مع القول بأنّ البنوك لها إسهاماتها في تحقيق التنمية والرفاه الظاهري في المجتمعات، وأن النهضة العمرانية التي شهدتها سلطنة عمان في مختلف المحافظات وتمويل المشاريع الاقتصادية وغيرها، إنما هو أحد فوائد التمويل البنكي، وفتح أنظمة القروض المختلفة، حيث تشير إحصائيات البنك المركزي إلى أن القروض الشخصية بلغت في عام 2023 (9 مليارات و46 مليون ريال عماني)؛ ومع ذلك فإن المواطن بات يعيش اليوم في ظل هذه القروض البنكية الشخصية والإسكانية في ظل غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار تراكمات نفسية واجتماعية، فلم تعد مسألة القروض مجرد حالة وقتية، بل باتت معاناة يواجهها المواطن في قدرته على استكمال مشوار حياته القادم لما بعد القرض، خاصة إن كان القرض استهلاكيا سواء لمنزل أو مركبة أو سفر أو غيره، في ظل غياب البعد الاستثماري فيه، لذك فإن مشكلة الناس اليوم وصراخهم المتكرر عبر المنصات الاجتماعية ومحاكمتهم للظروف، وحالة الضيق واليأس التي تصيب الكثير منهم؛ إنما ترجع لحجم من تركته هذه القروض من مآس ومصاعب في حياتهم الشخصية واستمرار حياتهم في ظل ظروف متغيره، فارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وارتفاع الرسوم الإسكانية والبلدية والشرطية، وارتفاع فاتورة الكهرباء والمياه وفواتير الاتصالات والنقل واستنزاف الموارد في خدمات الصيانة للمركبات ثم الوقود ومستلزمات الحياة اليومية العائلية وغيرها كثير مما يصعب حصرة، بات في ظل الاستقطاع البنكي يواجه تحديات كبيرة ، وظروف صعبة وأحوال متعسرة، بل إن حديث الشارع اليوم عن الرواتب والتسريح والباحثين عن عمل ومنافع الحماية الاجتماعية مثل كبار السن والأسرة وربات البيوت والأمان الوظيفي والإلحاح الحاصل في الأمر؛ إنما هو للبحث عن مداخيل مالية أخرى تساعدهم في الحد من حالة الشدة والعسرة التي باتت تسيطر علي حياتهم وتقضي على آمالهم وتضعهم في حالة المستجدي والمحتاج لهذه البنوك.
إنّ سياسة البنوك التجارية بأنواعها المختلفة وبمسمياتها المتعددة التي تكاد لا تختلف عن بعضها في التعامل مع القرض والفوائد، إلا بمفاهيم بسيطة وبمسميات لا علاقة لها بمسألة القرض – الذي تشترك البنوك في رسم محدداته وموجهاته- ، ويبقى الاختلاف في طريقة الإجراء وأساليب التعامل، بينما تتفق جميعا في استهلاك المقترض دون تثبيت سعر الفائدة أو وضوح مسار القرض، وحالة الغموض التي جعلت الناس في حالة من الذهول في بقاء القرض على حالة مع تغييرات طفيفة جدا رغم مرور السنوات، ليجد المستقرض من البنك أنه يعيش في حلقة مفرغة ودوامة غير منتهية، فالاستقطاع الكبير من راتبه لم يقلب المعادلة لصالحه، وبسبب محدودية الترقيات وغياب المحفزات بات القسط البنكي هو المحرك الأساسي للراتب، وعليه فإن السياسات الانتهازية والاستفزازية الربحية للبنوك التجارية المختلفة بأي وصف أو نوع أو مسمى أو انتماء لها، أصبحت حالة جاثمة على المواطن، هدفها وضعه في الأمر الواقع الذي لا يستطيع الخروج منه إلا بتضحيات كبيرة، لذلك نجد بأن غالبية المقترضين من البنوك اقتراضا شخصيا – أي غير استثماري- لسكن أو سيارة أو سفر أو دراسة أو في نطاق الاستهلاك الشخصي يواجهون صعوبات مالية بمجرد أن يبدأ ألبنك في أخذ حصته واحتساب فوائده وعوائده، ليترك الفتات للمواطن بينما يستحوذ على السمين، حالة باتت تقضي على طموحات المستقرض الأخرى في ظل زيادة عدد من يعولهم واحتياجاتهم اليومية، ويصبح ما يتبقى له من راتبه لدفع التزاماته وسداد احتياجاته الشخصية واليومية من مستلزمات غذائية وكماليات استهلاكية دون غيرها.
في واقعنا المعاش هناك من يصرخ بأن الرواتب غير كافية وأن الناس بحاجة إلى تعديلات في الرواتب، والحقيقة أن المشكلة ليست في الراتب ذاته، فهو إن لم تخالطه شوائب الدين والقروض البنكية قادر على أن يصنع للإنسان حياة متوازنة – عندما تصحبها القناعة والإدارة المالية والوعي المالي والاستهلاكي وامتلاك الشخص للتخطيط السليم وتحديد الأولويات وضبط الاستهلاك و تقليل النفقات غير الضرورية، وثقافة الالتزام في التعامل مع التعهدات الشخصية كالإيجارات أو الحصول على الخدمات مثل: فواتير الكهرباء والمياه والاتصالات وغيرها من الأمور الحياتية التي يحتاجها الإنسان، لذلك فأساس المشكلة ليس في ضعف الراتب بقدر ما تتعرض له الرواتب من استقطاعات القروض البنكية لها، فتصبح عاجزة في أن تعيد إنتاج حياة الفرد.
من هنا فإن استمرار البنوك التجارية في سياستها الربحية الصرفة، التي تفتقر لإدارة المشاعر وغياب المرونة الاقتصادية والتسهيلات البنكية، مثل: تثبيت سعر الفائدة في القروض الإسكانية والتجارية والإعفاء من القرض بعد مرور نصف المدة، وعدم وضوح مسار الفوائد البنكية وطريقة احتسابها نتيجة السياسات والإجراءات التغييرية غير الثابتة التي تعيشها البنوك وطبيعة المؤشرات التي تعتمدها في قراءة المسار الاقتصادي والمالي والذي ينعكس على التعاطي مع القروض البنكية الشخصية ، ناهيك عن أنها تتخذ قراراتها بما يحقق مصالح الربحية بدون مراعاة لظروف المواطن أو حتى إخطاره بأية تغييرات، ليعيش في دوامة الدين التي لا تنتهي والحلقة المفرغة التي تكاد لا تلتئم، كلما سعي إلى الحصول على إجابة مقنعة حول القرض يأتي الجواب على غير ما يأمل، وكأنه بسؤاله واستفساره أراد أن ينغص حياته ويضيف عليها عبئا وفشلا وانتكاسة؛ واقع قد لا يفقهه المواطن المستقرض بأن ما يدفعه لاستحقاقات البنوك والفوائد في النصف الأول من سنوات استلامه للقرض يزيد أضعافا مضاعفة وتحسب فيه الفائدة وتخصم بشكل يومي، ناهيك عن أنه إذا ما أراد تسديد القرض بوقت مبكر عليه أن يزيد على ذلك بدفع 1% من مبلغ القرض المتبقي مع استقطاعات أخرى منها: احتساب الفائدة اليومية للقسط وغيرها كثير.
أبعد هذا نسأل؛ لماذا نشهد ارتفاع في الأمراض النفسية وتزايد تردد المواطنين على العيادات النفسية حيث تشير، ولماذا زادت المشكلات الاجتماعية كالطلاق والخلع والتفكك الأسري والزواج من الخارج والعنوسة وزيادة الحساسية الاجتماعية بين الأخوة والأهل ومشكلات الميراث والديون، ولماذا تضج المحاكم بقضايا الإيجارات ودفع الديون الشخصية والحقوق المالية؟، ولماذا نشهد لسنوات عديدة ارتفاع في الجرائم الواقعة على الأموال وما تبعها من مشكلات السرقة والاحتيال والاختلاس والابتزاز وتخريب الممتلكات الشخصية والعامة وغيرها؟، ولماذا ضاعت القيم وغابت الثقة وانتزعت البركة وزادت قسوة القلوب وانتشرت أمراض الحقد والحسد والضغينة والأحقاد بين الأخوة والأقرباء والجيران؟ ولماذا انتشرت الظواهر الاجتماعية واتسع نطاق التسوّل والتنمّر وغيرها كثير؟؛ لا شك بأن القروض البنكية شكلت اليوم الجزء الأكبر من التحديات النفسية والاجتماعية وحالة القلق والاضطرابات الفكرية والنفسية والشعور بعدم الارتياح، وغياب السلم الداخلي للفرد والاستقرار الشخصي؛ نظرا لحجم الفجوة والفراغات النفسية والاجتماعية التي تركتها البنوك وحجم الدين الذي بات ينغص حياة الكثير منهم، والذي بات يسقطه الفرد على حياته الشخصية والوظيفية والعامة.
والسؤال الذي يطرح نفسه، إلى متى سيظل هذا الوضع بدون مراجعة، وما المطلوب في سبيل إعادة التوازنات في حياة المواطن؟ ، هذا الأمر يؤكد الحاجة إلى الخروج من عنق الزجاجة، وفتح آفاق أوسع لإصلاح حياة الناس الاقتصادية وتنشيط حركة الادخار والبيع والشراء وتداول المال وانتقاله، والاستفادة من كل الفرص الإيجابية والتقنية في بناء مساحات أمان أوسع يعيش خلالها المواطن حياة الإنتاجية والأمان والسلام والاستقرار النفسي ، وعبر فتح المجال للجمعيات التعاونية المعنية بمساعدة المواطنين، وفك كربهم في الخروج من ربقة الالتزامات البنكية والقروض الشخصية، ومعالجة الأحكام القضائية والملاحقات القانونية التي باتت ترافق الكثير منهم بسبب عدم قدرتهم على سداد القروض البنكية الإسكانية والتجارية، فإنها الطريق الذي يجب أن يسلك في مواجهة التداعيات النفسية والاجتماعية للسياسات البنكية، والتي باتت تدق ناقوس الخطر وتنذر بفواجع ومواجع تتجاوز طاقة المواطن وقدراته.
د.رجب بن علي العويسي