تعد انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان من القضايا الحيوية التي تواجه المجتمع الدولي، خاصة في ظل النزاعات المسلحة المستمرة، وإن الانتهاكات الجسيمة لهذه القوانين تفرض التزامات قانونية على جميع الدول، ليس فقط الدولة المنتهكة ولكن أيضاً على الدول الأخرى التي يجب أن تتخذ إجراءات لمنع ومعاقبة هذه الانتهاكات، وفي هذا السياق، يُعتبر الوضع في غزة نموذجاً صارخاً لانتهاكات متعددة للاتفاقيات الدولية، بما في ذلك حظر الإبادة الجماعية.
ووفقاً للمادة 1 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، تتعهد الدول الأطراف بمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية سواء ارتُكبت في وقت السلم أو الحرب، كما تُلزم هذه المادة الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع ومعاقبة الأفعال التي تُشكّل إبادة جماعية، في حالة غزة، تشير الأدلة إلى انتهاكات جسيمة لهذه المادة، مما يفرض على الدول الأخرى واجب التعاون لمنع استمرار هذه الجرائم.
بالإضافة إلى ذلك، تنص المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة (1949) على وجوب اتخاذ الإجراءات القانونية ضد الأشخاص المتهمين بارتكاب أو إصدار أوامر بارتكاب انتهاكات جسيمة للاتفاقية، كما يتعين على الدول الأطراف البحث عن الأشخاص المتهمين بارتكاب هذه الجرائم أو الضالعين فيها وتقديمهم إلى المحاكمة، بغض النظر عن جنسياتهم. هذا الالتزام يشمل الدول الأخرى، مما يعني أن الدول ملزمة باتخاذ إجراءات قانونية ضد من يُعتقد أنهم مسؤولون عن انتهاكات حقوق الإنسان في غزة.
كما تؤكد المادة 7 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) على تعريف الجرائم ضد الإنسانية والتي تشمل القتل والإبادة والاسترقاق والترحيل القسري للسكان والتعذيب والاضطهاد ضد أي جماعة محددة أو مجموعات لأسباب سياسية أو عرقية أو وطنية أو ثقافية أو دينية أو متعلقة بنوع الجنس، ويُعتبر الوضع في غزة، بما يشمل من أعمال قتل وتعذيب واضطهاد، انتهاكاً صريحاً لهذه المادة، مما يفتح المجال للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق والمساءلة.
من هنا، إن انتهاك الكيان الصهيوني لهذه المواد الدولية، من خلال سلوكه العسكري الهمجي في غزة، يُشكّل جريمة خطيرة تتطلب من الدول الأخرى اتخاذ تدابير عاجلة للامتثال لالتزاماتها الدولية، ومن هذا المنطلق، يتعين على المجتمع الدولي بأسره العمل على منع استمرار هذه الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها، وذلك من خلال أدوات القانون الدولي المتاحة.
وقد أصبح من المعروف أن الكيان الصهيوني، ينتهك الحظر القانوني الدولي للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، حيث تُظهر الأدلة القوية انتهاكات متعددة للمادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك قتل الفلسطينيين، التسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير لهم، وإلحاق الأذى بهم بظروف معيشية محسوبة لتدميرهم، بالإضافة إلى ذلك، يُظهر التحريض على الإبادة الجماعية والفشل في منعها ومعاقبة المسؤولين المحرضين على الإبادة الجماعية من قبل الحكومة الصهيونية والصحافة انتهاكات للمادة الثالثة من الاتفاقية.
بالتالي، يشكل حظر الإبادة الجماعية قاعدة آمرة في القانون الدولي العرفي، مما يعني أن انتهاكاتها الجسيمة تفرض التزامات على الدولة المسؤولة وكذلك على جميع الدول الأخرى، حيث تُعرف هذه الالتزامات بالالتزامات ذات الحجية المطلقة تجاه الكافة، وقد أكدت محكمة العدل الدولية أن هذه الالتزامات هي “اهتمام جميع الدول” وأن لجميع الدول مصلحة قانونية في حمايتها.
كما تنشئ اتفاقية الإبادة الجماعية أيضًا التزامات على جميع الدول الأطراف في الاتفاقية، حيث أن “جميع الدول الأطراف لها مصلحة مشتركة في ضمان منع أعمال الإبادة الجماعية”، و تشمل هذه الالتزامات منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها وعدم التواطؤ في ارتكابها، وبناءً على ذلك، فإن جميع الدول مسؤولة عن إجراء تقييمات فردية لمعرفة ما إذا كان انتهاك حظر الإبادة الجماعية قد حدث بغرض تحديد واجباتها، وليس من الضروري أن تتخذ المحاكم الدولية قراراً لتفعيل هذه الواجبات.
وفي 26 يناير/كانون الثاني 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية أمراً بتدابير مؤقتة تعترف بحق الفلسطينيين في غزة في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية والأفعال المحظورة ذات الصلة المحددة في المادة الثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية، والحق في أن تسعى جنوب أفريقيا إلى امتثال الكيان الصهيوني لالتزاماته بموجب الاتفاقية، كما أمرت المحكمة الكيان الصهيوني باتخاذ جميع التدابير المتاحة لمنع ارتكاب الأفعال المنصوص عليها في المادة الثانية من الاتفاقية، ومنع ومعاقبة التحريض على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتعلق بالأعضاء الفلسطينيين في غزة، بالإضافة إلى ذلك، أكدت المحكمة على الضرورة الملحة لاتخاذ هذه التدابير وعلى “الخطر الحقيقي والوشيك” المتمثل في إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بحقوق الفلسطينيين في غزة في حالة عدم اتخاذ أي تدابير، وحقهم في الحماية من أعمال الإبادة الجماعية والأفعال المحظورة ذات الصلة.
من هنا، تشمل العواقب القانونية المترتبة على الدول الأخرى واجبات الامتناع عن اتخاذ إجراءات معينة، وواجبات القيام بإجراءات معينة، بالإضافة إلى حقوق الاحتجاج بمسؤوليات معينة أمام المحاكم الدولية، يتطلب هذا من الدول تقييم واجباتها والتزاماتها في ضوء هذه المخاطر والتحديات القانونية، وعلى ضوء هذه الانتهاكات، ينبغي على الدول اتخاذ خطوات فاعلة للتصدي لهذه الأفعال وضمان الامتثال للقوانين الدولية لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية والانتهاكات المرتبطة بها.
كما أن انتهاك أي دولة لقاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي، بما في ذلك حظر الإبادة الجماعية، يؤدي إلى التزامات بموجب القانون الدولي العرفي لجميع الدول الأخرى، وتشمل هذه الالتزامات الامتناع عن الاعتراف بشرعية الحالة الناشئة عن هذا الانتهاك الجسيم، وعدم تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ على الوضع الناتج عن الانتهاك، والتعاون لوضع حد لأي انتهاك خطير للقاعدة القطعية ذات الصلة، ويعتبر سلوك الكيان الصهيوني في العمليات العسكرية في غزة انتهاكاً لحظر الإبادة الجماعية، وهو حظر يحمل صفة القواعد الآمرة ويطبق تجاه الكافة، بالإضافة إلى انتهاكه للقانون الإنساني الدولي.
وتشير الأدلة إلى أن الانتهاكات الصهيونية تتميز بخطورة وحجم كبيرين، مع تعبير واضح عن نية الإبادة الجماعية في استخدامه للقوة في غزة، هذه العوامل تجعل من المستحيل عملياً فصل الإبادة الجماعية عن العمليات العسكرية الصهيونية، مما يؤدي إلى تقييم شامل يشمل جميع عناصر هذه العمليات كجزء من الانتهاكات الجماعية، وبناءً على ذلك، يتعين على الدول الامتناع عن الاعتراف بشرعية جميع العمليات العسكرية الصهيونية في غزة، وتجنب تقديم أي مساعدة للكيان الصهيوني في إدارة هذه العمليات، كما يتطلب ذلك أيضاً من الدول اتخاذ موقف نشط في التعاون لإنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. وتتطلب الالتزامات الدولية من الدول الأخرى التزاماً إيجابياً يتجاوز الامتناع السلبي، ليشمل العمل الفعال على وضع حد للانتهاكات الجسيمة.
وتعتبر هذه الالتزامات ذات أهمية قصوى في سياق القانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث أنها تهدف إلى ضمان عدم إفلات أي دولة من المسؤولية عن انتهاكات جسيمة مثل الإبادة الجماعية، بالتالي، إن التعاون الدولي في هذا الصدد يجب أن يشمل مجموعة من التدابير، بما في ذلك الدبلوماسية، والعقوبات الاقتصادية، والدعم السياسي للجهود الدولية الرامية إلى محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
كما يجب على الدول الأخرى أيضاً العمل على تعزيز آليات العدالة الدولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، لضمان أن مرتكبي الإبادة الجماعية يخضعون للمساءلة القانونية، وإن الالتزام بمبادئ القانون الدولي يتطلب من الدول اتخاذ إجراءات حازمة لضمان حماية حقوق الإنسان ومنع ارتكاب جرائم جسيمة مثل الإبادة الجماعية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تسعى الدول إلى تقديم الدعم الإنساني للشعب الفلسطيني في غزة، حيث أن تقديم المساعدات الإنسانية يشكل جزءاً من الالتزامات الدولية تجاه السكان المتضررين من الانتهاكات الجسيمة، كما يتعين على المجتمع الدولي أن يتخذ موقفاً موحداً وقوياً لضمان إنهاء هذه الانتهاكات ومنع تكرارها في المستقبل، وتعزيز النظام القانوني الدولي الذي يهدف إلى حماية حقوق الإنسان والحفاظ على السلام والأمن الدوليين.
من هنا، وفي ضوء التحليل القانوني الشامل للوضع في غزة والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، يتضح أن هناك التزامات قانونية واضحة على الدول الأخرى للتحرك ضد هذه الانتهاكات. إن الفشل في منع ومعاقبة الإبادة الجماعية وأعمال العنف الموجهة ضد الشعب الفلسطيني لا يقتصر فقط على مسؤولية الدولة المنتهكة، بل يمتد إلى المجتمع الدولي بأسره. التزام الدول بمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وفقاً للمادة 1 من اتفاقية الإبادة الجماعية والمادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة، يفرض واجباً قانونياً لا يمكن التغاضي عنه.
كما أن المادة 7 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تضع إطاراً قانونياً لمساءلة الأفراد المتورطين في الجرائم ضد الإنسانية، مما يعزز من أهمية التدخل الدولي الفوري والفعال، وإن التحدي الأكبر أمام المجتمع الدولي هو تطبيق هذه القوانين بشكل صارم لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
بالتالي، يتطلب الوضع الراهن في غزة تعاوناً دولياً حثيثاً ومستمراً، بما يشمل استخدام جميع الأدوات القانونية المتاحة، من الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية إلى الملاحقات القضائية الدولية، وعلى الدول الأخرى ألا تكتفي بالامتناع عن تقديم المساعدة للكيان الصهيوني في عملياته العسكرية، بل يجب عليها أن تتخذ خطوات إيجابية لإنهاء هذه الانتهاكات ومنع تكرارها.
ختاماً، يمثل الوضع في غزة اختباراً حقيقياً لمدى جدية المجتمع الدولي في تطبيق مبادئ القانون الدولي الإنساني وحماية حقوق الإنسان. يجب أن يكون الالتزام بالقانون الدولي والعدالة هو الهدف الأسمى لجميع الدول، وأن يتم تعزيز هذا الالتزام من خلال العمل الجماعي والتعاون الفعّال لضمان السلام والأمن والكرامة الإنسانية للجميع.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.