من أقوال جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله: “إنّ الشباب هم ثروة الأمم وموردها الذي لا ينضب، وسواعدها التي تبني؛ هم حاضر الأمة ومستقبلها، وسوف نحرص على الاستماع لهم وتلمُّس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم؛ ولا شك أنها ستجد العناية التي تستحقها. وإنّ الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار، سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية، وسنمده بكافة أسباب التمكين، باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة”.
تُعتبر هذه الكلمات خطة عمل وطنية للشباب العماني، متى ما تُرجمت إلى واقع من قبل الجهات المختصة؛ فالشباب هم أمل أيِّ أمة، وبهم تبنى الأوطان – كما قال جلالته – إذا أهلِّوا التأهيل الجيد، من خلال استغلال طاقاتهم وأوقات فراغهم، بإقامة الفعاليات التي تساعد في تكوينهم. ومن هنا في رأيي تأتي أهمية برنامج “الانضباط العسكري” الذي استضافته محافظة ظفار، بإشراف وزارة الثقافة والرياضة والشباب، وبدعم الجهات العسكرية والأمنية والمؤسسات الحكومية، والذي انتهى يوم الأربعاء 24 يوليو 2024 بمشاركة 700 شاب من مختلف المحافظات؛ فقد كان من أهداف البرنامج تعزيز القيم الوطنية لدى المشاركين، وتنمية وعيهم، وإذكاء روح القيادة لديهم؛ وبالتأكيد إنّ هذه الأهداف وغيرها مما لم أذكره، تؤدي إلى تنشئة الشباب على حب الوطن والإخلاص له؛ ومتى ما تحقق ذلك فإنه سيهيئ جيلًا قياديًّا يتصف بالانضباط والمسؤولية والانتماء للوطن، ويتحلى بالفضائل والقيم النبيلة، وهو ما نحن في أمسّ الحاجة إليه، خصوصًا بعد أن دقت حادثة الوادي الكبير، جرس إنذار لخطر لم يكن في الحُسبان، في وقت نرى فيه أنّ فئة الشباب – وهي الفئة الغالبة في عُمان – مستهدفة عبر مواقع النت المختلفة.
أعادنا برنامج الانضباط العسكري إلى ذكريات المخيمات الكشفية، والمنتديات الصيفية التي كانت تُنظّم لشباب الجامعات في الثمانينيات من القرن الماضي، وكان لها الأثر الكبير في بناء المواطنة الحقة وزرع الانتماء للوطن، من خلال المساهمة في خدمة المجتمع. وكان المسؤولون بكافة مستوياتهم يلتقون بالشباب المشاركين، ويناقشونهم في أمور كثيرة؛ فكانت النتيجة أن ظهر شبابٌ وطنيون وملتزمون، إلى أن دار الزمان دورته المؤسفة، فاختفت تلك الفعاليات، وتراجع دور المساجد، وكذلك الإعلام الهادف، وبتنا نرى شبابًا أنانيًّا يضع مصلحته فوق كلِّ شيء، حتى وإن تعارضت مع مصلحة الوطن؛ ونشأ جيل لا يهتم إلا بالأخذ على حساب العطاء.
هناك متغيرات كثيرة لم تكن موجودة قبل عِقد واحد فقط، منها وسائل التواصل الحديثة التي غيّرت والمفاهيم، وأصبحت الشغل الشاغل للجيل الجديد على مستوى العالم كله؛ لذا فمن المهم إشغال الشباب بما يفيدهم، بدلًا من الفراغ الذي يجعلهم عرضة لتلك المواقع. ويأتي في المقام الأول الاهتمام بتدريسهم وتثقيفهم وملء فراغهم بما ينفعهم وينفع الوطن، وإيجاد الوظائف المناسبة لهم بعد تأهيلهم التأهيل المناسب، لأنّ البطالة هي السبب الرئيس في كلِّ فساد يحيق بالمجتمع، وعندما تزداد أعداد الباحثين عن العمل من الشباب، فإنّ ذلك يشكِّل طُعمًا سهلًا لصيده من قبل المتربصين، سواء كانوا داعش أو مخدرات أو غيرها من الشرور؛ فإيجاد العمل للشباب نقطة أساسية ومحورية في بنائه وإبعاده عن الضياع، لأنّ المشكلة ستزداد، إذا لم تكن هناك خطة متكاملة لتشغيلهم؛ فالعدد سنويًّا في ازدياد، إذ بلغت مخرجاتُ الثانوية العامة هذا العام، 50.452 طالبًا وطالبة، ممّا يعني أنّ هؤلاء – على المدى القريب والبعيد – يُعدّون قنبلة موقوتة. ولا أدري كيف لا يجد الشباب العماني الأعمال، فيما نرى أنّ العمالة الأجنبية تسيطر على كلّ مفاصل الاقتصاد، من المهن والوظائف والتجارة والزراعة والصناعة والصيد وغيرها، وهذا موضوع قد يبدو مستقلا إلا أنه مرتبط ارتباطًا كليًّا بالشباب.
إنّ صيفًا طويلًا يمر على الشباب دون أن يستفيد أحدٌ منهم، ودون أن يستفيدوا هم أيضًا؛ وهذا إهدار للطاقات وتضييع للفرص الذهبية للتنمية؛ وإزاء هذا التفريط فإنه ليس مستغربًا أن نرى الشباب يعانون من فراغ روحي ونفسي كبيرين؛ فالنفسُ إذا لم تشتغل بحقٍ فإنها ستبحث عن باطل تنشغل به.
وإذا كنتُ أرى أنّ خطوة برنامج الانضباط العسكري موفقة، فإني أرى أيضًا أنّ على الدولة أن تضع مشروعات كثيرة للشباب، لا تقتصر على الصيف فقط، بل طوال العام، وأنّ تخطط لبرامج موصولة لبناء الشباب وتبعد عنهم الفراغ العقلي والروحي، وأن يتم تأهيلهم تأهيلا خُلقيًّا ودينيًّا وعلميًّا وعسكريًّا ورياضيًّا واجتماعيًّا، ليكونوا مواطنين صالحين؛ فقوةُ أيِّ دولة وسلامتها تتوقفان على مدى استغلال طاقة هؤلاء الشباب، وهي طاقة واعدة بكلِّ خير إن أُحسِن استغلالها وتوجيهها، ولا ينبغي ترك ذلك لمواقع التواصل ولجهات خارجية لها أهدافها وأجنداتها.
مع وجود شبكة الإنترنيت والكثير ممًّا في جعبتها، تراجع تأثير وسائل الإعلام، وخاصة على الشباب، ومع ذلك تستطيع هذه الوسائل – إذا ما أرادت – الوصول إلى قطاع كبير من المتلقين، بتبنيها قضاياهم واهتمامها بما يشغلهم، بدلًا من الانغلاق داخل الأستوديو والاعتماد على الهواتف، و”موضة البرامج المباشرة”، واستبعاد البرامج الجادة عن الخارطة البرامجية لصالح برامج الترفيه الرخيص والمبتذل. والمسؤوليةُ بالتأكيد لا تقع على وسائل الإعلام وحدها؛ بل تشمل قطاعات كثيرة، منها الأوقاف والشؤون الإسلامية، والثقافة والرياضة والشباب، وغيرها من الوزرات والهيئات، لتتضافر كلُّ الجهود من البيت والمدرسة والمسجد والمجتمع والإعلام والأندية، حتى لا تتكرر مثل حادثة الوادي الكبير، التي أطاحت بكثير ممّا كنا نتغنّى به، وأبرزُه عدم وجود عمانيٍّ واحد في أيِّ تنظيم إرهابي مشبوه. ورغم أنّ الحادثة نادرة ودخيلة على عُمان، إلا أنه لا يجب التقليل من شأنها حتى لا تتكرر، ولا يجب أن نركن إلى المديح الذي كيل لنا حول الوحدة الوطنية والتسامح الديني وغيرها من المدائح؛ فهناك ظواهر انحراف خطيرة بدأت تظهر في مجتمعنا. ومن يلقي نظرة سريعة على ردود بعض المغردين العُمانيين يعلم يقينًا أيَّ منحدر هبطنا فيه، وأخشى أن أقول إننا إذا لم نأخذ الأمر بالجدية اللازمة، فإننا أمام أزمة هوية وأخلاق. وكما هو معروف فإنّ العلاج بعد استفحال المرض يكون مكلفًا جدًا، بينما الوقاية خيرٌ ألفَ مرة من مكابدة العلاج.
بعد تلك الحادثة كثرت المقالات والتحليلات والآراء التي تحاول قراءة ما حدث؛ فهناك من رأى أنّ الدولة اتجهت إلى تقوية النزعة المحافظة في المجتمع، وأنّ الخطاب الديني ساد المجتمع العماني، وذهب آخرون إلى اعتبار أنّ السماح للتعبير عن الوقوف مع غزة أحد أسباب هجوم الوادي الكبير، وهي في الواقع مغالطات تنسجم مع ما أطلقه ما يسمى بالذباب الإلكتروني الخارجي وردّدها كثيرًا. وفي اعتقادي أنّ تفعيل دور المساجد في عُمان تحت الإشراف الرسمي، هو ضمان أكيد لبناء مجتمع متدين خلوق متماسك، بعيدًا عن المؤثرات الخارجية؛ فالملاحظ أنه بعد عام 2005، تقلص دور المساجد تمامًا؛ فلم تعد إلا لأداء الصلوات الخمس، مع سرعة إغلاقها بعد الصلاة مباشرة؛ وتكاد الدروس والمحاضرات وحلقات تعليم القرآن الكريم تكون قد اختفت، ممّا أنشأ جيلًا بعيدًا عن الدين. حصل ذلك في غفلة من الأمر، والعالم كان يحارب الإسلام باسم محاربة الإرهاب. ولا معنى من سحب وزارة الأوقاف والشؤون الدينية مؤخرًا أئمتها من المساجد الخاصة، بحجة أنّ الجوامع أولى، رغم أنّ كلَّ الجوامع لها أئمة وبعضها تتكفل برواتب أئمتها، فبقيت مساجد كثيرة دون أئمة، وهذا في حدِّ ذاته يشكّل خطرًا.
في كلِّ الأحوال لا خوف أبدًا على جيل تربى على الدين والأخلاق الحميدة، لكن الخوف مِن ترك هذا الجيل يهيم دون توجيه ودون هدف، وقد قرأتُ عبارة بليغة عن أهمية تأهيل الجيل، وهي: “قل لي ما هي الأفكار التي تجول في رؤوس شبان العصر، أقل لك أخلاق الناس في العصر القادم”.
زاهر بن حارث المحروقي
الأحد 28 يوليو 2024م