يضعنا الحديث عن الثَّوابت العُمانيَّة أمام ثلاث محطَّات أساسيَّة هي: (أوَّلًا، المساحة من الاهتمام الَّتي أوْلاها جلالة السُّلطان المُعظَّم للثَّوابت العُمانيَّة في أبعادها المفاهيميَّة ومنطلقاتها الدِّينيَّة والفكريَّة والثقافيَّة، وحرص جلالة السُّلطان على وضعها في أولويَّة اهتمامه، وشكَّلت جزءًا من هاجسه الشَّخصي. وثانيًا: ومحافظة سلطنة عُمان في سياستها الداخليَّة على الالتزام بثوابتها الداخليَّة المُعزِّزة لوحدة النَّسيج المُجتمعي، والرَّفاه الاجتماعي والاستقرار المعيشي والاستدامة الاقتصاديَّة وتحقيق المبادئ الاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة في النِّظام الأساسي للدَّولة. وثالثًا: بالسياسة الخارجيَّة، وعَبْرَ تعزيز التَّعاون الدّولي والشَّراكات الاقتصاديَّة وحماية المصالح الوطنيَّة العُمانيَّة، والموقف الثَّابت لسلطنة عُمان نَحْوَ القضيَّة الفلسطينيَّة في مواجهة الإجرام الصهيوني وعدوان الاحتلال «الإسرائيلي» على غزَّة، حيث شكَّلت مرتكزات حافظت النَّهضة العُمانيَّة عَلَيْها، وامتدادًا للإرث الحضاري العُماني، وأصَّلت نهج التوازنات الَّتي عملت سلطنة عُمان عَلَيْها وعصمتها من أن تتعرضَ لأيِّ تأثيرات سلبيَّة رغم الظُّروف والمتغيِّرات الَّتي يمرُّ بها العالَم، سواء كانت الأزمات الاقتصاديَّة وانخفاض أسعار النفط في فترات سابقة، أو كذلك الأزمات الاجتماعيَّة ومِنْها جائحة كورونا «كوفيد19»، أو الأزمات الطبيعيَّة والحالة الطارئة الَّتي تعرَّضت لها سلطنة عُمان، أو كذلك في قدرتها على معالجة التَّداعيات المرتبطة بالأوضاع المعيشيَّة للمواطنين والأحداث ذات الصِّلة، أو بما يمرُّ به العالَم من مُشْكلات سياسيَّة وقضايا الإرهاب والتطرُّف والاختلالات الفكريَّة وغيرها كثير.
وعَلَيْه، فإنَّ من بَيْنِ النَّماذج المُجتمعيَّة الَّتي يجِبُ طرحها اليوم في إطار الثَّوابت العُمانيَّة، ومسؤوليَّة الدَّولة في اتِّخاذ الضَّوابط والإجراءات الكفؤة والفاعلة للمحافظة عَلَيْها واستمراريَّتها، وتعظيمها، والحدِّ من التَّداعيات المرتبطة بالتَّساهل فيها، والتَّراكمات السلبيَّة النَّاتجة عن التَّنازل عَنْها على المنظومة المُجتمعيَّة، نشير إلى الآتي:
النموذج الأوَّل: ملف التَّوظيف والتَّشغيل والتَّسريح، حيث يُمثِّل ملف الباحثين عن عمل وتشغيل العُمانيِّين في سُوق العمل، أحَد الملفات الَّتي باتتْ تتقاطع آليَّات التَّعامل معها والترهُّل الَّذي يسيطر عَلَيْها مع أولويَّات رؤية «عُمان 2040» والَّتي يفترض أن توفِّرَ معالجات شاملة وجذريَّة تحافظ على جاهزيَّة وإنتاجيَّة الكفاءة العُمانيَّة، إذ تشغيل العُمانيِّين يجِبُ أن يكُونَ من الثَّوابت الَّتي يجِبُ أن تؤمنَ بها الدَّولة وتضعَها في أولويَّات أجندتها الداخليَّة، وتتحمل الدَّولة مسؤوليَّتها الوطنيَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة في إدارة هذا الملف، وتذليل كُلِّ الصِّعاب والتحدِّيات، وتوفِّر البدائل والخيارات والمعالجات النَّوْعيَّة المستدامة من أجْلِه؛ كونها قضيَّة مستقبل بناء وطن، والمحافظة على إنتاجيَّة مواطن وولائه وانتمائه، وهي قضيَّة أمانة وطنيَّة للأجيال الحاليَّة والقادمة في توجيه الموارد لبناء الرأسمال البَشَري الاجتماعي الَّذي يحمل مسؤوليَّة بناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤيتها الطموحة، ولذلك يجِبُ أن تتخذَ الدَّولة من السياسات والخطط والبرامج والإجراءات الَّتي تضْمن تحقيق هذا الهدف، ومن ذلك: إحلال العُمانيِّين محلَّ الوافدين، وتأكيد ربط التَّعليم بسُوق العمل من خلال جملة الإجراءات والضَّوابط الَّتي تعمل على ضبطِ التخصُّصات الأكاديميَّة والمهنيَّة في مؤسَّسات التَّعليم العالي وتوجيهها لسُوقِ العمل، بالإضافة إلى التَّنويعِ في المسارات التَّعليميَّة، والتَّأكيد على المهارات النَّاعمة، وضمان كفاءة إجراءات الرقابة والمتابعة في الحدِّ من القوى العاملة الوافدة، وعمليَّات التَّدريب للكفاءة العُمانيَّة لتحلَّ محلَّ الوافدين، وهكذا كُلُّ ما يتعلَّق بملفِّ التَّوظيف والتَّشغيل وتبنِّي سياسات تضْمن إعادة هيكلة القِطاع الخاصِّ وتنظيم سُوق العمل والأمان الوظيفي، ومنع الاحتكار والتَّسريح ومراجعة قوانين الاستثمار والإفلاس، وتبسيط الإجراءات والوقوف على التحدِّيات الَّتي يواجهها الشَّباب المواطن في القِطاع الخاصِّ.
النموذج الثَّاني: ما يتعلق بالبُعد الدِّيني والبِناء الفكري للمواطنين في إطار ترسيخ الثَّوابت القائمة على التَّسامح الدِّيني والتَّوازنات الفكريَّة واحترام الشَّعائر الدينيَّة والتعدُّديَّة المذهبيَّة، واتِّخاذ كُلِّ الضَّوابط والإجراءات للمحافظة على السُّلوك العُماني في مواجهة الفِكر التَّكفيري والتطرُّف الدِّيني الَّذي ظلَّت سلطنة عُمان في منأى عَنْه بَيْنَما كان العالَم يتجرَّع ويلاته ويعيش منغِّصاته، من خلال مراجعة المستجدَّات المرتبطة بمسار التنازلات الَّتي تمَّت في هذا الشَّأن، سواء فيما أثاره توجُّه وزارة الأوقاف والشؤون الدينيَّة بشأن سحبِ الأئمَّة من المساجد الَّتي لا تُقام فيها صلاة الجمعة، والتَّداعيات الأمنيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والدينيَّة الَّتي ارتبطت بفراغ الأئمَّة، أو كذلك في اتِّخاذ الإجراءات الرقابيَّة والضبطيَّة الَّتي تحافظ على دَوْر المسجد كمصدر إشعاع دِيني وحضاري وتعظيم وحدة الصَّف والحفاظ على كيانات الدَّولة، ومراجعة السياسات الوطنيَّة المرتبطة ببناء المساجد، وما يتعلق بالخِطاب الدِّيني والمناهج التَّعليميَّة والبناء الفكري ومواصفات أئمَّة المساجد من حيث إعادة رسم ملامح الدَّوْر التَّربوي والثَّقافي والتَّوجيهي والتَّوعوي القادم لأئمَّة المساجد في صناعة القدوات وإنتاج النَّماذج الوطنيَّة، وعَبْرَ حوكمة منظومة المساجد وأوقاف المساجد وأموال المساجد الَّتي ينبغي أن لا تؤثِّرَ في مسار تعيينات الأئمَّة؛ لكونه يُعبِّر عن مسؤوليَّة وطنيَّة في منظومة العمل والتَّشغيل واستيعاب الكوادر الوطنيَّة من مخرجات العلوم الشَّرعيَّة أو غيرها.
النموذج الثَّالث: البُعد المعيشي للمواطن وتوفير سُبل العيش الكريم والآمِن له، الَّذي يتطلب في ظلِّ غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار والركود الاقتصادي، العمل على تبنِّي سياسات وطنيَّة محفِّزة تُعزِّز من منظومة الحماية الاجتماعيَّة بحيث يتَّجه العمل في هذه المنظومة إلى رفع الجهد الحكومي في إدارة مشاعر المواطن ومدركاته الحسيَّة والمعنويَّة من خلال: مراجعة الدَّعم الحكومي لخدمات الكهرباء والماء والوقود، ومراجعة الرُّسوم الحكوميَّة في الخدمات الإسكانيَّة والتجاريَّة والشَّخصيَّة وغيرها، لِيتَّجِهَ الأمْرُ إلى مراقبة الأسعار والحدِّ من جشعِ التجَّار والاحتكار والتِّجارة المُستترة والأيدي الوافدة المنافسة للمواطن، أو ما يتعلق بالقروض البنكيَّة والدَّوْر الاجتماعي لبنك التَّنمية وبنك الإسكان، والإجراءات المتعلِّقة بالمشاريع الاقتصاديَّة في المؤسَّسات الصَّغيرة والمتوسِّطة وريادة الأعمال والعمل الحُر، وإعادة إنتاج المواطن اقتصاديًّا وتعزيز دَوْره في تحقيق الأمن الاجتماعي وتحقيق السَّلام الاجتماعي وما يتعلَّق بالحدِّ من الظواهر السلبيَّة والجرائم واتِّخاذ الإجراءات الَّتي تحافظ على أمنِ المواطن وتُقلِّل من تعرُّضه للنَّصبِ والاحتيال والاحتكار والمخدرات والغش التجاري والمحافظ الوهميَّة أو ما يتعلق بالأمن الغذائي والبيئي والاقتصادي والاجتماعي والفكري عَبْرَ رفع درجة الأمن والسَّلامة، وتعزيز دَوْر الإعلام الوقائي، وترسيخ الوعي الجمعي وغيرها ممَّا يقع في مسؤوليَّة الدَّولة، إذ عَلَيْها أن تضعَ السياسات والخطط والموَجِّهات الَّتي تضْمن المحافظة عَلَيْها؛ باعتبارها جزءًا من الثَّوابت الوطنيَّة يؤدِّي الإقلال مِنْها أو إهمالها أو ترك الأمور فيها للمواطن إلى تداعيات سلبيَّة وترهُّلات تنعكس سلبًا على منظومة العمل الوطني.
عَلَيْه، يأتي الحديث اليوم عن الثَّوابت الوطنيَّة باعتبارها خطًّا أحمر لا يصحُّ تجاوزُه أو العبثُ فيه، أو إدخالُه ضِمْنَ مسألة المساومات الماليَّة والموازنات الاقتصاديَّة وتعريضه لحالةٍ من التَّحجيم أو وضعه خارج سلَّم الأولويَّات، أو التَّنازل عَنْه في إطار مفاهيم التَّمكين واللامركزيَّة أو التَّفويض، فإنَّ وضع الثَّوابت أمام التَّقديرات الماليَّة وإقصاءها من المشهد الوطني الَّذي يتَّجه إلى تعظيم الاستدامة الماليَّة باتَ له تداعياته السلبيَّة على منظومة الثَّوابت ذاتها وآليَّة التَّعامل معها والحِزم التطويريَّة المُتَّجهة إِلَيْها والاستحقاقات الوطنيَّة الَّتي تضْمَن تصدّرها المشهد الوطني، ممَّا يقلِّل من ثقة المُجتمع والمواطن فيها، أو في الالتزام الَّذي يمنحه له، كما يعرِّضها للمزايدات والاجتهادات الفرديَّة المؤسَّسيَّة. وبالتَّالي أهميَّة أن تستمرَّ مسؤوليَّة الدَّولة في وضعِ يَدِها على هذه الثَّوابت وغيرها من المرتكزات الَّتي تُعبِّر عن السِّيادة الوطنيَّة، وتُعزِّز من شأن الوحدة الوطنيَّة، وترفع من سقفِ القوَّة كخيارٍ استراتيجي مرتبط بالاستثمار في الثَّوابت وإعادة إنتاجها لتحقيقِ التحوُّلات الشَّاملة، فإنَّ تنفيذ مستهدفات رؤية عُمان 2040 ذات الصِّلة بالثَّوابت العُمانيَّة، وتحقيق التزامات سلطنة عُمان الخارجيَّة والداخليَّة ينبغي أن يكُونَ متناغمًا ومتوازيًا مع الاهتمام بالثَّوابت الأخرى المرتبطة بفرص التَّنويع الاقتصادي، وعَبْرَ المحافظة على حضور البُعد المالي كداعمٍ رئيس للثَّوابت العُمانيَّة في أبعادها الاقتصاديَّة والإنتاجيَّة والأمنيَّة والابتكار وتعظيم التقنيَّات الحديثة، وضخّ الموازنات الماليَّة لصالحِ الحفاظ على درجة التَّوازنات في الثَّوابت العُمانيَّة، وإخراجها من دائرة الاجتهادات الفرديَّة، وإبعادها عن كُلِّ أشكال الترهُّل والإقصاء، وتعظيم بناء الرأسمال البَشَري الاجتماعي، رهان عُمان المستقبل.
د.رجب بن علي العويسي