إذا أراد أي شخص أن يعرف ويتعلم عن القيادة، فيجب عليه أن يتعلم من مهاتير محمد عن القيادة، وكيفية قيادة الناس، وكيفية التحول من اقتصاد زراعي فقير إلى بلد غني، يُعرف بأنه والد التحديث في ماليزيا.
وفي هذا الصدد، فإن الإصلاحات الديناميكية التي حدثت في سياق ماليزيا بأكملها تدين بالكثير لقيادة مهاتير محمد. أدت قدرته القيادية إلى نمو المجتمع من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى والإنجازات التي لم يسبق لها مثيل من قبل أي زعيم معاصر ولا في الوقت الحاضر، إنه وطني حقيقي وزعيم متعدد المواهب حيث كان قادراً على تحقيق اختراق في فترة قصيرة من الزمن. الغرض من هذه الكتابة هو معرفة صفات القيادة لمهاتير محمد وإنجازاته وأفكار الحكم الفعالة التي حولت ماليزيا إلى بلد غني ومتقدم.
مهاتير محمد هو قائد ماليزي بارز نجح في تحويل بلاده من اقتصاد متخلف إلى قوة اقتصادية صناعية حديثة، وهو شخصية يستحق أن يُحتذى بها في العالم العربي، حيث تواجه العديد من الدول تحديات اقتصادية عميقة تجعلها تعتمد بشكل كبير على الاستهلاك بدلاً من الإنتاج. وُلد مهاتير في عام 1925 لعائلة بسيطة، وبدأ مسيرته كطبيب قبل أن ينخرط في السياسة، ليصبح رئيس وزراء ماليزيا لفترتين (1981-2003 و2018-2020)، وقاد خلالها نهضة اقتصادية شاملة.
تحت قيادة مهاتير، تحولت ماليزيا إلى مركز صناعي مزدهر، فقداستثمر في التعليم، البنية التحتية، والتكنولوجيا، مما أسس قواعد اقتصادية قوية، كانت رؤيته ترتكز على سياسة “التطلع شرقاً”، مستلهماً من النجاح الاقتصادي لليابان وكوريا الجنوبية، وقد ساعد هذا التوجه في خلق بيئة جاذبة للاستثمار الأجنبي، مع التركيز على تنمية القطاع الخاص وزيادة التصدير الصناعي، ما أدى إلى تحقيق معدل نمو سنوي يقارب 10% حتى الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997. كانت هذه السياسات محور تحول ماليزيا إلى قوة اقتصادية.
وعلى الرغم من التحديات التي واجهها خلال الأزمة المالية، نجح مهاتير في الحفاظ على استقرار ماليزيا وإعادة بناء اقتصادها،كما رفض العروض الغربية في تحرير الأسواق بشكل كامل، وفضّل الحفاظ على سيادة بلاده الاقتصادية من خلال التدخلات الحكومية الذكية، لقد كانت إدارته تتميز بالحنكة السياسية والاقتصادية التي جمعت بين حماية الطبقة العاملة وإيجاد فرص استثمارية تجذب رؤوس الأموال الأجنبية.
وبالمقارنة، نجد أن العديد من الدول العربية لا تزال تعتمد على استيراد معظم احتياجاتها، ولا تسعى بجدية نحو بناء اقتصاد منتج ومستدام، الاعتماد على الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز قد يوفر دخلاً مؤقتاً، لكنه لا يبني اقتصاداً مستقراً وقادراً على الصمود في مواجهة التحديات العالمية، في المقابل، نجحت ماليزيا تحت قيادة مهاتير في تنويع اقتصادها والابتعاد عن الاعتماد على المصادر الطبيعية وحدها، وهو ما تفتقر إليه العديد من الدول العربية.
لقد كان لمهاتير دور كبير في تطوير البنية التحتية والتعليم والصحة في ماليزيا، وهي القطاعات التي أهملتها بعض الدول العربية، إن النجاح الذي حققته ماليزيا يبرز الدور الذي يمكن أن يلعبه القادة الحكماء الذين يمتلكون رؤية اقتصادية مستدامة ويعتمدون على تنويع مصادر الدخل وبناء الاقتصاد على أسس علمية.
إن مهاتير محمد كان رمزاً للإرادة والتخطيط طويل الأمد، وقد أثبت للعالم أن بإمكان دولة صغيرة ذات موارد محدودة أن تتحول إلى لاعب أساسي في الاقتصاد العالمي، بالتالي، يمكن أن تكون تجربته مصدر إلهام للدول العربية التي تحتاج إلى قيادات تمتلك الرؤية والشجاعة لتحقيق الاستقلال الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام.
بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر مهاتير بن محمد، شخصية استثنائية في تاريخ البلاد والعالم، فقد قدّم مهاتير نهضة حقيقية لماليزيا، انتقل بها من الفقر والضعف إلى دولة صناعية مزدهرة، خلال فترة حكمه الطويلة، من 1981 إلى 2003، ومن 2018 إلى 2020، أظهر قدرته الفائقة على تحويل التحديات إلى فرص، مما جعله نموذجاً يُحتذى به في مجال القيادة والإدارة.
ومن خلال رؤية استراتيجية، أطلق مهاتير مجموعة من السياسات الاقتصادية التي ساهمت في تعزيز النمو والتطور، أدرك أهمية الاستثمار الأجنبي وأحدث إصلاحات ضريبية، مما أدى إلى خلق بيئة ملائمة للأعمال. كما أطلق “رؤية 2020” التي كانت تهدف إلى تحقيق مكانة ماليزيا كدولة صناعية متقدمة، بالتالي، ساعدت تلك السياسات على تقليص الفقر وتحسين مستوى المعيشة وزيادة معدلات التعليم والصحة.
ومقارنة أخرى بالدول العربية، التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، يمكن أن تكون تجربة مهاتير درساً مفيداً، في حين أن العديد من الدول العربية تكافح مع الأزمات والحروب، نجح مهاتير في إيجاد حلول واقعية للنمو، حيث وضع المصلحة الوطنية في المقام الأول وركز على تحقيق استقرار سياسي واقتصادي، بالتالي يمكن للدول العربية أن تتعلم من منهجه في تعزيز الشمولية الاقتصادية والاجتماعية وتجاوز الانقسامات العرقية والطائفية.
من هنا، إن فقدان مهاتير يعد خسارة كبيرة، فهو كان رمزاً للتغيير والتقدم في عصر مليء بالصراعات، ففي ظل الظروف الراهنة في الشرق الأوسط، حيث تزداد الأزمات وتعاني الكثير من الدول من غياب الاستقرار، يصبح الاستفادة من تجربة مهاتير أكثر إلحاحاً، خاصة وأن قيادته الاستباقية ونظرته بعيدة المدى تعكس قدرة القادة على تحويل الظروف الصعبة إلى فرص للنجاح.
بالتالي، إن الإرث الذي تركه مهاتير يشجع القادة الحاليين والمستقبليين على اتخاذ خطوات جريئة نحو الإصلاح والتنمية، كمايُظهر أن التحول الإيجابي ليس فقط ممكناً، بل هو مسؤولية يجب أن يتحملها القادة من أجل شعوبهم، لذلك، فإن مهاتير بن محمد ليس مجرد قائد تاريخي، بل هو مثال حي على أن الرؤية والتصميم يمكن أن يحدثا فرقاً حقيقياً في حياة الأمم.
إن مهاتير بن محمد هو شخصية لن تُنسى في عالم السياسة والقيادة، لقد أثبت، من خلال رؤيته وإرادته، أن التغيير ممكن حتى في أصعب الظروف، لقد ترك إرثاً يعكس القدرة على تحويل الأزمات إلى فرص، ويظهر كيف يمكن للقيادة الحكيمة أن تعيد بناء الأمم وتغير مسارات التاريخ، ومن تجربة مهاتير بن محمد، يمكن للأمة العربية أن تستخلص العديد من الدروس القيمة التي قد تساعدها على مواجهة التحديات والتغلب على الأزمات التي تعصف بها، وهنا بعض النصائح المستفادة من هذه التجربة الملهمة:
القيادة الحكيمة والرؤية المستقبلية: إن أول ما يمكن استلهامه من تجربة مهاتير هو أهمية القيادة التي تمتلك رؤية واضحة وطموحة، على الأمة العربية أن تدرك أن النهوض لا يمكن أن يحدث بدون قادة قادرين على توجيه دفة السفينة نحو مستقبل أفضل، كما يجب على القادة العرب تبني رؤى اقتصادية وسياسية تعمل على تطوير البنية التحتية وتنمية الإنسان، بعيداً عن الفساد أو المصالح الشخصية.
الاستقلال الاقتصادي والتنمية المستدامة: ركز مهاتير على خلق اقتصاد قوي ومستقل، وأعطى الأولوية للصناعة والتعليم، الأمة العربية بحاجة إلى التركيز على التنمية الاقتصادية المستدامة بدلاً من الاعتماد على موارد محددة مثل النفط، والاستثمار في التعليم، التكنولوجيا، والبحث العلمي هو المفتاح لبناء مستقبل أقوى وأكثر استقلالية.
الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي: أحد أهم نجاحات مهاتير كان قدرته على تخطي الانقسامات العرقية والطائفية في ماليزيا، وخلق بيئة تساهم في الوحدة الوطنية، حيث تحتاج الدول العربية إلى تعزيز التماسك الاجتماعي بين مختلف مكوناتها، والابتعاد عن الصراعات الداخلية التي تضعف من قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية.
مواجهة الفساد وتحقيق الشفافية: كان مهاتير من أشد المدافعين عن مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية في حكومته، والأمة العربية بحاجة إلى حكومات تتسم بالشفافية والعدالة، وتعتمد على الكفاءة بدلاً من الولاءات السياسية، بدون محاربة الفساد، ستظل أي محاولة للإصلاح والتنمية عقيمة.
استغلال الأزمات كفرص للتغيير: مهاتير تعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية التي واجهها كفرص لتحقيق التغيير والإصلاح، الأمة العربية تواجه العديد من التحديات، ولكن يجب أن تُحول هذه التحديات إلى فرص لبناء دول أقوى وأكثر استقراراً بدلاً من الاستسلام لها.
السيادة والاستقلالية في العلاقات الدولية: مهاتير حافظ على استقلال ماليزيا في علاقاتها الدولية ولم يخضع لضغوط القوى الكبرى، على الأمة العربية أن تسعى إلى بناء سياسة خارجية متوازنة ومستقلة، تراعي مصالح شعوبها، وتبتعد عن الانحياز أو الاعتماد المفرط على القوى الخارجية.
التركيز على المستقبل بدلًا من الماضي: مهاتير لم يبنِ نهضة ماليزيا عبر التعلق بالماضي، بل ركز على مستقبل البلاد وكيفية تحسينه، وعلى الأمة العربية أن تتطلع إلى الأمام، وتضع استراتيجيات للتقدم والابتكار بدلاً من التركيز على الصراعات القديمة أو النزاعات التي تعوق التقدم.
بالتالي، وفي ظل عالم مضطرب، تجربة مهاتير بن محمد هي تذكير بأن الشعوب القادرة على التغيير هي الشعوب التي تمتلك الإرادة والرؤية، ويبقى لدينا أمل بأن الأمة العربية قادرة على التحول والنهوض إذا تعلمت من هذه التجربة وطبقتها بحكمة وعزيمة، ففي زمن تعصف فيه الصراعات بالعديد من الدول، وخاصة في الشرق الأوسط، تظل تجربة مهاتير نموذجاً يُحتذى به، ففلسفته في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية تُعطي الأمل بأن الابتكار والإرادة يمكن أن يحققوا النتائج المرجوة، كما يُظهر إرثه أننا بحاجة إلى قادة يتسمون بالشجاعة والتفاني في خدمة شعوبهم، وأن الاستقرار والازدهار ليسا مجرد حلم، بل يمكن تحقيقهما إذا وُجدت الرؤية الصحيحة والإرادة القوية.
إن رحيل مهاتير يمثل فقداناً ليس فقط لماليزيا، بل للعالم أجمع، لكنه يترك وراءه درساً خالداً، أن القادة العظماء ليسوا فقط من يُحققون النجاح لبلادهم، بل هم من يُلهمون الأجيال القادمة لمواصلة السعي نحو التغيير الإيجابي، ورفع راية الأمل في وجه التحديات، فمهاتير بن محمد سيبقى دائماً في الذاكرة، تجسيداًللقوة والعزيمة في سعيه نحو مستقبل مشرق وأفضل.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.