تطالعنا بَيْنَ فترة وأخرى عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة بعض الممارسات الفرديَّة أو الجمعيَّة الَّتي تحمل في ذاتها سلوك الاعتداء والتنمر على الموارد والمكتسبات والممتلكات العامَّة والخاصَّة والفرص الَّتي سعَتِ الدَّولة إلى تعظيم حضورها كاستحقاقٍ وطني يسعد به المواطن ويقرأ فيه صورة المنجز الوطني في ظلال الأمن والسَّلام والتنمية والتطوير، حتَّى أصبحت هذه الممارسات في تنوُّعها وتكررها وتعدُّد أساليبها معاول هدم وتخريب لصفاء ونقاء صورة المنجز التنموي وشموخه، وتبرز حالة من عدم المسؤوليَّة وغياب الضمير أو الشعور الداخلي بما يحمله هذا المنجز الوطني من معاني الفخر والشموخ والعزَّة والمنعة، قيمة مضافة لأولويَّة الإنسان، وإنسانيَّة التنمية بما تحمله من أجْلِ سعادته واستقراره وإنتاجيَّته، على أنَّ تأكيدنا على طرح هذا الموضوع في هذه الفترة من الصَّيف حيث تنشط الحركة السياحيَّة في محافظة ظفار وفي محافظات سلطنة عُمان الأخرى، دعوة إلى التقيُّد بالأخلاق الحميدة والسَّمت الحَسن والذَّوق الرفيع والقِيَم الأصيلة والبُعد عن التكلُّف في استخدام هذه الوجهات بما يضْمن الحفاظ على مستويات عالية من السلوك المتوازن في التعامل مع البيئات الخضراء والمسطحات والوجهات السياحيَّة والوقوف بحزمٍ في وَجْه كُلِّ مَن يسعى للعبثِ بهذه البيئات أو الإساءة إليها أو تشويه صورة المنجز الوطني التنموي السياحي والترفيهي وجعلها مصدرًا لإقلاق الراحة العامَّة والاستهتار بأرواح الناس.
عليه، يُمثِّل الوعي الجمعي حَوْلَ الشواهد التنمويَّة والمكتسبات الوطنيَّة محطَّة تحوُّل تعَبِّر عن صدق مواطنة المواطن وإيمانه بوطنه والتزامه بواجباته ومسؤوليَّاته في التعاطي مع متطلبات الواقع وتجاوز تحدِّياته وسَبر أعماقه، وأعلى درجات الرُّقي الاجتماعي، وأصدق تعابير الولاء والانتماء للوطنِ وقيادته الحكيمة، وأنضج السُّبل والأساليب في قراءة الواقع واستشراف المستقبل وإنتاج مُجتمع القوَّة المتوازنة، في التصرفات والممارسات، والتعامل مع الأحداث، وتجاوز السلبيَّات، وتعظيم الاستفادة من الدروس والأزمات، وتقريب الأفهام وتناغم الأفكار، وتعاضد الجهود وتكامل الأُطر، وتقاسم المسؤوليَّات؛ منطلقًا من تراكميَّة الخبرات والتجارب والمواقف، وخيوطًا ممتدَّة تصقل حياة الفرد كنتاج عملي للصدمات والأزمات الَّتي يتعرض لها، فتصبح دروسًا متعلمة تخلق الوعي وتصنع حسَّ التغيير الَّذي ينطبع على حياة كُلِّ فرد، ويحصِّن المُجتمع تجاه خروقات أفراده لنواميسه الناشئة عن تجاربه الَّتي مرَّ بها، لتنعكسَ هذه الصورة الإيجابيَّة على وعيِه بمسؤوليَّاته في استخدام الفرص والمكتسبات ونواتج ومشروعات التنمية وحُسن استعمالها وتقيده بالضوابط والموجِّهات الَّتي تعينه لبلوغ الأفضل وتحقيق الأجود، وتعزيز أفضل الممارسات في طريقة التعامل معها، بحيث يصبح تقديرها وتعظيم شأنها والاعتراف بالقيمة المضافة لهذا المنجز مهما صغر حجمه أو نطاق عمله، إلَّا أنَّه كبير في عَيْنَيْه، عظيم في وجدانه يُعَبِّر فيه عن مواطنته وانتمائه وولائه، وفي الوقت نفسه يعزِّز فيه مفهوم المسؤوليَّة وحسَّ الاستدامة في طريقة استخدامه والمحافظة عليه واستدامته للأجيال القادمة، ما يجسِّد هذا الوعي في تصرفاته واقواله وأفعاله، متوافقًا مع الذَّوق الرفيع والمشاعر الصادقة ويتناغم مع الضوابط والقوانين النافذة، ويتنازل من خلاله عن كُلِّ ما يؤدي إلى اختزال هذا الجهد وتشويه صورته.
وبالتَّالي أن يأخذَ الوعي الجمعي مسار الحوكمة ومنحى التأطير والاحتواء والمنهجيَّة في بيئة الأُسرة والبيت والمدرسة والتعليم والإعلام والإنتاج الثقافي، ومؤسَّسات المُجتمع المدَني ومسؤوليَّة مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة كُلٍّ في اختصاصه، في تأصيل مفهوم أعمق للوعي الجمعي، وبناء خيارات أوسع ونُظم محاكاة، تعَبِّر تعبيرًا دقيقًا عن وعي المُجتمع وقدرته على التكيُّف مع الضوابط والمتغيِّرات والمستجدَّات الحاصلة في المُجتمع بفعل التقنيَّة واتساع المعرفة وشيوعها وخلق روح تفاعليَّة تفاؤليَّة في هذا المنجز التنموي، وتعظيم القيمة المضافة للمنظومة القِيميَّة والأخلاقيَّة، وكيف يُمكِن أن يؤديَ استنطاق القِيَم إلى تعظيم مساحة الاحتواء للمنجز والمحافظة عليه من كُلِّ ما يؤدي إلى المساس به أو العبث به، والتعريف بأفضل الممارسات والموجِّهات الَّتي يُمكِن أن تمارسَ في هذه الشأن، والسلوك الأمثل الَّذي يُمكِن من خلاله صناعة حاجز القوَّة في مواجهة كومة التراكمات والإحباطات والممارسات المبتذلة والتشويهات الَّتي تستهدف التأثير على القِيَم العُمانيَّة والثوابت، وأن تبادرَ المؤسَّسات التعليميَّة والضبطيَّة والتشريعيَّة والفِرق الخيريَّة وغيرها في تشكيل الوعي الجمعي لدى مختلف فئات المُجتمع؛ باعتباره سلوكًا أصيلًا يقوم على تحقيق التوازنات، وأن تتجهَ نَحْوَ تأطير الإعلام الوقائي وإعداد المُجتمع في التعامل مع الصدمات والمواقف والتزام أخلاق الأزمات في إدارة الواقع الجديد والتعايش مع الحالات الطارئة بمزيدٍ من الحكمة والصبر والتريُّث وتحمل نتائجها بروح وطنيَّة صادقة تضع الجهد الوطني في ميزان الشعور والاعتراف.
إنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي ينبغي التأكيد عليها في بناء الوعي بالشواهد التنمويَّة هو أنَّ الكثير من هذه السلوكيَّات والممارسات باتت تحصل من الوافدين، خصوصًا في ظلِّ ما يمثِّلونه من حضور قوي في المشهد الاجتماعي وما لذلك من تداعيات اقتصاديَّة واجتماعيَّة وتأثير على منظومة القِيَم والأخلاق ما يؤكد اليوم على ما أشرنا إليه في فترات سابقة عند الحديث عن ملف الوافدين ومخاطره على الهُوِيَّة والقِيَم وعلاقته باتساع الجرائم الماليَّة وغيرها في مُجتمع سلطنة عُمان، وأهمِّية وجود مدوَّنة قواعد السلوك العامَّة للوافدين العاملين في سلطنة عُمان، كإطار وطني جامع للسلوك الاجتماعي والاقتصادي للوافدين، من واقع التشريعات والقوانين واللوائح والأنظمة والتعليمات النافذة، وميثاق أخلاقي مكتوب يستهدف الوافد الَّذي يدخل أرض السلطنة بأيَّة صفة مشروعة كانت، بحيث يلتزم بها في أثناء إقامته وتأدية مهامه أو أدائه لواجباته، وتحدّد الجزاءات والعقوبات الَّتي يتمُّ تنفيذها في حالة الإخلال بقواعد السلوك العامِّ الواردة في المدوَّنة، ومنحها الصبغة القانونيَّة كمنصَّة للتأثير والاحتواء الَّذي يُمكِن أن تحققَه في هندسة السلوك الاجتماعي للوافد بحيث تصبح مائدة قيّمة وأخلاقيَّة له يحتاجها في كُلِّ تصرفاته وممارساته، ويسترشد بها في استيعاب الموجِّهات الَّتي تساعده في الحصول على حقوقه الَّتي كفلها له قانون العمل أو قانون إقامة الأجانب بما من شأنه أن يضعَ المدوَّنة أمام مسار التزام واضح بمبادئها ومكوِّناتها، واستشعار قيمتها في إدارة سلوكه؛ كونه يعيش في مُجتمع لديه قواعد ثقافيَّة وحضاريَّة وقيميَّة تستند إلى أصول الدِّين ومبادئ الشرع وفضائل الأخلاق ومحاسن التصرفات.
أخيرًا، قد يرى مواطن ما أحد الأشخاص المواطنين أو الوافدين يعبث بالمتنزهات واستخدام المرافق، أو يمارس دورًا عدوانيًّا نَحْوَ الممتلكات العامَّة والخاصَّة، فيقف موقف المتفرج من ذلك دُونَ أن يبتَّ ببنت شفة؛ لِمَا يتصوره بأنَّه إذا قام بالنصح قد يتعرض لمساءلة قانونيَّة من أُسرة هذا الشخص أو أن يرفعَ عليه قضيَّة أمام الجهات المختصَّة. هذا الأمر وغيره يستدعي اليوم أهمِّية تأطير الوعي الجمعي، وإعادة إنتاجه وضبطه وفق منظومة الحوكمة، واستكمال المحدّدات التشريعيَّة والضبطيَّة والتحفيزيَّة والتمكينيَّة الداعمة له، وأن تقدّم القوانين النافذة مِثل: قانون الجزاء، وتقنيَّات المعلومات، وقانون الجرائم وغيرها صورة متكاملة، ونموذج عملي يصنع منه المواطن محطَّة للتوعية والتثقيف ونشر الوعي المُجتمعي وتقديم المبادرات المُجتمعيَّة الساعية إلى تحقيق الوعي مع مختلف شرائح المُجتمع وفئاته ومع الوافدين المقيمين والزوار، ما يمنح حقَّ الضبطيَّة الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والنصح للآخر للمحافظةِ على المنجز التنموي، وتعظيم الوعي الجمعي بشأنه، وبالتالي التأكيد على أهمِّية تعظيم مبدأ النصح والإرشاد والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصَّبر والحكمة والموعظة الحسنة لتأصيل الوعي، وبناء مدخلاته لصالحِ تحقيق التزام مُجتمعي قائم على الشعور الجمعي والإيمان العميق بالمسؤوليَّة، حتَّى لا يصبحَ تقديم النصح والإرشاد تدخلًا في خصوصيَّة الآخرين، وأنَّ القيام بذلك إنَّما هو صلاحيَّة الدَّولة دُونَ المواطن، فيُخلي نفسه من مسؤوليَّة أنَّه شريك في المحافظة على المكوِّن الحضاري المُجتمعي، فإنَّ الوعي الجمعي مسؤوليَّة مشتركة وسلوك يتناوب الجميع عليه ويعمل على ضمان الالتزام به.
د.رجب بن علي العويسي