط منح الشَّباب المتَّجه للعملِ الحُر أو روَّاد الأعمال، الدَّعم المالي للانخراط في العمل الحُر، بل أيضًا أن تقدمَ جهة التمويل البرامج التدريبية والتأهيلية المتخصِّصة التي تضْمَن قدرة الشَّباب المتَّجهين للعملِ الحُر على التَّوجيه الكفء لهذه الموارد والاستثمار الصحيح والفاعل لها، للحدِّ من احتمالية تأثُّره بمخاطر الإفلاس أو ضعف إدارة أو التسويق للمشروعِ، وتهيئته النَّفْسية والمهنية في أن يمارسَ دَوْره كرائد أعمال أو صاحب مشروع.
ويأتي دَوْر التدريب المتخصِّص على رأس العمل في صقل قدرات الطلبة في التعامل مع المواقف، وآليَّة التصرف فيها وكيفية التعامل معها وكيفية التسويق لمنتجِه أو العمل الحُر الذي يمارسه بعد أن يكُونَ قد أتقنَ المعارف الأساسية لإدارة المشروع، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة إنتاج التشريعات والقوانين والأُطر والقواعد التنظيمية والضبطية التي تحفظ حقوق المواطن صاحب العمل الحُر، وتفعيل القوانين الصادرة حَوْلَ الاحتكار والإفلاس والشراكة، والتكاملية بين القِطاعين الحكومي والخاص في تقديم التسهيلات اللازمة، وتوفير خيارات أوسع له في طريقة سداد الديون البنكية والتراكمات المالية، وفتح المجال للمستثمر العُماني في التوريدات المباشرة، بالإضافة إلى تسهيلات في إجراءات الاستيراد والتصدير وخفض الرسوم الحكومية والجمركية ذات الصلة. بالإضافة إلى توفير أنظمة الحماية الاجتماعية للشَّباب في العمل الحُر وروَّاد الأعمال، وتبنِّي سياسات تحفيزية في مدِّ التغطية التأمينية للعاملين لحسابِهم الخاص وتقديم الدَّعم الفنِّي والمالي وتخصيص نِسَب من المناقصات الحكومية للمؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة، والحدِّ من العمليات المتكررة التي تضع الشَّباب في عائق المراجعات المستمرَّة، وأن تُسهمَ التقنيات والبرامج والتطبيقات الحكومية في تبسيط الإجراءات وإنجاز معاملات التراخيص الإلكترونية دُونَ الحاجة إلى مراجعة الدوائر الحكومية بالمحافظات، مع استدامة تعريض القائمين على هذه الفرص الاقتصادية لنماذجِ محاكاة للواقعِ الاقتصادي والتغيُّرات الحاصلة في سُوق العمل، وتوظيف مهاراته في مواجهة مخاطر الإفلاس، ثم امتلاكه لبرامجِ التسويق الاقتصادي والترويج عَبْرَ المنصَّات الاجتماعية، وقدرته على تطوير مهاراته الاقتصادية في دراسة الجدوى، وتوسيع خيارات الأنشطة الاقتصادية الواعدة في الطاقة النظيفة والمتجدِّدة والذَّكاء الاصطناعي والهيدروجين الأخضر واللوجستيات.
من هنا تأتي أهمِّية التكامل والشراكة وتوافر الضمانات الوطنيَّة في إعادة تنظيم سُوق العمل وضبطه، وإعادة هندسة عمليات القِطاع الخاص وقِطاع ريادة الأعمال، تأتي العمليات الإدارية والتنظيمية، وإعادة النظر في تشريعات العمل والاستمرارية والحوافز، وكسب القِطاع الخاص لثقةِ الشَّباب العُماني، خصوصًا في ظلِّ حالات التسريح القسرية التي اتَّجه إليها في السنوات الأخيرة، وبناء إطار وطني لمنظومةِ التشغيل وبرامج التعمين والإحلال وتوظيف الخبرة والتجربة وإعادة تدويرها، وضع سياسات الضبطية والرقابية على القِطاع الخاص ومنشآته، وتوفير بيئة عمل مساندة ومتعايشة مع المواطن، والتوسُّع في خياراته الاقتصادية وتقليل الهواجس التي باتت تحدُّ من طموحات واستحقاقات المواطن الاقتصادية، وإعادة هيكلة سُوق العمل وتخليصه من الجراثيم والتراكمات التي باتت تؤثِّر سلبًا على قدرة المواطن على التكيُّف مع المشهد الاقتصادي وسَبر أعماقه واستدامة التعاطي مع أبجديَّاته، وضمان أنَّ التشريعات والقوانين والحوافز وغيرها التي يُمكِن طرحها في بناء المواطن اقتصاديًّا تتَّجه نحو تبسيط الإجراءات وتقليل الترهلات وحسم النزاعات، والحدِّ من الاحتكار ومعالجة إشكاليات الواقع الناتجة عن التجارة المستترة، أو ارتفاع قيمة المواد الخام والمستلزمات، بل أن تتخذَ من تفعيل مبادرات الولاء للمنتج العُماني مسارها لتشجيعِ المواطنين على الاستمرار في الشَّباب العُماني في المؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة وروَّاد الأعمال والعمل الحُر.
أخيرًا، فإنَّ استدامة تبنِّي سياسات تنموية جادَّة وداعمة لإنتاجِ المواطن اقتصاديًّا يجِبُ أن تأخذَ في الحسبان كُلّ الجهود الممارسات الوطنيَّة التي أثبتت حضورها في هذا الجانب ومعالجة التحدِّيات والثغرات، ثم تبنِّي السياسات والتشريعات وإعادة إنتاج الحلول وضبطها بالشكل الذي يضْمَن المحافظة على درجة استحقاقات الكفاءة العُمانية اقتصاديًّا، وتوجيه كُلِّ الفرص من أجْلِ تعظيم الفلسفة الاقتصادية وتوجيه المسارات والممارسات نحو صناعة التغيير، وبناء مُجتمع ناضج يمتلك مُقوِّمات اقتصادية وميزات تنافسية نَوعية.
د.رجب بن علي العويسي