يطرح ملف تسريح القوى العاملة الوطنيَّة من القِطاع الخاص وملف توظيف الباحثين عن عمل في ظلِّ ما يشير إليه التقرير السنوي للاتِّحاد العامِّ لعمَّال سلطنة عُمان في عام 2023 من أنَّ أعداد العمَّال العُمانيِّين الَّذين تمَّ إخطارهم بإنهاء خدماتهم أو تسريحهم جماعيًّا بلغ (3997) عاملًا من (51) منشأة، وما تُشير إليه تصريحات المسؤولين في وزارة العمل من أنَّ أعداد الباحثين عن عمل يزيد عن (110) آلاف باحث عن عمل، يطرح نقاشات مستفيضة تتَّجه ـ بالإضافة إلى الأسباب المتعلقة بإنهاء عقود العمل بمختلف أنواعها ـ إلى العامل الاقتصادي ومستوى النُّمو الحاصل فيه؛ لكونِه المحرِّك الأساسي لإنتاج الوظائف وفرص العمل الدَّائمة واستقرار سُوق العمل والتشغيل، والَّذي يؤدِّي إلى نُموٍّ في الوظائف واستيعاب أعداد كبيرة من المُسرَّحين والباحثين عن عمل العُمانيِّين، الأمر الَّذي يضع الحكومة ومؤسَّسات الإنتاج ومنشآت القِطاع الخاص أمام مسؤوليَّة إعادة هيكلة سُوق العمل وتطوير الاقتصاد العُماني وتبنِّي سياسات اقتصاديَّة أكثر استدامة، تضع تحسين مستويات الإنتاج في أولويَّات الاهتمام، وتصنع من مبادرات سُوق العمل مساحة قوَّة تُعِيد تصحيح الفجوة الحاصلة بَيْنَ العَرض والطَّلب، بالشكل الَّذي يضْمَن تنوُّع الفرص الوظيفيَّة واستدامة الوظائف.
عليه، فإنَّ تعظيم مسار الاستدامة في الوظائف يُمكِن تحقيقه من خلال ركيزتين أساسيتين:
الركيزة الأولى: تتعلق بالحكومة، ومؤسَّسات الإنتاج، ومنشآت القِطاع الخاص، والإجابة عن التساؤل: كيف يُمكِن أن تتجِهَ جهود العمل الوطنيَّة في المرحلة الحاليَّة والمقبلة إلى رفعِ كفاءة سُوق العمل عَبْرَ توطين الصِّناعات، وتعظيم دَوْر الصِّناعات التحويليَّة الَّتي تُسهم في تحريك وتنشيط حركة الاقتصاد بما توفِّره من أنشطة وبدائل وخيارات اقتصاديَّة أوسع، بحيث يقوم الشَّباب العُماني على إدارتها وتشغيلها وتنظيم سلاسل الإنتاج فيها، وبالشكل الَّذي يؤدِّي إلى استيعاب أعداد كبيرة من الباحثين عن عمل، وتوظيف الخبرات وأصحاب التجارب من المُسرَّحين من أعمالهم، ذلك أنَّ قدرة هذه المشاريع على صناعة التحوُّل، نابعة ممَّا توفِّره من فرص وظيفيَّة أوسع وخيارات وبدائل أكثر نضجًا، وأن تتجِهَ الجهود نَحْوَ البحث عن قِطاعات إنتاج أكثر استدامة وابتكاريَّة في استيعاب القوى العاملة الوطنيَّة، والاستفادة من جهود الاستثمار الأجنبي في صناعة التحوُّل القادم الَّذي يُعِيد تقييم المسار ونتائجه على سلطنة عُمان، والفرص الَّتي حقَّقها الاستثمار الأجنبي وانتشار المُدُن الاقتصاديَّة الوافدة في السَّلطنة، وبالتَّالي البحث في إعادة تقييم مسار الاستثمار الأجنبي ومدى قدرته على تحقيق التحوُّل وصناعة الفارق، والَّذي باتَ في حقيقة الأمرِ لا يُحقِّق الأهداف التنمويَّة الحقيقيَّة، ولا يستوعب القوى العاملة الوطنيَّة، خصوصًا في ظلِّ اتِّجاهها إلى الجانب العقاري ومُدُن المستقبل وشبكات الطُّرق، والَّذي لا تستوعب فيه هذه المشروعات أعدادًا كبيرة من العاملين.
أمَّا الركيزة الثَّانية فتتعلق بما فرضته التغيُّرات الاقتصاديَّة من أنماط عمل جديدة مِثل أنظمة العمل المَرِن، والعمل عن بُعد، والعمل المؤقَّت، والعمل لبعضِ الوقت، والإجابة عن التساؤل: كيف يُمكِن تعظيم فرص الاستفادة من مبادرات التوظيف الَّتي أطلقتها وزارة العمل لاحتواءِ الباحثين عن عمل، وإيجاد فرص وظيفيَّة لَهُم تتناسب مع مؤهّلاتهم وتخصُّصاتهم مِثل مبادرات «دعم الأجور» و»المليون ساعة» و»ساهم»؟ والَّتي تستهدف استيعاب أكبر عددٍ ممكِن من المُسرَّحين والباحثين عن عمل لفتراتٍ مؤقَّتة وأوقات محدودة. حيث أوجدت أشكالًا جديدة لعقودِ العمل لا توفِّر بطبيعتها الحماية الاجتماعيَّة والأمان الوظيفي للعاملِ، ما يؤكِّد على أهمِّية تبنِّي سياسات اقتصاديَّة مستدامة، وبرامج عمل تتَّجه نَحْوَ رفعِ درجة الوعي العمَّالي بالأُطر التنظيميَّة والقانونيَّة، والواجب اتِّباعها قَبل إنهاء عقود عمل القوى العاملة الوطنيَّة بمنشآت القِطاع الخاصِّ، بالإضافة إلى أهمِّية تحفيز الأنظمة والمشاريع الاقتصاديَّة لِتُسهمَ في خلقِ وظائف جديدة، وتقدِّم مستوًى عاليًا من الأمان الوظيفي والاستدامة للقوى العاملة الوطنيَّة، واتِّخاذ إجراءات عمليَّة جادَّة بشأن تعظيمِ ثقافة العمل الحُر، وعَبْرَ تبسيط الإجراءات، وسرعة إصدار التراخيص، والتوسُّع في الخيارات والبدائل المبتكرة الَّتي تتناغم مع اهتمامات الشَّباب، ويرتكز عليها سُوق المستقبل والعَرض والطَّلب المحلِّي والعالمي.
وبالتَّالي يؤسِّس مسار استدامة الوظائف لمرحلةٍ متقدِّمةٍ في الاهتمام بالعمل الحُر، وريادة الأعمال والشركات الطلابيَّة والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة، والَّتي تفتح المجال للشَّباب العُماني للعملِ بها، وهذا الأمر يتطلب تحقيق تكامل وتناغم مع كُلِّ المنظومات الاقتصاديَّة والتسويقيَّة والأدائيَّة والتشغيليَّة، والحدَّ من البيروقراطيَّة وسلسلة الإجراءات الروتينيَّة الَّتي باتَتْ تتصدر المشهد وتضع القيود والعراقيل في انخراط الشَّباب وروَّاد ورائدات الأعمال في قِطاع ريادة الأعمال والعمل الحُر والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة، وبما يضْمَن فتح مشاريع جديدة وأنشطة اقتصاديَّة أكثر تجددًا، واحتواء للكفاءات وتستوعب متطلبات سُوق العمل، ويضْمَن الحدَّ من الأيدي الوافدة في ظلِّ سيطرتها على سُوق العمل الوطني وبشكلٍ خاصٍّ في الوظائف الهندسيَّة والأساسيَّة والعُليا والفنيَّة، وضبط العمَّال الوافدة السَّائبة والتجارة المستترة، ما يؤكِّد الحاجة إلى تفعيل قوانين الاستثمار والشراكة ومراجعة قانون الإفلاس للشركات بالشَّكل الَّذي يعطي إجابة مقنعة لمبرِّرِ منشآت القِطاع الخاصِّ بالتسريح، وعَبْرَ إيجاد مراجعات وتقييمات لحالات الإفلاس، وما إذا كان نتاج الإهمال وغياب التحفيز وضعف الإدارة وتراجع عمليَّات التسويق وضعف مستوى الاهتمام بالعمل، حتَّى لا يصبحَ الإفلاس عادةً تتَّخذها منشآت القِطاع الخاصِّ في الحصول على الامتيازات، أو وضع الشَّباب العُماني في أمْر الواقع بقَبول التسريح أو إعادته إلى الشركة بعقودٍ جديدة وأجورٍ أقلَّ، بقدر ما هو بحاجةٍ إلى أن تُعِيدَ هذه المؤسَّسات تصحيح واقعها وبناء ذاتها وإعادة هندسة العمليَّات الداخليَّة وسلاسل الإنتاج فيها، وأن تتحملَ التَّبعات القانونيَّة والاقتصاديَّة والإداريَّة والماليَّة الَّتي تسبَّبت في إفلاسها، ويبقى منح القِطاع الخاصِّ الفرص والتمكين والتحفيز المشروط بالتوسُّع في الإنتاج والوظائف والبدائل، وفتح آفاق أوسع لاستيعاب القوى العاملة الوطنيَّة والتحفيز مع تحمُّل مسؤوليَّته في الوفاء بالتزاماته الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة الطريق لنُموِّ هذا القِطاع والتوسُّع في سُوق العمل، والاستفادة من عقود الاستثمار في توسيع قاعدة الإنتاج والصناعة التحويليَّة، مع أهمِّية توفير الأدوات الضبطيَّة والرقابيَّة وأدوات المتابعة لمنشآتِ القِطاع الخاصِّ.
أخيرًا، يبقى تحقيق استدامة للوظائف في القِطاع الخاصِّ منوطًا بتكاتف جهود أطراف الإنتاج الثلاثة (الحكومة، وأصحاب العمل، والعمَّال) ودَوْرًا فاعلًا للمؤسَّسات الاقتصاديَّة كجهاز الاستثمار ووزارات الماليَّة، والتجارة والصناعة وترويج الاستثمار في رسم خريطة الإنتاج، وأن تحظى هذه المرحلة بحضورٍ مكثَّف لبرامجِ التوعية والتثقيف العمَّالي، بالشكل الَّذي يُتيح للمُسرَّح والباحث عن عمل التسويق لذاتِه، وخوض تجارب جديدة، والتنقل بَيْنَ مؤسَّسات القِطاع الخاصِّ؛ باعتباره مسارًا طبيعيًّا صحيًّا، هذا الأمر يفترض اليوم في منظومة العمل أن تُعِيدَ التركيز على نشرِ ثقافة العمل الحُر وريادة الأعمال، ما يؤكِّد على دَوْر محوري للتعليم في رسمِ هذا المسار من خلال: دَوْر التعليم في تصحيح المفاهيم المغلوطة حَوْلَ العمل المهني والتقني، والتخصُّصات الأدبيَّة والعلوم الاجتماعيَّة، وتنويع المسارات التعليميَّة منذ مراحل مبكِّرة في التعليم الأساسي بحيث ينمو هذا الاهتمام بالتعليم المهني والتقني والفنِّي مع الطالب منذ وقت مبكِّر يستطيع من خلاله أن يصنعَ له حضورًا في تفكيره وقناعاته فيجد فيه استقراره وأمانه الوظيفي فيبدع وينافس فيه ويكرِّس جهده من أجْلِ تقديم منجز منافس، ودَوْر جامعة السُّلطان قابوس ومؤسَّسات التعليم العالي في إعادة هيكلة التخصُّصات الأكاديميَّة بما يتناسب مع طبيعة الوظائف، وإعادة تقييم التخصُّصات المشبَّعة وتوجيهها إلى فتحِ تخصُّصات جديدة ترفد سُوق العمل، بالإضافة إلى دَوْر المؤسَّسات البحثيَّة ومراكز البحث العلمي في تقييم المهارات الَّتي يحتاجها سُوق العمل في القوى العاملة الوطنيَّة، وقياس اتِّجاه الأنشطة الاقتصاديَّة ونَوْع الوظائف فيها، بحيث يصل الفرد إلى سُوق العمل وقدِ امتلك المهارات النَّاعمة والتقنيَّة مع فرص أفضل لتكيُّفه مع بيئة العمل مع طبيعة العمل، وبِدَوْره يُسهم التدريب في تعظيم النتائج المتحقِّقة من أشكال وأنماط الممارسات التدريبيَّة المنتِجة كالتدريب على رأس العمل أو التدريب المقرون بالعمل وغيره.
د.رجب بن علي العويسي