بَعْدَ مرورِ (54) عامًا على رحيل جمال عبدالناصر ما زال هذا الزَّعيم هو مالئ الدُّنيا وشاغل النَّاس، مؤكِّدًا حقيقة جليَّة أنَّ العظماء لا يموتون. فلقد تجلَّت تجربة عبدالناصر كتجربةٍ رائدة على الصَّعيد العربي والعالَمي لِتُحدثَ تغييرًا في ملامح المنطقة عمومًا، وليس في مصر وحْدَها، فلامسَتْ تأثيراته الدَّائرة العربيَّة والإفريقيَّة والدّوليَّة. ومن الجدير دراسة التَّجربة النَّاصريَّة بشكلٍ منهجي ما لهَا وما عَلَيْها وتجنُّب الانزلاق مع هالة التَّشويه الَّتي تعرَّض لهَا هذا الزَّعيم قَبْلَ وبَعْدَ رحيله من قِبَل خصومِه وما زالت تلك الهالة تغلِّف الكثير من الآراء الَّتي لم تتعمقْ في ترجمة الفكرة النَّاصريَّة. ولا شكَّ هي فكرة تجسِّد معاني التَّحرُّر الوطني والاستقلال ومقاوَمة قوى الاستعمار، وتكرِّس العدالة الاجتماعيَّة، وتمكِّن أبناء الوطن من الاعتماد على الذَّات الوطنيَّة.. فجاءت مبادئ ثورة يوليو (52م) للقضاءِ على الإقِطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحُكم، وإقامة جيش وطني قوي. وتجسَّدت هذه المبادئ خلال (18) عامًا منذُ ثورة يوليو وحتَّى رحيل عبدالناصر في الـ(28) من سبتمبر 1970م.
القراءة السَّطحيَّة لتجربةِ عبدالناصر لا تُمكِّن القارئ من النَّظر إلى عُمق التَّجربة وقواعدها الفكريَّة وقِيَمها الوطنيَّة ومبادئها الإنسانيَّة، وحرص الرئيس جمال عبدالناصر على تكريس تلك القِيَم والمبادئ في الذَّاكرة الشَّعبيَّة والوطنيَّة وملامستها لدوائرها الثَّلاث العربيَّة والإفريقيَّة والدّوليَّة، لذلك بعض القُرَّاء لا يرَى في تجربة عبدالناصر إلَّا أخطاءها. والمؤسِف أنَّ هناك قِطاعًا كبيرًا لا يَعرف ماهيَّة هذه التَّجربة ويتعامل معها بتلك العناوين السّلبيَّة الَّتي أرادها خصوم عبدالناصر كواجهةٍ؛ فرهنَتْ تلك الفئة نَفْسها في تلك العناوين، ولم تحاول استطلاع وتقييم التَّجربة من مختلف جوانبها الفكريَّة والمادِّيَّة، فحكَمتْ على نَفْسها قَبْلَ أن تحكُمَ على تجربة جمال عبدالناصر.
عِندما يتصدر جمال عبدالناصر المشهد العربي، بل والعالَمي، في مناسبات تاريخيَّة والأحداث الرَّاهنة، بَيْنَما يختلف الكثير من الزُّعماء.. فهذا يؤكِّد قِيمة تلك التَّجربة خلال (18) عامًا من وجود عبدالناصر في ذاكرة الثَّورة والذَّاكرة الوطنيَّة المصريَّة والذَّاكرة العربيَّة، كيف لا؟ وهو الزَّعيم الَّذي تمكَّن من تحقيقِ التَّحرُّر لبلادِه من خلال توقيع اتفاقيَّة الجلاء مع الإنجليز، وسانَدَ حركات التَّحرُّر الوطني لعددٍ من الأقطار الأخرى، بل كان مُلهمًا للثَّوار في أميركا اللاتينيَّة، وكانت القاهرة أحَد محاور السِّياسة العالَميَّة بقوَّة تأثير هذا الزَّعيم وعلاقاته الدّوليَّة الواسعة. وأسهَمَ عبدالناصر أيضًا في تأسيس مؤتمر عدم الانحياز عام 1955م، ورفع مستوَى التَّعليم في بلده من خلال مجانيَّة التَّعليم، وأقامَ نهضةً صناعيَّة في مصر شملتْ مختلف الصِّناعات الخفيفة والثَّقيلة من خلال تأسيس (1200) مصنع ممَّا حقَّق نسبة نُموٍّ في عام 1968م تفوق الكثير من الدوَل الصِّناعيَّة حسب تقرير الأُمم المُتَّحدة للتَّنمية. ولهذا كان يُحارَب عبدالناصر من قِبَل قوى الاستعمار، كما تمكَّن عبدالناصر من إعلان تأميم قناة السويس لِيعُودَ ريعها لصالحِ مصر والَّتي تلاها العدوان الثلاثي الفاشل ضدَّ مصر وقد خرجت مصر عبدالناصر بأقوى ممَّا سبَقَ وارتفع نجم عبدالناصر عالَميًّا حتَّى أنَّه عِندما حضرَ إلى الأُمم المُتَّحدة لإلقاء كلمة مصر في سبتمبر عام 1960 وقفَتْ جميع الوفود تُحيِّي عبدالناصر، وعِندما انسحبَ عبدالناصر مع كلمة مندوب الكيان الصهيوني تبعَ عبدالناصر عشرات الوفود العربيَّة والإفريقيَّة والدّوليَّة.. فحُقَّ لمصرَ أن توصَفَ بالقوَّة الثَّالثة المؤثِّرة عالَميًّا مع الولايات المُتَّحدة والاتِّحاد السوفيتي، بعدَها الْتفَّتْ عبدالناصر إلى إنجاز مشروعه الصِّناعي العظيم السَّد العالي وما صاحَبَه من محاولة أميركيَّة للضَّغط على البنك الدّولي لعدمِ إقراض مصر، لكنَّ عبدالناصر حقَّق بإرادته مشروعًا وطنيًّا ما زال حتَّى اليوم يوصَفُ بأعظم مشروع صناعي في القرن العشرين. كما حقَّق ناصر الكثير من المنجزات على الصَّعيد المادِّي بمختلف مجالاته.. وعلى الصَّعيد الفكري من خلال تكريس مبادئ الحُريَّة والاشتراكيَّة والوحدة، فجاءت الوحدة الَّتي لم يُكتَبْ لهَا الاستمرار رغم أصالة جوهرها، لتنفضَ عُراها في الـ(28) من سبتمبر 1961م. لكن قدرات التَّأثير النَّاصري تجلَّت من خلال ما قدَّمه عبدالناصر في العقد الأوَّل من الثَّورة، فوظَّف عبدالناصر إمكاناته الفكريَّة وتأثير شخصيَّته على أبناء الأُمَّة الَّتي تطلَّعت لهذا الزَّعيم كزعيمٍ تاريخي حقَّق المعادلة الوطنيَّة والقوميَّة بكُلِّ قِيَمها فارتقَتْ فئات الشَّعب العامل والفلَّاحون بعد أن كانت هذه الفئات تعيش حياة السّخرة لرجالِ الاقِطاع والباشوات وأذناب الاستعمار، فحقَّق عبدالناصر العدالة الاجتماعيَّة، وتجسَّدت قدراته الشَّخصيَّة أيضًا على التَّأثير الخارجي فتجلَّت خلال حادثة السَّفينة كليوباترا في أبريل عام 1960م عِندما توقَّف عمَّال الشَّحن والتَّفريغ في ميناء نيويورك عن تفريغها من القطن وإعادة شحنها بالقمح الَّذي يَعتمد عَلَيْه أبناء الشَّعب المصري في حياتهم اليوميَّة حسب اتِّفاقيَّة التَّبادُل التِّجاري؛ وذلك بهدفِ ليِّ ذراعِ مصر نظيرَ دعمِها للقضيَّة الفلسطينيَّة ودعمِها ثورة الجزائر، إلَّا أنَّ عبدالناصر أطلَقَ نداءه الشَّهير لعمَّال الشَّحن في الموانئ العربيَّة فتوقَّفت كُلُّ سُفن الشَّحن الأميركيَّة والدوَل الدَّاعمة للكيان الصهيوني، ما أدَّى إلى حدوث أزمة عالَميَّة أدَّت إلى إسراع الولايات المُتَّحدة بإنهاء أزمة السَّفينة كليوباترا. هكذا عِندما تمتلك القيادات أوراق القوَّة والتَّأثير وتُسخِّرها لخدمةِ مصالح بلادها وأُمَّتها.
الحديث عن تجربة عبدالناصر يتطلب الإنصاف، فهناك من الأخطاء الَّتي لا يُمكِن تجاوزها؛ لأنَّ التَّجارب البَشَريَّة دائمًا مُحاطة بالأخطاء كما هي مُحاطة بالنَّجاح، ومن هُنَا يُمكِن قياس قِيمة التَّجارب الحاكمة.. وتُعَدُّ هزيمة يونيو 1967م من أكبر الأخطاء الَّتي صاحبَتْ هذه التَّجربة، لكنَّ الخطأَ يجِبُ أن يكُونَ وقودًا للنَّجاح طالَما وجدَ الاجتهاد والإخلاص والنِّضال والإمكانات القياديَّة الَّتي شكَّلت أُسُس التَّجربة النَّاصريَّة فكانتْ كفيلةً باستعادةِ زمامِ المبادرة بعد يونيو 67م من خلال حرب الاستنزاف، وتوحيد الجهود العربيَّة، وتنسيق المواقف السِّياسيَّة العربيَّة، وتحديث الجيش المصري، وتحديث القيادات خلال السَّنوات الثَّلاث الَّتي سبَقتْ رحيل عبدالناصر والَّتي مكَّنت مصر من تحقيق انتصارٍ عظيم في معركة العبور الَّتي أعدَّ لهَا عبدالناصر، ويظلُّ جمال عبدالناصر مالئ الدُّنيا وشاغل النَّاس له من المؤيِّدين المدافعين عن تجربته حتَّى اليوم بعد مرور (54) عامًا على رحيله، كما أرادتِ المشيئة الإلهيَّة قَبل ذلك عودته بأعظم استفتاء شَعبي بعد نكسة (67م)، وإصرار الجماهير على أنَّه الزعيم الَّذي يُمكِن أن يُحققَ طموحاتهم وآمالهم.. رحمَ الله جمال عبدالناصر عِندما ترتفع صوَره في كُلِّ مناسبة عربيَّة حتَّى اليوم.
خميس بن عبيد القطيطي