أبو نضرة، المنذر بن مالك بن قطعة، هو واحد من الرواة الثقات الذين روى عنهم الإمام مسلم، ولكن سيرته لم تخلُ من بعض الجدل، حيث أثار تشيعه لعلي بن أبي طالب عليه السلام اهتماماً خاصاً من قبل بعض الحفّاظ والنقاد، حيث يتجلى في هذه السيرة موقف فريد يعكس تلك الحقبة الزمنية الدقيقة التي عاش فيها أبو نضرة، والتي شهدت انقسامات سياسية وفكرية عميقة بين المسلمين.
في ذلك الزمن، كان هناك ميلٌ بين كثيرٍ من العلماء والحفاظ نحو التشيع لعلي، لا باعتباره خروجاً عن الدين أو انحرافاً عن السنة، بل باعتباره ميلاً للحق في تلك المرحلة التاريخية الحرجة، فقد كان النزاع بين علي ومعاوية بن أبي سفيان، أحد أعقد الفصول في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث انقسم المسلمون بين من رأى في عليٍّ رمزاً للحق، وبين من أيد أو اختلف مع معاوية، ومع ذلك، لم يكن هذا التشيع لعلي مجرد ولاءٍ شخصي، بل كان انعكاساً لقناعة بأن علياً كان على الحق في هذا النزاع، بينما كان معاوية باغياً، كما أشارت إلى ذلك العديد من الروايات والأحاديث.
بالتالي، إن التشيع لعلي عليه السلام في تلك الفترة كان يتخذ شكلين رئيسيين، الشكل الأول هو التشيع له في نزاعه مع معاوية بن أبي سفيان، وهو الموقف الذي اعتنقه عددٌ من العلماء الكبار من التابعين، مثل الفضل بن دكين المعروف بأبي نعيم، الذي كان شيخاً للإمام البخاري، بالتالي، إن هؤلاء العلماء لم يروا في هذا التشيع أي بدعة قادحة، بل اعتبروه تأييداً للحق في مواجهة البغي، كما لم يكن تأييدهم لعلي يعني بالضرورة انتقاصاً من قدر معاوية أو إنكاراً لمكانته، بل كان موقفاً مبنياً على تقييم عادل للأحداث، حيث رأوا أن علياً كان الأقرب إلى تحقيق السلام والعدل.
أما الشكل الثاني، للتشيع لعلي، فكانت تتعلق بأسبقيته في الخلافة على عثمان بن عفان، وهذا الموقف كان أقل شيوعاً بين العلماء، ومع ذلك لم يُسقط النقاد روايات أولئك الذين تبنوا هذا الرأي، فحتى إن اعتُبر هذا النوع من التشيع بدعة، إلا أن تلك البدعة لم تكن قادحة بما يكفي لتجريد الراوي من مصداقيته أو التشكيك في صحة رواياته، بالتالي، إن هذا الفهم يمكن أن نجده لدى العديد من العلماء، مثل الحاكم النيسابوري والإمام عبد الرزاق الصنعاني، الذين عرفوا بميلهم لتقديم علي على عثمان، ولكن لم يُنظر إليهم على أنهم متطرفون أو مبتدعون.
وعلى الرغم من اتهام بعض النقاد، مثل الإمام أبو إسحاق الجوزجاني، للإمام أبي نعيم بالتشيع، إلا أن هذا الاتهام لم يكن يعني رفضاً لمروياته، فقد كان الجوزجاني ربما يعتبر أن التشيع الذي يميل إلى علي في نزاعه مع معاوية قد يقدح في الراوي، إلا أن هذا الرأي لم يكن مشتركاً بين جميع النقاد، بل بالعكس، فإن أئمة الحديث والنقد الكبار كانوا يرون أن هذا النوع من التشيع لا يقدح في الراوي، بل يعكس موقفاً أخلاقياً وفكرياً يتماشى مع المبادئ الإسلامية التي تدعو إلى نصرة الحق حتى وإن كان الحق ضد قائدٍ أو خليفةٍ آخر.
بالتالي، إن ما ينبغي فهمه هنا هو أن التشيع لعلي في نزاعه مع معاوية لم يكن يعني الدخول في مذهب الرفض، الذي يرفض خلافة الشيخين أبي بكر وعمر ويعاديهما، أو يتجاوز حدود النقد الموضوعي، بل كان تشيعاً مبدئياً يقف مع علي لاعتبارات تتعلق بالحق والعدل، وهو ما جعل من مثل هذا التشيع أمراً مقبولاً عند العديد من العلماء والمحدثين، أما التطرف في التشيع، كالذي يقوم على رفض الشيخين أو تقديم علي على عثمان بشكل يُسقط شرعية خلافة عثمان، فقد كان مرفوضاً من قبل العلماء المسلمين قاطبةً، سواء كانوا من أهل السنة والجماعة أو ممن يمالئون علياً في خلافه مع معاوية.
في هذا السياق، يتضح أن أبا نضرة لم يكن من الروافض الذين ينبذون أبا بكر وعمر، ولم يكن ممن يقدمون علياً على عثمان بشكلٍ يسقط مكانة الأخير، بل كان من أولئك الذين رأوا الحق مع علي في مواجهته لمعاوية، وهذا النوع من التشيع لم يكن بدعةً ضالةً ولا كان يقدح في أمانة الراوي أو صدقه، بل على العكس، فقد كان يعكس موقفاً معتدلاً وعادلاً يتماشى مع فهم متوازن للتاريخ الإسلامي، حيث يتم التفريق بين البغي والحق دون المساس بمكانة الصحابة أو التشكيك في عدالتهم.
في النهاية، إن سيرة المحدث أبي نضرة تلقي الضوء على مرحلة مهمة من التاريخ الإسلامي، حيث كان التشيع لعلي بن أبي طالب عليه السلام، يعبر عن موقف أخلاقي وفكري يدافع عن الحق دون تجاوز أو غلو، ويظل أبو نضرة، في هذا السياق، نموذجاً للراوي الثقة الذي لم تمنعه توجهاته الفكرية من أن يكون جزءاً من السلسلة الذهبية التي نقلت إلينا أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بالتالي، إن هذا الموقف المتوازن والموضوعي لأبي نضرة، وللعديد من العلماء في ذلك الزمان، يشكل إرثاً فكرياً وأخلاقياً يمكن أن نتعلم منه الكثير في فهمنا للتاريخ الإسلامي وتحليلنا للأحداث والنزاعات التي شهدتها الأمة الإسلامية عبر العصور.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.