.. تحدثنا في مقال سابق عن ذكريات شهر رمضان واستقباله والمجال الزمني والمكاني والعناصر البيئية في القرية في حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وأبرز مظاهر ذلك الشهر الكريم والتقاليد وتطرقنا الى الوجبات المتداولة وأشهر العادات في ذلك الزمن الجميل ومظاهر الفرح وتطرقنا في وصفنا ايضا الى البيئات السائدة والطبيعة بشكل عام بهدف اطلاع الاجيال الحالية على مشهد من مشاهد الحياة في الماضي لمن لم يدركها، وفي سياقنا التالي سوف نستعرض صورة أخرى من مشاهد الحياة قديما واختيارنا هذه المرة سيركز على المدرسة وطبيعة الدراسة والحياة بشكل عام، وبداية سياقنا مع الذاكرة بدءا من الاستعداد للتسجيل بالمدرسة حيث يتطلب عمل تقدير عمر الطالب كون الغالبية لا يتوفر لديهم شهادات ميلاد، كذلك كان المجال للتسجيل متاحا لمدى 4 الى 5 سنوات زائد عن العمر مراعاة لظروف الناس في ذلك الوقت وقلة عدد المدارس، وكان هذا في بدايات عام 1978م حيث سيتم الحاقنا بالدراسة خلال نفس العام موسم 79/78م وبالفعل تم اجراء تقدير العمر في مستشفى صحم حيث لا يوجد مشفى أقرب منه لتحديد العمر وجزى الله خيرا من قام بهذا الدور ثم وصلنا الى تجمع واصطفاف الاهالي لتسجيل أبناءهم وكان برفقتي ابن اخي حيث تم التسجيل باريحية وبدأ المشوار التعليمي منذ سبتمبر 78م، وكانت مدرستنا من أوائل المدارس بالمنطقة تحمل اسم العلامة جميل بن خميس السعدي، وتقع المدرسة في قرية البداية ولاية السويق رغم أننا من سكان قرية الخويرات التابعة لولاية الخابورة ولكن لكون منطقة البداية هي الأقرب كانت الدراسة بهذه المدرسة .
ما أتذكره في ذلك الزمن الجميل أن جميع الدارسين كانوا من القرى المجاورة لمنطقة البداية في حدود دائرة نصف قطرها 5 كيلو متر تقريبا والسعيد في هؤلاء الطلبه من يقع مقر سكنه بالقرب من المدرسة، أما نحن فقد كنا الأبعد نسبيا حيث نتحرك من منطقة الخويرات في الصباح الباكر بسيارة لندروفر التي تقل الطلاب وتسلك طرقا ضيقة بين المزارع لدرجة أن سيارة النقل تضطر في بعض الاحيان أن تحيد لاطراف الطريق تجنبا لبعض الاحراش وأغصان الاشجار التي تتدلى الى داخل تلك الممرات الزراعية، كما أتذكر أن بعض الزملاء علقت أغطية رؤوسهم في بعض الاغصان المتدلية وتوقف السائق لاعادتها، ومع ذلك كان وصولنا للمدرسة دائما مبكرا رغم تلك الظروف على اعتبار أن الاستعداد من قبل الأسر لتجهيز أبناءهم يكون باكرا على الدوام، ومن الذكريات أيضا أننا ناخذ مصروفنا الدراسي المقدر ب50 بيسة ولا أعلم كيف يكفي ذلك المبلغ البسيط إلا أننا نقتات أيضا على بعض ثمار السدر (النبق) ونكمل بها الوجبة الغذائية، ولكن كل ذلك لا يهم فالاهمية كانت في الظروف المحيطة فالبركة كانت في تلك الحياة، ولا يفوتنا أن نثني على الطاقم التعليمي الذي كان أغلبه من الاخوة المصريين الذين ما زلنا نكن لهم كل الحب والتقدير لما قدموه لنا ولكثير من الدول العربية الاخرى فقد كان المعلم بشكل عام يعتبر الحاضن والاب والمعلم المخلص الذي يقدم عصارة جهدة لتلقين الطلاب وتنشيط العقل بالفهم والحفظ وكان العقاب حاضرا أن حدث أي تقصير، ولكن الغالبية من الطلاب كانوا متفوقين وقلة قليلة منهم هم الضعفاء ومع ذلك مستواهم يتطور بالتأثير من قبل زملاءهم وجهود المعلمين إضافة الى أن المنهاج في ذلك الوقت محدد وغير متشعب والتركيز على ما يخدم العملية التعليمية ومقوماتها الحقيقية وكانت المنافسة على أشدها بيننا وخاصة في التربية الاسلامية واللغة العربية من خلال حفظ آيات القرآن الكريم والاناشيد والاملاء والتعبير والخط وكذلك الرياضيات التي كانت محببة لي شخصيا ومتفوقا بها، ومدرسة جميل بفضل ذلك الجيل الذهبي حققت مراكز متفوقة في مختلف مجالات المنافسة رياضيا وتعليميا، كما لا ننسى ذلك الرجل الفاضل الذي كان يعمل مديرا للمدرسة الاستاذ محمد ابراهيم اللواتيا الذي كان من أوائل التربويين العمانيين ويأتي من ولاية الخابورة بشكل مبكر لتقويم قواعد هذه المدرسة وقواعد التعليم في السلطنة كانت تعتمد على تلك النخبة، من تعليم وادارة والمدارس كانت في حالة تطور من حيث اضافة مرافق ومنشآت باستمرار، وكانت النظرة اليه كشخصية مقدسة، فلا يمكن أن ننسى هذا الرجل وكان ابنه يدرس معنا في نفس الموسم الدراسي، وكذلك كان يتواجد رفيق دربه الاستاذ ابراهيم آل مكي الذي عمل وكيلا للمدرسة بداية” وهذا الثنائي كان له دور كبير في تاسيس هذه المدرسة وكان أبناء الاستاذ ابراهيم يدرسان معنا في نفس الصف الدراسي ولكن بالفصل الثاني، ولا نغفل ايضا اولئك المعلمين الافاضل من السودان وأن قل عددهم وأتذكر ايضا معلما عمانيا آخر كان قريبا من الهيئة الادارية لا اتذكر اسمه الان، بالمقابل كانت المدرسة تحتضن نوابغ من الطلبه في ذلك الزمن امثال أحمد سيف سليم السناني الذي جاء من الاوائل على مستوى السلطنة .
المدرسة كانت في البدايات مبنيه بالخيام وبعضها مشقق والفصول تدور حول موقع الطابور وفي منتصف المدرسة غرفة الاذاعة التي يشرف عليها أحد الاساتذة المصريين القدامى الاستاذ زكي عليه _ رحمة الله ولا ننسى أيضا المقصف المدرسي الذي يعج بالنشاط والتسابق على الشراء حيث تطور المصروف ليصل لاحقا الى مئة بيسة ورحم الله الوالدين فهذا المصروف ليس بالامر اليسير نظرا لان أغلب الاهالي غير موظفين بالقطاع الحكومي أو الخاص فقط مجرد أعمال بسيطة كالزراعة وصيد الاسماك وبعض الاسر ليس لديها أي مصدر مالي ولكن البركة واسعة ولله الحمد، فلم يكن هناك أية فروق بين الناس فالغالبية كانوا هكذا ويبقى الاعتماد على تربية الماشية وما يتم جنيه منها وكذلك الدواجن لكن كانت المزارع هي أبرز مصدر رزق حيث تحصد محاصيل متنوعة مثل المانجا والليمون والنخيل وبعض الاشجار والمزروعات الاخرى التي كانت تمثل المشهد الزراعي عموما في سهل الباطنة وتعتبر الزراعة أهم معالم البيئة العمانية في الماضي ولها ذكريات تتطلب التوثيق أيضا، وترافقت الزراعة مع صيد الاسمال الذي كان يمثل المصدر الاخر للحياة في ذلك الزمن الجميل .
وعودا على بدء فالمدرسة تتابع عليها التطوير والتحديث من الخيام الى فصول السعفيات (العرشان) وأخيرا البناء الثابت الحديث الذي نقل المدرسة وأغلب مدارس السلطنة نقلة نوعية متميزة، ولكن كان المشهد الدراسي في ظل تلك الظروف يمثل مشهدا جماليا فالعقول كانت مهيأة لاستقبال التعليم فلم يكن هناك استقطابات ذهنية خارجية لذلك كان التعليم والطلاب في مستوى عال جدا، وكان الواجب المدرسي مقدسا وكثيرا ما يتم إنجازه ليلا تحت أنوار السراج (الفنر) نظرا لانشغال الغالبية بممارسة رياضة كرة القدم عصرا والاعمال بالمزارع، ولكن الاعتماد الحقيقي دائما على الحصة الدراسية التي نستوعب منها ما لا يقل عن 80% من الدرس وباقي ال20% من خلال الواجب والمذاكرة في المنزل والمراجعة من قبل المعلم .
كما تزخر الذاكرة أيضا بتنوع منظومة النقل البدائية التي تضاف الى السيارات والتي تحمل الطلاب من القرى الجاورة القريبة فقد كان الناقل الوفي (الحمير) تمثل أحد تلك الناقلات التي لعبت دورا حيويا في التنقل لطلاب المدارس وكان مربطها المعروف على حافة الوادي بالقرب من برادات دما حاليا وفي وقت الفسحة يتم إعطاءها بعض الاكل لتجديد حيويتها استعدادا للعودة بنهاية اليوم الدراسي الى أماكن سكنى الطلاب وقراهم، لكن للاسف لم نحظى نحن بالتنقل على ظهور الحمير مع أننا عايشنا تلك المرحلة بتفاصيلها واستخدمنا تلك الدواب في استخدامات أخرى بالمزارع والتنقل أحيانا، كما نتذكر ايضا أحد وسائل النقل والتي لعبت دورا هاما بعد ذلك وهي الدراجات الهوائية فما أجملها من لحظات عندما يصل أولئك الرفاق الى المدرسة ويتركون مقاود دراجاتهم على وضعيتها واتجاهها وسرعتها وصولا الى الصف المحدد للوقوف بطريقة بارعة، ومن الذكريات المدرسية أيضا تلك المنافسات الرياضية في المدرسة مثل دوري المدرسة ومسابقات القرآن الكريم والانشطة الزراعية والموسيقى والرسم التي كانت تأخذ حصة واحدة في الاسبوع، ولكن باقي الجهد التعليمي مركزا على المواد الرئيسية وكانت المنافسة على أشدها بين الطلاب، ومن النادر أن تجد طالبا بالصف الثاني لا يجيد القراءة والكتابة، فرحم الله تلك الأيام وذلك الزمن الجميل .
خميس بن عبيد القطيطي