تمَّ التَّشغيل التَّجريبي لسُوق الأسماك بالمضيبي في مارس من عام 2024، وقد أشرفَتْ على تنفيذه والإشراف عَلَيْه مشكورةً وزارة الثَّروة الزِّراعيَّة والسَّمكيَّة وموارد المياه وبتمويلٍ من شركة تنمية نفط عُمان بتكلفة بلغت أكثر من (365) ألفَ ريالٍ عُماني حيث تمَّ إنشاؤه في مساحة بناء تقدَّر بـ(920) مترًا مربَّعًا على أرض مساحتها الإجماليَّة (8) آلاف متر مربَّع، وقد تضمَّن السُّوق (14) طاولة عرض لبيع أسماك، وقاعة خاصَّة لتقطيعِ الأسماك تحتوي على (7) طاولات، بالإضافة إلى قاعة لانتظار المستهلِكِين وقاعة خاصَّة للمناداة أو بيع الجملة، إلى جانب وجود مخزن للتَّبريد ومصنع إنتاج الثَّلج، ويستهدف السُّوق تلبية احتياجات المواطنِين من الأسماك الطَّازجة، بحيث تتمُّ عمليَّة البيع والشِّراء للأسماك الطَّازجة في بيئة صحيَّة ومريحة للباعة والمستهلِكِين، ملبية للاشتراطات الصحيَّة ومعايير السَّلامة وضبط الجودة للمنتَجات السَّمكيَّة، الأمْرُ الَّذي من شأنه أن يرفعَ من جودة المنتَجات المعروضة ويزيد من مستوى رضا المستهلِكِين، ويُعزِّز من رفد محالِّ ومنافذ بيع الأسماك ومتطلباتها بالأسماك الطَّازجة. كما يُسهم السُّوق في دعم المشروعات الصَّغيرة والمتوسِّطة في قِطاع بيع وتسويق الأسماك، وتوفير فرص عمل إضافيَّة للمواطنين؛ هذه كانت الصُّورة النّموذج الَّتي يُراد من سُوق الأسماك بالمضيبي تحقيقها، لِيتناغمَ منظور إنشائه مع أولويَّات رؤية «عُمان 2040» ذات الصِّلة بالمحافظات والمُدُن المستدامة أو تلك المتعلِّقة بالتَّشغيل.. ولكن هل تحقَّق ذلك فعلًا أو بعضٌ مِنْه على أرض الواقع بعد مرور أكثر من ستَّة أشْهُر على تشغيله؟ وهل نالَ هذا الطُّموح الَّذي أُريد من تنفيذ هذا السُّوق مبتغاه، ووصلَ إلى مقصده، أم ينطبق عَلَيْه المَثل: تجري الرِّياح بما لا تشتهي السُّفن؟
ومع الطُّموح والتَّوقُّعات والآمال العراض والبهجة والسُّرور الَّذي رافقَ الشُّعور الجمعي لأهالي ولاية المضيبي عامَّة ومركز الولاية بالمضيبي خاصَّة، منذُّ البدءِ بإنشاء السُّوق، ورغبتهم في سرعة الانتهاء مِنْه والبدء بتشغيله، إلَّا أنَّ المفاجأة غير المحسوبة والصَّدمة الَّتي يعيشها الأهالي وهُمْ ينظرون إلى سُوق الأسماك بلا أسماك وبلا باعة أو مشترين وبلا حركة سوقيَّة وشرائيَّة تُذكَر؛ رغم موقعه في وسط مركز الولاية وقربه من الشَّارع العامِّ ومن المساكن وغيرها من الميزات التَّنافسيَّة الَّتي جاءت في اختيار موقع المشروع، إلَّا أنَّ ما يُحزن القلب ويُزعج الخاطر أن تضيعَ التَّوقُّعات والآمال وتغيبَ الطُّموحات والأحلام، ليس انتقاصًا من المشروع الَّذي بُنِي على أفضل المواصفات؛ وقد يكُونُ أفضلها على مستوى ولايات محافظة شمال الشرقيَّة؛ بل لأنَّه لم يجدْ مَن يُشغِّله، ولأنَّ مَن يفكِّر في تشغيلِه باتَ قَبْلَ أن يتَّخذَ قرار الاستثمار في السُّوق، أن يقرأَ طبيعة السكَّان ومستوى الحركة الاقتصاديَّة وحجم الاهتمام الَّذي يُولِيه أهْلُ الولاية بولايتهم. وأعتقدُ جازمًا بأنَّ هناك العديد من المستثمِرِين الَّذين فكَّروا في الاستثمار بهذا السُّوق إلَّا أنَّ غياب الحركة الاقتصاديَّة والتِّجاريَّة، وضعف القوَّة الشِّرائيَّة باتَ يعرقل كُلَّ الطُّموحات نَحْوَ الانتقال بسُوق الأسماك إلى الطُّموح، ويطرح علامات استفهامٍ كُبرى، حَوْلَ أين المُشْكلة تحديدًا؟ وما المطلوب فِعله في ظلِّ هذه المعطيات السّلبيَّة لمشاريع تنمويَّة سعَتِ الحكومة جاهدةً ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ إلى تنفيذِها تحقيقًا للأولويَّات الوطنيَّة التَّنمويَّة؟
قد يقرأ البعض في تناوُلِي لهذا الموضوع حالةً من الاستباقيَّة، وأنَّ ما تبرزه الأيَّام القادمة من فرص سوف يُجيب عن التَّساؤلات والتَّكهُّنات الَّتي باتَتْ حاضرةً لكُلِّ مَن يشاهدُ سُوق الأسماك بأُمِّ عَيْنَيْه، قد يكُونُ الأمْرُ لدَى البعض كذلك فأعذره، ولكنَّني أطرحُ الموضوع في فترةٍ قياسيَّة كفيلة بصناعة الفارق وإحداث التَّحوُّل، حيث يفترضُ أن يُشكِّلَ التَّشغيل التَّجريبي محطَّة اختيار وفرصةً لرصدِ مؤشِّرات العمل القادمة. فالبداية الصَّحيحة والنَّوعيَّة، والحرص على تعظيم مسار التَّسوُّق السَّمكي، وتنشيط الحركة الشِّرائيَّة في المشروع مؤشِّر إيجابي للمستثمِرِين والمؤسَّسات المعنيَّة بأنَّ هناك نشاطًا اقتصاديًّا قادمًا، وأنَّ هذه الصُّورة الإيجابيَّة الَّتي بدا بها المشروع إنَّما تُعزِّز مسار الاستدامة، وتُعبِّر عن شغَفِ الحاجة المُلحَّة لأهلِ ولاية المضيبي لتنفيذِ هذا المشروع، وتأكيدًا على أنَّ اختيار ولاية المضيبي من بَيْنِ ولايات محافظة شمال الشَّرقيَّة في استئثارها بهذا المشروع، وأسبقيَّتها في الحصول عَلَيْه، يعطي مؤشِّرًا على أنَّ الاختيار لم يكُنْ عبثًا، وتقديم هذه الولاية على غيرها في حصولها على المشروع مبنيٌّ على دراسات واضحة واستحقاقات تنمويَّة، وأنَّه جاء عَبْرَ أُطُر ومنهجيَّات دقيقة سعَتِ المحافظة إلى العمل بها في عمليَّة توزيع المشروعات التَّنمويَّة وتوجيهها في الولايات السَّبع، سواء من خلال دراسات الجدوى أو مسارات المتابعة والتَّقييم والرَّصد والتَّشخيص الَّتي يُفترض أن تقومَ بها مكاتب الولاة مع المؤسَّسات المعنيَّة، غير أنَّ الحقيقةَ المُرَّة أنَّ الصُّورةَ الاستباقيَّة السّلبيَّة الَّتي قدَّمها ـ تعاطي أبناء الولاية مع هذا المنجز التَّنموي وتغييبه كُليًّا عن أهدافه، وأعتبُ شخصيًّا على شباب الولاية في استمرارهم في التَّسوُّق من سُوق سناو، واستمرار أو اعتياد هذا التَّوَجُّه الشِّرائي في عمليَّة التَّسوُّق اليومي باتَ له تداعياته السّلبيَّة على أنشطة ولاية المضيبي وحظوظها التَّنمويَّة ومركز الولاية تحديدًا، لذلك في تقديري الشَّخصي وعسى أكُونُ مخطئًا في ذلك أنَّه وبعد مرور هذه الفترة التَّجريبيَّة الكافية لقراءةِ طبيعة التَّحوُّل القادم الَّذي لازمَ افتتاح وتشغيل سُوق الأسماك، أن أقولَ بأنَّ المؤشِّرات الحاليَّة لا تقدِّم أيَّ فرصةٍ إيجابيَّة للاستثمار في هذا السُّوق، وأنَّ الرِّهان الأكبر اليوم هو على أهالي الولاية عامَّة والشَّباب خاصَّة بأن يُعِيدوا تصحيح المسار فيُوَجِّهوا أنظارهم إلى ولايتهم ويتَّجهوا بحركة البيع والشِّراء إلى بيتهم الدَّاخلي؛ فإنَّ نجاح وكفاءة مشروعات التَّطوير في أيِّ ولاية أساسها أبناؤها وتكاتفهم نَحْوَ تعظيم النَّشاط الاقتصادي أو السِّياحي وتعظيم الحركة الشِّرائيَّة الدَّاخليَّة.
لقد طرحت العديد من الخيارات في التَّعامل مع وضعِ السُّوق بعد هذه المفاجأة غير السَّارَّة الَّتي ارتبطت بالتَّشغيل التَّجريبي، وهي اليوم لم تحققْ تلك الطُّموحات الَّتي أشارت إليها التَّغطيات الصّحفيَّة الَّتي تمَّ تنفيذها عَبْرَ وسائل الإعلام والمنصَّات الاجتماعيَّة مع بدء التَّشغيل التَّجريبي، ومن ذلكم مثلًا: الجمع بَيْنَ بيع الأسماك واللُّحوم الحمراء والبيضاء، أو إيقاف عقود المحالِّ القائمة حاليًّا ليتمَّ نقلُها إلى السُّوق، ورغم ما يُمكِن أن يحقِّقَه هذا الخيار من فرصٍ ضئيلة لنشاطِ السُّوق نظرًا للقناعة الحاصلة لدَى أغلبيَّة الشَّباب بالتَّردُّد على ولاية سناو وسُوقها النَّشط لشراء الأسماك؛ إلَّا أنَّ المُشْكلة تبقَى تَدُور في حلقة مفرغة. فالقِيمة المحسوبة الَّتي أُنفقت على هذا المشروع، إن كان الهدف مِنْها توفير مكان صحِّي للوافدين لبيع الأسماك فلا قِيمة معنويَّة لِمَا يُراد من هذا المشروع الَّذي انتظرَه الجميع قَبْلَ عقودٍ مضَتْ، ويرَى فيه كبار السِّن أنَّه إعادة إنتاج لسُوقِ المسيلة من جديد يوم أن كان حضوره فاقَ الوصف، وأصبحَ مقصدَ الجميع من مختلف الولايات الأخرى المجاورة لولاية المضيبي، ولكن نقولُ لكُلِّ زمان ظروفه، فإنَّ هذه الخيارات الَّتي تمَّ تداولها لن تقدِّمَ الصُّورة النّموذج، ولن تُحققَ الغايات التَّنمويَّة المأمولة.
أخيرًا، ومع كُلِّ ما أشرتُ إِلَيْه تتوالى الأسئلة والهواجس رغبةً في الحصول على إجابة مقنعة للحدِّ من استمرار خروج سُوق الأسماك بالمضيبي خارج التَّغطية التَّشغيليَّة. وأختمُ مقالي بسؤال آخر: ما الصُّورة الَّتي وضعَتْها جهات الاختصاص عِند إنشاء هذا السُّوق وما دراسات الجدوى الَّتي قدَّمتها؟ وهل تمَّ تقييم المشروع قَبْلَ إنشائه في ظلِّ قراءة توَجُّه أغْلَبِ المواطنين للتَّسوُّق من سُوق ولاية سناو الَّذي يبعد عن المضيبي في حدود أقلَّ من (20) كم، ثمَّ ما الدَّوْر الَّذي قدَّمه مكتب المحافظة ومكتب الوالي ومؤسَّسات المُجتمع المَدَني والفِرق الخيريَّة بالمضيبي في توعية أبناء الولاية بأهميَّة تعزيز كفاءة السُّوق عَبْرَ تنشيط الحركة الاستهلاكيَّة والشِّرائيَّة من أسواق ومحالِّ ومراكز التَّسوُّق بالمضيبي؟ لقد حان الوقت في أن تتبنَّى المحافظات سياسات أكثر احترافيَّة في آليَّة تنفيذ المشاريع التَّنمويَّة وتعظيم قِيمتها المُضافة، تعكس مستوى الاحتياج لهذا المشروع وفق مؤشِّرات واضحة تُراعي مختلف العوامل والمؤثِّرات والظُّروف والمتغيِّرات والنُّمو السكَّاني وحَجْم الأنشطة الاقتصاديَّة والسِّياحيَّة فيها، والتَّحوُّلات الَّتي تستشرفها الولايات والمحافظات في السَّنوات العشر القادمة.
د.رجب بن علي العويسي