يُشكِّل الحوار أهميَّة كبيرة في بناء منظومة عمل مؤسَّسيَّة قادرة على الاستفادة من الفرص والممكنات المهاريَّة والأدائيَّة للعاملين بالمؤسَّسة وفَهْم تطلُّعاتهم، وخيوطًا مترابطة تؤسِّس لمرحلةٍ متقدِّمة من العمل النَّوْعي الَّذي يتجاوز الوقتيَّة. وكُلَّما قوِيَتْ مساحةُ الحوار الداخليَّة في البيت الدَّاخلي للمؤسَّسات واستشعر الجميع فيه ـ رؤساء ومرؤوسين ـ أهميَّة الوصول إلى قناعات مشتركة من العمل لِتَحقيقِ أهداف المؤسَّسة، وأنَّ الاختلاف الحاصل في الإلهام والمدركات الحسيَّة والمعنويَّة وطريق الأدوات، إنَّما تستهدف تحقيق انطلاقة نوعيَّة في عمل المؤسَّسة تتجاوز شخصيَّة الأحداث وكُنْه الأشخاص وسلبيَّة التَّفكير وعُقم الأدوات إلى إنتاج روحٍ مُتجدِّدة وأُطُر يتعايش الجميع في ظلِّها تحت مبادئ المؤسَّسة وأولويَّاتها وقِيَمها.
إنَّ هذه الصورة لمفهومِ الحوار المؤسَّسي باتَتِ اليوم ذات بُعد استراتيجي في تشكيل هُوِيَّتها وبناء صورتها القادمة لدَى المُجتمع الوظيفي، فإنَّ أغْلَبَ التَّحدِّيات الَّتي باتَتْ تعصفُ بالمؤسَّسات وتزايد مساحات الاختلاف فيها، بل حتَّى اتِّجاه أفرادها إلى الاستقالات والتَّقاعدات المبكِّرة، إنَّما يرجع في بعض تفاصيله إلى تحجيم مساحة الحوار الَّتي يُفترض أن تُشكِّلَ ثقافة المؤسَّسة وتُبرزَ طريقة عملها في حلحلةِ الخلافات وإعادة تصحيح الممارسات والانتقال بالمؤسَّسة إلى مرحلةٍ جديدة عمادها المهنيَّة والقوَّة الفكريَّة والإنتاجيَّة وتعظيم دَوْر الرَّأسمال البَشَري الاجتماعي وتعظيم الحوافز المنتِجة له، وتهيئة بيئة العمل واحتواء الأزمات الداخليَّة، والصورة الَّتي باتَتْ تتأصَّل في فِقه المُجتمع الوظيفي نَحْوَ المؤسَّسة ومستوَى اهتمامها بالأولويَّات والاحتياج المُجتمعي، وحرصها على الاحتفاظ بالكفاءات، وإعادة إنتاج الممارسة المؤسَّسيَّة لاستدامة خيوط العمل فيها واضحة، وبوصلة التَّوَجُّه معلومة، وأدوات العمل وإجراءاتها ثابتة، وعِندها لا مجالَ للخلاف، ولا توجد مساحة لتضييعِ الوقت والجهد في الرُّدود على الاعتراضات؛ لأنَّ الجميع شارَك في صُنع سياسة المؤسَّسة وله حضوره في مصيرها ورسم مستقبلها القادم.
من هُنَا فإنَّ الحوار المؤسَّسي اليوم يجِبُ أن يتَّجهَ نَحْوَ الحوكمةِ والتَّقنينِ والرِّيادة والمهنيَّة، فلا تتنازعه مزاجيَّة الأشخاص ولا تتحكم فيه سلطويَّة القرار، ولا تتَّجه فيه الأنظار إلى شخصنة الأحداث، بل صورة أخرى تقرأ المؤسَّسة في إطار الإنتاجيَّة والتَّكامل والتَّفاعليَّة والتَّناغم، وهو الحوار الولَّاد المنتِج الَّذي يتجاوز السَّطحيَّة والملفات الشَّخصيَّة والاجتماعات والفعاليَّات الداخليَّة إلى أنَّ العُمقَ المؤسَّسي ومؤشِّرات الأداء، ويقوم على مبادئ الاعتراف والاقتناع والتَّحليل والدِّراسة وإعادة توجيه المسار وضبط الممارسة؛ كونها مدخلات لفهمٍ متحقِّق ينقلُ المؤسَّسة إلى الإنتاجيَّة الَّتي تعني قدرتها على إنتاج التَّغيير وصناعة الفرص، وتوظيف الأفكار الَّتي تطرح من العاملين فيها ووضعها في إطار التَّحليل والدِّراسة والتَّشخيص، وإبرازها في ثوب التَّكامليَّة والانسجام، بحيث ينعكس على مجريات العمل المؤسَّسي، وتظهر آثاره على مستوى التَّقدير الاجتماعي للمؤسَّسة، والخطط والبرامج التَّطويريَّة الَّتي تعمل عَلَيْها، فيفتح لها الحوار الداخلي آفاقًا أرْحبَ، ومهامَّ أوْسَع، ومحطَّات أدْومَ للتَّواصُل، كما تنمُو في ظلِّ مناخات العمل مفاهيم الثَّقافة المؤسَّسيَّة، والتَّكامل والمسؤوليَّة. والاستفادة من استخدام الموظَّف والمسؤول الحكومي لمنصَّات التَّواصُل الاجتماعي في نُموِّ ثقافة البدائل وإنتاج الحلول، ما يؤكِّد على أهميَّة توظيف المؤسَّسات لهذه التَّفاعلات كمحطَّات للتَّقييم وأرصدة فكريَّة لتفعيلِ المبادرات وتنوُّع الخيارات المطروحة في خدمة أداء المؤسَّسات، وبالتَّالي تحليل المنتَج الفكري والمعرفي وقياس وجهات النَّظر المرصودة من الموظَّف والمستفيد من عمل المؤسَّسات في الجوانب الَّتي لها علاقة بعملها، سواء في إطاره الإيجابي أو النَّقدي الَّذي قد يختلف عمَّا تمَّ اعتماده أو يترجم ما تمَّ الإشارة إِلَيْه، ما يُعزِّز من دَوْر الإعلام الرَّقمي للمؤسَّسات وحضورها الإلكتروني عَبْرَ صفحاتها في المنصَّات الاجتماعيَّة في تأطير نتائج هذا الحوار وتوظيف المؤشِّرات النَّاتجة حَوْلَ المنجز المؤسَّسي والجهود الَّتي تُبذل فيه، بالشَّكل الَّذي يُسهم في مساعدة متَّخذي القرار في فَهْمِ جوانب التَّطوير المطلوبة وأُطُر المراجعة المأمولة.
عَلَيْه، فإنَّ التحدِّيات الفكريَّة الَّتي يعيشها عالَم اليوم، والتَّراكمات الَّتي ظهرت كنتاج للهشاشة الفكريَّة وضعف المساحة الممنوحة للحوار وتداول الرَّأي ووجهات النَّظر، لها انعكاساتها السلبيَّة على عمل المؤسَّسات وإنتاجيَّتها والصورة الَّتي باتَتْ ترسمها لمسار عمل مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة، ما يؤكِّد على أهميَّة التَّعايُش الفِكري كأحَدِ نواتج الحوار، والَّذي يجِبُ على المؤسَّسات اليوم أن تضعَ في مسؤوليَّاتها احتضانه وتفعيل الأُطُر والبرامج المؤسَّسيَّة لنشْرِه بَيْنَ الموظَّفين، ومنح فرص أكبر للقراءة الوظيفيَّة والمهنيَّة المعمَّقة، وبناء فرص أكبر لنُموِّها على مستوى الفرد والمؤسَّسة، وعِندها ستتعامل المؤسَّسات مع المنظور الفكري للعاملين بالمؤسَّسة كأحَد مرتكزات البناء المؤسَّسي النَّاضج والقادر على مواجهة التحدِّيات، في كونه ثقافة عمل مؤسَّسي تربط فيه القِيمة المُضافة للأفكار بالمبادرات المؤسَّسيَّة وتوليد البدائل وإدارة المواهب والخبرات والتَّجارب ورفع سقفِ عمليَّات الابتكار المؤسَّسي، وعَلَيْه تبقَى معطيات المرحلة والمستجدَّات الحاصلة فيها والأحداث التَّراكميَّة المرتبطة بحادثة الوادي الكبير، محطَّات مُهمَّة ومتغيِّرات يجِبُ أن يكُونَ لها حضورها في قاموس البناء المؤسَّسي للجهاز الإداري للدَّولة، ومرحلة تستدعي المزيد من العُمق والتَّأمُّل والبحث وقراءة الأحداث وفَهْمِ التَّفاصيل الدَّقيقة في مسارات الحوار المؤسَّسي ومستوَى حضورها وتقييم نتائجها، وفَهْم مقتضيات الخِطاب المؤسَّسي الدَّاخلي التَّقليدي مِنْه والبديل، عَبْرَ فتحِ المجال للتَّعايش الفكري والتَّسامح المعرفي في أروقة المؤسَّسات؛ باعتبارها أحَد المرتكزات الأصيلة لصناعة الإنتاجيَّة واحترام المسؤوليَّات والولاء المؤسَّسي والانتماء الوطني، والحدِّ من التَّكهُّنات السّلبيَّة المرتبطة بتحجيم الحوار وتنميط أساليب العمل وسياسة الإقصاء والتَّهميش والفردانيَّة وسلطويَّة النُّفوذ، والازدواجيَّة في التَّعامل مع مفردات المؤسَّسة وبيئاتها، في ظلِّ ما يحصل من تعطيل لبعضِ المسؤوليَّات والوظائفِ لأسبابٍ شخصيَّة، في حين يظهر جانب الاهتمام بأنماط ودوائر أخرى في المؤسَّسة على حساب غيرها من المهامِّ والأولويَّات في غيابٍ للعدالة الوظيفيَّة وكفاءة توزيع المهام، ما يضعُ المؤسَّسات اليوم أمام مسؤوليَّة تصحيح هذا المسار ومراقبته، وتعظيم التَّوَجُّهات القائمة على الابتكاريَّة والشَّراكة والمسؤوليَّات، واحتواء الخبرات، وتنشيط الذَّاكرة المؤسَّسيَّة وتعظيم مفاهيم الرِّيادة والقيادة والوعي والعقل الاستراتيجي والشَّفافيَّة والتَّقييم المؤسَّسي والنَّزاهة والرقابة؛ باعتبارها موَجِّهات تطويريَّة مُتجدِّدة يجِبُ أن تبتكرَ لها المؤسَّسات الأساليب والوسائل المناسبة من أجْلِ ترسيخها في ثقافة العمل.
أخيرًا، تبقَى حوكمة الحوار المؤسَّسي الطَّريق لاعتمادِ أُطُر واضحة ومنهجيَّات عمل دقيقة في التَّعامل مع حالة الاختلالات الفكريَّة المؤدِّي إلى التَّنازع، أو المُسبِّبة للدُّخول في ترهُّلات فكريَّة تُعزِّز من سُوء الإدارة، وتؤسِّس للإخلال بالمهامِّ والمسؤوليَّات والتَّركيز على فوقيَّة المناصب، وتؤدِّي إلى الإقصاء والتَّهميش والمحسوبيَّات والسَّحق الوظيفي أو تُتيح المجال للدَّلال الوظيفي الَّذي يَفتقر فيه مَن يعتلون المناصب القياديَّة العُليا للمعايير التنافسيَّة والممكنات الإداريَّة والقياديَّة، ويتمُّ اختيارهم خارج إطار العدالة المؤسَّسيَّة والكفاءة الأدائيَّة، فإنَّ كفاءة المسار وحوكمة نهج الحوار الفكري المؤدِّي إلى التَّعايُش والتَّكامل والإنتاجيَّة، ورفع درجة الجاهزيَّة المؤسَّسيَّة وترقية مبادئ العدالة المهنيَّة وتمكين القدرات والكفاءات الفاعلة بمؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة بِدُونِ استثناء المَدَنيَّة والعسكريَّة والأمنيَّة واحتوائها، سوف ينقل المؤسَّسات إلى مستويات عالية من التَّقدُّم، ويرفع مستوى تقييمها في ميدان المنافسة ونواتج المؤشِّرات، ويُعِيد هيكلة بنائها وتطويرها وفق المستجدَّات والمعطيات الوطنيَّة والعالَميَّة، ويبقى التَّعايُش الفكري النَّاتج عن تعظيم ثقافة الحوار الرَّشيد، وتأطيره في ثقافة المسؤول الحكومي والموظَّف، ضرورة مؤسَّسيَّة وطنيَّة لها موقعها في منظومة الأداء، وبناء بيئات جاذبة للعمل، وترتبط بمسألة التَّقدير الاجتماعي لعملِ المؤسَّسة، لذلك ليس التَّعايُش مجرَّد تناغمٍ في الأفكار وسعيٍ نَحْوَ تحقيق رؤية المؤسَّسة والدِّفاع عن مبادئ العمل وتطبيق قِيَمه وقواعده؛ بل هو مرحلة استثمار لخبرات المؤسَّسة ومواردها وحُسن إدارة الموارد وتوظيفها لتحقيق غايات المؤسَّسة العُليا وأهدافها السَّامية المرتبطة بتحقيق أولويَّات رؤية «عُمان 2040»، وقَبل ذلك كُلِّه حماية الأمن الوطني العام من أن يعبثَ الترهُّل والسَّحق الوظيفي والإقصاء والتَّهميش والدَّلال المِهني بمُكوِّناته وينخر بثوابته.
د.رجب بن علي العويسي