يطرح الإعلان المشترك لوزارة العمل وصندوق الحمايَّة الاجتماعيَّة في الرابع عشر من يوليو لعام 2024 والقاضي بتمديد منفعة الأمان الوظيفي لمدَّة سنَة واحدة لجميع المستفيدين الَّذين أكملوا (6) أشْهُر من الاستحقاق مع تخفيض البدل تدريجيًّا على النَّحْوِ الآتي: تخفيض (30%) من إجمالي البدل خلال الأشْهُر الأربعة الأولى، و(50%) خلال الأشْهُر الأربعة الثانية، و(30%) خلال الأشْهُر الأربعة الثالثة، بحيث لا يقلُّ مقدار البدل في جميع الأحوال عن (115) ريالًا عُمانيًّا؛ يطرح تساؤلات كثيرة ونقاشات مستفيضة، حتَّى حاز موضوع الأمان الوظيفي على (الترند) في منصَّات التَّواصل الاجتماعي، ومنصَّة (أكس) تحديدًا، وما حملته ردود المواطنين المُسرَّحِين وغيرهم من الباحثين عن عمل من عبارات تنمُّ عن عدم الرِّضا والصَّدمة الَّتي جاء بها هذا القرار، فهو قرار غير مدروس ولا يُعبِّر عن التَّوجيهات الكريمة السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم بشأن الغاية من تمديد منفعة الأمان الوظيفي، وأولويَّة معيشة المواطن وأنَّها خطٌّ أحمر لا يجوز المساس بها، وهو استهتار بحقِّ المواطن في العيش الكريم، وحقِّه في العمل والوظيفة؛ باعتبارها من الثَّوابت الَّتي يجِبُ على الدَّولة توفيرها وفق أُطُر واضحة وعادلة ومعروفة يتنافس عَلَيْها الجميع، ويتساءل الكثير مِنْهم لماذا يتمُّ اتِّخاذ هذه القرارات غير المحفِّزة في وقتٍ تُشير فيه المؤشِّرات الاقتصاديَّة إلى وجود فائض في الموازنة العامَّة للدَّولة، ويتساءل الكثير من المُسرَّحِين والباحثين عن عمل أين يتمُّ توجيه هذا الفائض إن لم يتَّجهْ إلى رفع مستوى معيشة المواطن واحتواء الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من أعمالهم وبناء المورد البَشَري العُماني الَّذي يحمل مُهِمَّة بناء عُمان المستقبل؛ لذلك يفترض أن تكُونَ ردود الأفعال السلبيَّة وغير السارَّة محطَّة لالتقاط الأنفاس والتَّفكير الجادِّ في مراجعة مِثل هذه القرارات الَّتي باتتْ تزيد الأمْرَ تصعيبًا وتعقيدًا، في ظلِّ ظُروف اقتصاديَّة هشَّة يعيشها المواطن المُسرَّح من عمله.
وبالتَّالي أن يتَّجهَ العمل الوطني إلى وقف التَّسريح نهائيًّا، وسدِّ كُلِّ الذَّرائع الَّتي باتتْ تتَّخذها الشَّركات في تسريح القوى العاملة الوطنيَّة، والوقوف على حالة التَّحايل الممنهجة الَّتي باتتْ تُتقنها في سبيل شرعنة التَّسريح، سواء كان بحجَّة انتهاء المشاريع الَّتي استوعبت المواطنين؛ أو حالة الإفلاس الَّتي باتتْ تستخدمها الشَّركات كوسيلة ضغط على الحكومة في التَّنازل عن استحقاقات نسبة التَّعمين، أو الصورة الاستفزازيَّة الَّتي باتتْ تتعامل بها الشَّركات مع الخبرات والكفاءات العُمانيَّة المُسرَّحة بإعادة توظيفها في الشَّركة بعقودٍ جديدة وراتب شهري لا يتجاوز (325) ريالًا عُمانيًّا بحسب ما أقرَّته وزارة العمل في فترات سابقة، إذ إنَّ هذا الأمْرَ هو الأولى والأجدر بالوقوف عَلَيْه واتِّخاذ قرارات صارمة فيه، لضمانِ تشجيع المُسرَّحِين عن عمل على طَرقِ أبواب العمل وعدم التحجُّج باستلام منفعة الأمان الوظيفي سبيلًا لَهُم للركونِ إلى الدَّعة والرَّاحة وعدم الجديَّة في البحث عن عمل. أمَّا أن يتَّجهَ الأمْرُ إلى إلقاء الحِمل على المواطن المُسرَّح بعدم جدِّيَّته في البحثِ عن عمل أو وظيفة، أو فرض التحاقه بـأيَّة وظيفة مهما كانت وبِدُونِ وضعِ سقفٍ للاختيار والتَّجديد، فهو أمْرٌ غير مقبول ولا يُقدِّم صورة مُشرِقة لمفهوم الإنتاجيَّة وبناء المورد البَشَري القادر على الإسهام الفاعل في صناعة الفرص وإدارة التحوُّلات الشَّاملة في منظومة العمل والتَّشغيل. فإنَّ ما يطرحه هذا القرار اليوم من تداعيات وصدمات نَفْسيَّة وتأثيرات فكريَّة محطَّة اختبار يجِبُ على الحكومة استحضارها؛ كونها ترتبط بتقييم مستوى حضور مشاعر المواطن في الجهد الحكومي، وإلى أيِّ مدًى تراعي القرارات والتَّوَجُّهات الَّتي تتَّخذها وزارة العمل وصندوق الحماية الاجتماعيَّة؛ باعتبارها المحكَّ في قراءة بُعد الأمان المعيشي والوظيفي والمهني للمواطن، ويبقى عَلَيْها أن تراعيَ الأبعاد النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والظُّروف المعيشيَّة للمواطن، وتحترم لدَيْه هذه الخصوصيَّة.
على أنَّ ما يظهر اليوم من ركودٍ اقتصادي مُريب وتضييق في الأنشطة الاقتصاديَّة، وضعف في منتَج القِطاع الخاصِّ في ظلِّ قلَّة المشاريع الحكوميَّة الَّتي تسند إلى القِطاع الخاصِّ ويجد فيها فرصته لتنشيطِ دَوْره وتوفير الوظائف، يؤكِّد على أهميَّة إيجاد معالجات جادَّة للموضوع، لا تتَّجه نَحْوَ فرض المواطن على هذه الوظائف الَّتي قد لا تتناسب مع الأبعاد الثقافيَّة العامَّة في المُجتمع أو يجد فيها المُسرَّح من عمله اختزالًا لمسؤوليَّاته ووظيفته السَّابقة أو أنَّها وظائف غير منتِجة وغير مُربِحة، بل يجِبُ أن توفِّرَ الحكومة الوظائف الَّتي يجد فيها المواطن فرصته للعمل وطريقته للابتكار ومنهله في الإخلاص، وهو ما يتأتَّى اليوم من خلال الإحلال؛ باعتباره الطريق الأمثل لمعالجة المُشْكلة وتحقيق حالة التَّوازن في الموضوع، بحيث تختبر المواطن في ظلِّ تنوُّع الوظائف المناسبة الَّتي تتناسب وخبراته ومهاراته ومهامه الوظيفيَّة السَّابقة كما تتناسب ومؤهّلاته العلميَّة ويجد فيها مجالًا للإبداع والابتكار، وبالتَّالي يصبح وجودها وعرضها على المواطن اختبارًا لجدِّيَّته ورغبته في العمل، وعندها يتمُّ اتِّخاذ قرار الخصم من مسار المنفعة المُقدِّمة نظرًا لوجود الوظيفة المناسبة الَّتي تقترب من المهام السَّابقة؛ أما أن تضعَ المواطن في الأمْرِ الواقع، بأن تفرضَ عَلَيْه وظائف مُحدَّدة بِدُونِ أن يكُونَ له فرصة في الاختيار، وإلزامه بالقَبول بها وفي حالة عدم قَبولها لها، يتمُّ اتِّخاذ قرار الخصم، فهو أمْرٌ يتنافى مع المعطيات القانونيَّة والنَّفْسيَّة والاجتماعيَّة وحقِّ المواطن في العيش الكريم في بيئة تؤمِّن له الاستقرار النَّفْسي.
من هُنَا نعتقد بأنَّ المرحلة الَّتي يجِبُ أن تسبقَ هذا القرار تأتي في توسيع الخيارات الوظيفيَّة المنتِجة للمواطن وإيجاد وظائف محاكاة للواقع الَّذي كان يعيشه وظيفيًّا قَبل التَّسريح، بالإضافة إلى وجود قواعد بيانات محدَّثة ونشِطة ببياناته الشَّخصيَّة وظُروفه الاقتصاديَّة، والمطالبات البنكيَّة، والظُّروف الأُسريَّة الَّتي يعيشها، والمهارات والقدرات والممكنات الَّتي يمتلكها وتقييم التَّأثيرات النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة عَلَيْه وعلى أُسرته، بحيث تكُونُ الوظائف المقترحة قادرة على استيعاب هؤلاء المُسرَّحِين بطيب خاطر، ويجد المُسرَّح في منفعة الأمان الوظيفي والإجراءات المرتبطة بها أمانًا لحياتِه واستقرارًا لأُسرته وحماية له؛ وبالتَّالي تبنِّي منصَّات أكبر للحوار الاجتماعي الوظيفي المشترك الَّذي يُتيح للمواطن تقييم الوضع الوظيفي وتحليله وتشخيصه واتِّخاذ قرار الموافقة بناء على الفرص الَّتي يُقدِّمها هذا المسار الوظيفي الجديد، وعندها ستكُونُ المسألة قائمة على الشَّراكة، واستحضار مشاعر المواطن، وتقف على الظُّروف والتَّراكمات الَّتي يعيشها، وإنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي نعتقد بأنَّها يُمكِن أن تقللَ من التكهُّنات بالمبرِّرات الَّتي يضعها المواطن المُسرَّح في قراءة منفعة الأمان الوظيفي، هو المحفِّزات والممكّنات المادِّيَّة والمعنويَّة الَّتي تلتزم الحكومة بتحقيقها للمواطن المُسرَّح، مِثل إعفائه من الرسوم الخدميَّة والاستهلاكيَّة ذات الصِّبغة المستديمة الاحتياج الإسكانيَّة والبلديَّة والشُّرطيَّة، ودعمٍ جادٍّ بنسبة (50%) أو أكثر للمُسرَّحِين في فواتير الكهرباء والمياه ووقود المَركبة، أو كذلك توفير خصمٍ للمُسرَّح بنسبة (40%) فأكثر في المواد الاستهلاكيَّة والغذائيَّة، وتشجيع الجمعيَّات التعاونيَّة الَّتي تُتيح للمُسرَّحِين والباحثين عن عمل فرصًا أكبر من الدَّعم، بالإضافة على ذلك أن يُعِيدَ البنك المركزي توجيه بوصلة إدارة ملف القروض البنكيَّة ومطالبات البنوك التجاريَّة من المُسرَّحِين العُمانيِّين، ووقفًا كُليًّا للملاحقات القانونيَّة والقضائيَّة للمُسرَّحِين عن أعمالهم فيما يتعلق بالالتزامات البنكيَّة والقروض الإسكانيَّة وغيرها قَبل التَّسريح، هذه المحفِّزات من شأنها أن تقللَ من ردَّة الفعل السلبيَّة الَّتي باتَ يضعها المواطن المُسرَّح ويتعامل بها مع أيِّ قرارات تتعلق بمنفعة الأمان الوظيفي، وبخاصَّة هذه التَّعديلات الأخيرة وما عكسته من صورة سلبيَّة سيكُونُ لها تأثيرها السلبي على منظومة الحماية الاجتماعيَّة عامَّة والقناعات الإيجابيَّة الَّتي باتَ يحتفظ بها المواطن (كبار السِّن ومنفعة الطفولة) لتستمرَّ هذه الصورة مع منفعة الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين العُمانيِّين من القِطاع الخاصِّ؛ وأن تضعَ منظومة الحماية الاجتماعيَّة والتَّوظيف والتَّشغيل والتَّعمين في أولويَّاتها حماية المواطن والسَّعي نَحْوَ تحقيق كُلِّ ما يؤدِّي إلى أمْنِه الاجتماعي والاقتصادي، ومنع كُلِّ ما يؤدِّي إلى تعكير مزاجه العامِّ أو يتسبَّب في رفع درجة السلبيَّة والقلق لدَيْه.
د.رجب بن علي العويسي