ينطلق طرحُنا للموضوع من فرضيَّة أنَّ ما يُطرَح اليوم من توَجُّهات مبادرات ومسارات اقتصاديَّة أو تمسُّ البُعد المعيشي للمواطن، مِثل: الضَّرائب، ورفعِ الدَّعمِ عن الكهرباء والماء، والرُّسوم الحكوميَّة، وغيرها من التَّوَجُّهات الَّتي باتَتْ تُشكِّل هواجس وضغوطات أمام المواطن لا يدري من أينَ يبدأ فيها أو ينتهي؟ وماذا يُراد مِنْها؟ وأين موقعه من هذه التَّغييرات؟ وما شكْل التَّغيير القادم في حال ما اجتمعت كُلُّ هذه المسارات لِتُشكِّلَ صورة جديدة في حياة المواطن؟ كما أنَّ ما باتَ المواطن يتداوله عَبْرَ المنصَّات الاجتماعيَّة ويشاهده بأُمِّ عَيْنَيْه ويلتقطه سمعُه حَوْلَ الكثير من السِّياسات والإجراءات والتَّوَجُّهات القادمة الَّتي سيتمُّ تطبيقها في الشَّأن الاقتصادي والمالي بشكلٍ خاصٍّ في وقتٍ عصيب وظروف صعبة يُواجِه فيها سُوق العمل الوطني حالةً من الرُّكود الاقتصادي وضعفًا في الأنشطة الاقتصاديَّة وحركة البيع والشَّراء إلَّا في حدود السِّلع الأساسيَّة والاحتياج الغذائي، وغياب ما عداها من احتياجات ومستلزمات تكميليَّة تتعلق بالرَّفاه الاجتماعي، يضعُه في حالة من الذُّهول والهشاشة الفكريَّة، في كيفيَّة التَّعامل مع هذه المُستجدَّات الَّتي عكست حالةً من التَّضييق وعكسَت عقليَّة النُّدرة وأسدلتِ السِّتار على نوافذ الأمل ومسار التَّغيير في العيش في الظُّروف الصَّعبة والتَّعايُش مع غلاء المعيشة.
هذا الأمْرُ يأتي في ظلِّ غياب الموَجِّهات التَّوعويَّة والتَّثقيفيَّة الإعلاميَّة الَّتي تأخذ بِيَدِ المواطن، وتَسير معه خطوةً بخطوة، وغياب وجود إطار إعلامي وقائي وتنافسي موَحَّد يصِفُ الصُّورة الكُليَّة للوضعِ ويُعبِّر عن رأيٍ موَحَّد، يُجنِّب المواطن التَّأويلات والتَّكهُّنات والمغالطات وتشويه الحقائق، وتجاوز التَّناقضات والصوَر المتضاربة والمزدوجة وحجم التَّشوُّهات والتَّباينات والفاقد المعرفي الَّذي يتمُّ تناقله حَوْلَ الحدَثِ القادم، وغياب الرَّصد الفوري للحدَثِ ذاته تفاصيله وإيجابيَّاته وسلبيَّاته، وما أفرزَه التَّنافس بَيْنَ مؤسَّسات الإعلام الحكوميَّة والخاصَّة من سرعة البحثِ عن نقاط الضَّعف أو علامات استفهام الَّتي يُمكِن أن ترفعَ من سقف «الترند» في المنصَّات الاجتماعيَّة أو المشاهير؛ نتاجًا لغياب رؤية واضحة حَوْلَ ما يُراد وصوله إلى المواطن بطريقةٍ نوعيَّة تتناسَب مع ظُروفه وتتعايش مع موارده، وتتعاطى مع أولويَّاته، وتقرأ واقعه وتستنطق هواجسه، وتقف على حجم الهواجس والتَّحدِّيات، ذلك أنَّ كثرة هذه البرامج والمشاريع الَّتي باتَتْ تطبَّق عَلَيْه أو تتَّجه للتَّطبيق دُونَ أن يدركَ ما تَعنيه في الواقع، وما نصيبه مِنْها؟ وكيف يواجِه متطلَّباتها؟ وكيف يستجيب لاحتياجاتها؟ ثمَّ غياب الممكنات والمهارات والمعارف والأطُر المفاهيميَّة الَّتي يتمُّ توجيهها للمواطن في سبيل فهمِ هذا الدَّوْر المُراد مِنْه، أبرزت غياب خيوط الالتقاء الَّتي تُحافظ على درجة الثِّقة لدَى المواطن، وما إذا كان دَوْره مجرَّد مستهلِك متلقٍّ لِمَا يُطلب مِنْه، دُونَ أن يُسهمَ فيه ويشاركَ في صُنعه، وما الحدود الَّتي يجِبُ أن يدركَها لضمانِ أنَّ مسارَ العمل الَّذي تمَّ اتِّخاذه جاء لصالحِه ويسعَى من أجْلِ استدامة هذه الموارد له، ومساحة أمان له لتجديدِ عهد البناء والمواطنة؟
لقَدْ ألْقَتْ مسألة عدم ثبات الإجراءات وكثرة التَّغييرات في المنظورات والأفكار الماليَّة والاقتصاديَّة المطروحة واتِّساع رقعتها وضبابيَّة المفاهيم والمسارات الَّتي يراد مِنْها تحقيقها أو الغاية الَّتي تؤسِّسها والنَّتائج المتوقَّعة مِنْها على المستوى الشَّخصي والمُجتمعي والمؤسَّسي والاقتصادي، ألْقَتْ بتداعياتها على استقرار المواطن الفكري وزيادة الضَّغط النَّفْسي وارتفاع درجة القلق والهشاشة الفكريَّة حَوْلَ المستقبل، وما صاحبَها من حالة الإحباط والتَّفكير السّلبي الَّذي باتَ يُفقده البشاشة وروح الإيجابيَّة والشعور بتقاسم الهدف، وأريحيَّة التَّعاطي مع هذه الموَجِّهات، إذ إنَّ الإسقاطات الَّتي باتتْ تؤسِّسها، والصورة الَّتي تُقدِّمها عَبْرَ وسائل الإعلام مع غياب البُعد التَّحليلي والقراءات المعمّقة والاستشراف للمستقبل ومنهجيَّة العمل المعتمدة على مراكز القياس وتوظيف البيانات وكفاءة الإحصاءات، والممارسات الَّتي رافقتها على مستوى وحدات الجهاز الإداري للدَّولة، والَّتي قد لا تُعبِّر عن تحوُّلات قادمة لصالحِ الفرد، ولا عن توَجُّهات تستهدف إعادة رسم الصورة المشرِقة لحياته من واقع هذه التَّحوُّلات، أو تعكس التَّوَجُّهات العالَميَّة وأفضل الممارسات، في ظلِّ استقصاء للواقع الَّذي يعيشه، وفهمٍ للظُّروف والمتغيِّرات الَّتي باتَتْ تُسقط على المواطن الكثير من التَّبعات. لذلك فلا يزال غير ناضج فكريًّا أو مهيَّئٍ نَفْسيًّا لهَا، ليس لعدمِ جاهزيَّته، بل لأنَّ حجمَ الممكنات والمعلومات والاستقلاليَّة الفكريَّة الممنوحة له ما زالتْ غير كافية، كما أنَّ وضْعَه الاقتصادي لا يتناسَب مع تطبيق هذا التَّوَجُّه، ناهيك عن أنَّ البُعد المعرفي والفكري والصورة الَّتي يحملها حَوْلَ هذا الأمْرِ، ما زالت غير مفهومة أو مدركة الأُطُر، كما أنَّ قابليَّة الفكرة للتَّغيير وتعريضها للتَّقلُّبات والتَّكهُّنات وحالة التَّنازع الَّتي تعيشها بَيْنَ أهلِ الاختصاص ومؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة وتصريحات المسؤولين الحكوميِّين، باتَ يطرحُ اليوم تكهُّنات حَوْلَ واقع الصورة والأثَر المتوقَّع مِنْها.
وعَلَيْه، نعتقد بأنَّ الرِّهان اليوم في تخطِّي هذه الإشكاليَّة يعتمد على مدى حضور مشاعر المواطن في الجهد الجمعي الحكومي ذاته وعَبْرَ تحليل نتائج هذه السِّياسات والإجراءات وعلاقتها بالمحتوى الفكري والنَّفْسي للمواطن، وهل جاء تطبيق هذه التَّوَجُّهات في إطار دراسات نَفْسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وسيكولوجيَّة استطاعت أن تقدِّمَ تشخيصًا وتحليلًا متكاملًا لحالةِ المُجتمع العُماني، والممكنات المتوافرة لدَيْه أو وضعتِ اليدَ على الجرح، من خلال المسوحات والقراءات المتنوِّعة، وفق أدوات محكمة ومناهج بحث واستطلاعات رأي مقنَّنة، ومدى وجود مركز لاستشراف المستقبل وقراءة ردود الأفعال حَوْلَ هذه الموَجِّهات الَّتي قدَّمتها مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة والانطباع الَّذي تتركه، ثمَّ نتائج التَّطبيق المتوقَّعة، والصورة الذهنيَّة الَّتي ترسِّخها في حياة المواطن، وقدرتها على الارتقاء به من كومة الهواجس والأمزجة والخواطر السلبيَّة، وبالتَّالي أهميَّة وجود هذه الممكنات الَّتي تستهدف الوقوف على الواقع وتشخيصه وتحليله وضبط المتغيِّرات والمؤثِّرات فيه وتعميق فرص البحث عن خيارات أوسع تُتيح للمواطن مساحة الاختيار والانتقاء وفق ضوابط واضحة ومتغيِّرات معلومة، فإنَّ من شأن هذا الحراك أن يُسهمَ في توفير البدائل النَّابعة من واقع العمل، وشعور المواطن واستشعاره لحجمِ الظُّروف، بحيث يستطيع من خلالها أن يقرأَ نَفْسَه في ظلِّ هذه المطبَّات و الأمواج العاتية، فإنَّ إدارة المشاعر واستيعاب الظُّروف والتَّعايُش مع المتغيِّرات وصناعة التَّغيير القادم بحاجة إلى التوسُّع في مشاركة المواطن في تقديم أفكاره ومقترحاته وإبداء رأيه وحسمِ الرأي من خلال مقارنتها بما يحصل في الواقع وما يلمسُه المواطن من إنجازات، ثمَّ المساحة من الخيارات الاقتصاديَّة الَّتي تُتاح للمواطن مع كفاءة وإنتاجيَّة المحفِّزات الَّتي تضْمَن قدرته على الاختيار والانتقاء بحيث تضع مشاعر المواطن وتوقُّعاته في واجهة العمل والإطار الَّذي تنطلق مِنْه أيُّ خطوات للإصلاح والتَّطوير، وأن يكُونَ من بَيْنِ مؤشِّرات نجاح هيكلة الأداء الحكومي قدرته على تحقيق التَّناغم مع أولويَّات المواطن واهتماماته، فيقرؤها بعُمق ويدرس تفاصيلها بوعيٍ، ويُدير محاورها بمهنيَّة، ويُنتج لها التَّشريعات والقوانين والقواعد الإداريَّة والتَّنظيميَّة ومعايير السُّلوك والضَّوابط والأُسُس الَّتي تضْمَن تحقُّقها في القرار الوزاري والتَّعميم الإداري.
أخيرًا، يبقى الوصول إلى مسارٍ متوازن يحافظ على استقلاليَّة المواطن الفكريَّة ويضْمَن تعاظم الهاجس التَّنموي الإيجابي لدَيْه، ورفعه هاجسه في قناعات وسلوك المواطن، وتجنيبه المشتِّتات الذِّهنيَّة التَّنمويَّة النَّاتجة عن قراءات غير محسومة، وتكهُّنات غير مدروسة وتقارير غير موثَّقة، ما يؤكِّد أهميَّة التَّكامليَّة والشَّراكة ووحدة الخِطاب المؤسَّسي واستباقيَّته وإنتاجيَّته وقدرته على احتواء المواطن وتوفير المحتوى الأصيل له، وفتح المجال له لمعرفةٍ أوسع لِمَا يَدُور في خلج هذه السِّياسات والموَجِّهات من تفاصيل دقيقة، تعزيزًا للثِّقة وتأصيلًا للحوار المشترك، وعَبْرَ المزيد من المكاشفة والوضوح والموضوعيَّة والشفافيَّة والشَّراكة، وتوفير مساحة الأمان الفكري للمواطن في التَّعبير عن رأيه بما يُتيح له تقييم هذه القرارات وإثراءها ويُعزِّز من إنتاجيَّتها وقوَّة تأثيرها وتوفير مظلَّة القَبول لهَا في المُجتمع، واستشراف ما تُقدِّمه من أجْلِ العيش الكريم للمواطن. وتبقَى مسألة حضور مشاعر المواطن في الجهد الحكومي، واستدراكها في السِّياسات الاقتصاديَّة والمعيشيَّة، وعدم خلط الأوراق مع أولويَّة المحافظة على جودة الحياة المعيشيَّة للمواطن؛ باعتبارها خطًّا أحمر يجِبُ عدم السَّماح بتجاوزه من أيِّ كائن كان أو بأيِّ مبرِّر كان.
د. رجب بن علي العويسي