في ٢٨ سبتمبر اليوم الذي تمر فيه ذكرى وفاة الزعيم جمال عبدالناصر أكد حزب الله خبر اغتيال أمين عام الحزب حسن نصر الله الذي ربما – كان بعد عبد الناصر- أكبر عدو عربي لإسرائيل في التاريخ المعاصر.
ربط بين الرجلين الانتصار لفلسطين والمقاومة والاستعداد للتضحية حتى بالنفس وبالروح. وربط بينهما ما كان ينسب لنصرالله احتذاء شعار استراتيجي صكه عبد الناصر في التعامل مع إسرائيل ونمط حرب موجع مارسه ضدها بعد عدوان يونيو ٦٧. أما الشعار فهو مقولة عبد الناصر الشهيرة “إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”. وأما نمط الحرب فهي نمط حرب الاستنزاف التي استخدمها عبد الناصر على جبهة القناة ٦٨- ٧٠ والتي أرهقت اسرائيل وكانت سببا حاسما في جعل معجزة عبور القناة في حرب ٧٣ ممكنة.. وهو ما فعلته، أيضا، حرب إسناد نصر الله لغزة والتي أوجعت إسرائيل لدرجة أنها حسمت أمرها أخيرا وأخذت قرار اغتياله بعد ثلاثة عقود أذاقها فيها جيشا ومجتمعا مرارة بعض أقسى هزائمها. السؤال هو لماذا الآن يتم اغتيال نصرالله ويتم ترك إسرائيل تفعل ما تشاء في السموات والأراضي العربية؟
كيف يمكن فهم السياق السياسي الذي قررت فيه واشنطن وإسرائيل معا اتخاذ قرار اغتيال زعيم تيار المقاومة في الشرق الأوسط؟ وهل اتخذ القرار الصعب الذي ترددا فيه كثيرا عندما امتلكا فيما يبدو تقديرا استراتيجيا مشتركا: إن مخاطر وعواقب القيام به على مصالحهما في المنطقة في هذه اللحظة بالذات ستكون عواقبه محدودة وأقل بكثير من المكاسب السياسية والمعنوية الكثيرة التي يجنونها من قتله.
السياق السياسي العام هو أن أمريكا اعتبرت انتصار حماس في ٧ أكتوبر تهديدا وجوديا ليس فقط لإسرائيل ولكن أيضا لها ولهيمنتها على العالم العربي الممتدة منذ اتفاقيات كامب ديفيد ٧٨. وأسست على ذلك أن استراتيجية إدارة الصراع الذي مارسته منذ كيسنجر مع الصراع العربي/ الإسرائيلي قد انتهى زمانها وحان الوقت لاستراتيجية حسم الصراع أي الانتقال إلي إنهاء الوجود العسكري والسياسي لحماس والجهاد في غزة والضفة، وإنهاء الوجود العسكري لحزب الله في لبنان ثم التفرغ لاحقا لإيران بعد القضاء على طوق النار المحيط بإسرائيل.
السياق السياسي الخاص تمثل في استنتاج واشنطن لمعنى الفشل الذريع الذي منيت به استراتيجية الحسم لمدة ١١شهرا رغم كل المدد العسكري غير المسبوق والدوس بالحذاء على النظام الدولي بحيث تفلت إسرائيل من العقاب وتأخذ كل الوقت اللازم لتصفية حماس عسكريا وتصفية حكمها المدني للقطاع وإعادة المختطفين.
أخفقت إسرائيل في تحقيق هدف واحد من الأهداف الثلاثة، وأخفقت فيما وعدت به راعيها الأمريكي وما وعدت به حلفاءها العرب من نصر سريع وخاطف يحد من خطر تواطئهم معها أمام شعوبهم وأمام العالم.. وترافق ذلك مع إخفاقين آخرين الأول هو إخفاق الوسطاء العرب المباشرين وغير المباشرين في الضغط على حماس لدرجة قبول اتفاق استسلام، فمرونتها كانت وصلت أقصاها مع قبول مقترح بايدن ٣١مايو الذي رفضته إسرائيل ولم تكن مستعدة لطلبات نتنياهو وتغييراته التي كان قبولها يعني كما قال الشهيد اسماعيل هنية “أن تحصل إسرائيل بالمفاوضات على ما فشلت في تحقيقه بالحرب. التطور الثاني هو إخفاق ضغوط إسرائيل وأمريكا على لبنان وحزب الله خصوصا ليقبل الفصل بين جبهة غزة وجبهة لبنان وتصميم نصر الله على عدم وقف إطلاق الصواريخ التي هجرت عشرات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين في الشمال قبل وقف حرب الإبادة لغزة.
لم تكن أمريكا وإسرائيل مهيأتين لأن يستمر هذا الإخفاق حتى يأتي موعد الذكرى الأولى لهزيمة ٧ أكتوبر وأن تكون فكرة أن العرب انتصروا هي ما يستقر في ذهن العرب والعالم. وفي الشهرين الأخيرين اللذين يسبقان الذكري بدأت في فعل ما لم تفعله منذ بداية الحرب في غزة سواء للحصول على صورة نصر مزعوم بأي ثمن قبل مرور العام بدون تحقيق انجاز استراتيجي واحد وخضوعا لمقتضيات الانتخابات الأمريكية التي تتطلب مساندة غير مسبوقة لإسرائيل من الديمقراطيين تفوق حتى مزايدات الجمهوريين وترامب وبما يدعم كامالا هاريس في الفوز بدعم مطلق أصوات القاعدة الضخمة من ناخبي المسيحية الصهيونية.
استعصاء نصرالله والسنوار على كل الضغوط من الأعداء والأشقاء وميل الجناح شديد الصهيونية في الإدارة إلي عقاب القائدين والمنظمتين على هذا الاستعصاء هو الذي أصدر قرار تصفية القائدين الرمزين وكانت المعلومة التي سلمت نصر الله أولا كانت مجرد فرصة للعدو وليست مفاضلة بينهما.
العقبة الأساسية في الوصول للسنوار ونصرالله كلا في جبهته وفي تدمير القوة الضاربة للصواريخ ومنصاتها كانت متعلقة أساسا بفلسفة الحماية التي وفرتها الأنفاق والتحصينات ومراكز القيادة والسيطرة التي أنشئت على مدى عقود تحت الأرض في الجنوب اللبناني وغزة. قررت واشنطن هنا إعطاء إسرائيل ما لا تملكه دولة أخرى على الأرض غيرها ألا وهي الصواريخ والقنابل الفراغية والارتجاجية القادرة على ضرب أي نفق وتحصينات تحت الأرض مهما بلغ عمقها حتى تنجح فيما عجزت فيه شهورا. لولا ضوء أمريكا الأخضر وقنابلها التي تزن ألفي طن وصواريخ تصل لتدمير أهداف على عمق٤٠ مترا ما استطاعت إسرائيل الوصول لنصرالله واغتياله وما استطاعت أن تقول بكل وقاحة إنها رسالة للسنوار بأن الدور قادم عليه.
التقيد الإيراني الذي يراوح مكانه رغم اغتيال هنية في قلب طهران ثم اغتيال نصر الله مركز ثقل المقاومة في المنطقة في نظر مراقبين بدا شديد التأخر عن إدراك التغير الاستراتيجي في تعامل أمريكا مع طهران وحلفائها في محور المقاومة وإزالتها كل الخطوط الحمر أمام نتنياهو. تقيد رآه نتنياهو وكأنه تشجيع ضمني على المضي قدما في كسر المقاومة واستباحة لبنان وسوريا. بل إن رسائل بعض أعضاء الفريق الجديد للرئيس الإيراني المتوددة للغرب بدت وكأنها إشارة لتل أبيب أنها لن تواجه خطر اندلاع حرب شاملة وعقاب موجع مهما تمادت في إهانة كل عواصم المنطقة دون استثناء.
على المدى القصير فإن تمكن أمريكا وإسرائيل من رأس نصرالله سيربك نسبيا المقاومة في لبنان وغزة، وسينشغل حزب الله لفترة بإعادة تنظيم صفوفه واختيار قيادة بديلة وحماية بقية قدراته العسكرية وتنشغل حماس بتوفير وسائل حماية قائدها السنوار من اليد الإسرائيلية. لكن وكما لم تفض عمليات اغتيال قادة ثورات التحرر الوطني لمنعها من الحصول على استقلالها ولا أدي اغتيال إسرائيل لقادة المنظمات الفلسطينية خمسة عقود من استمرار الكفاح المسلح بل أدى لتعاظم قدراتها ونقلها مسرح المعركة لأرض إسرائيل والقضاء التام على شعور مواطنيها بالأمن.
حتى إذا تفككت حماس أو الجهاد أو تفكك حزب الله – لا قدر الله – ستكون المجموعات المتفرقة الباقية منهم – كما تثبت كل تجارب التاريخ وخبرة الصراعات المسلحة – أكثر عنفا وطلبا للثأر وستنشأ منظمات أخرى لن تقف عند الأهداف الإسرائيلية بل ستمتد إلى أهداف أمريكية وغربية والأخطر عربية رسمية يراها البعض مشاركة في إبادة أطفال ونساء غزة والضفة ولبنان.
وحتى بعض العرب الذين يوزع بعضهم الحلوى فرحا في استشهاد نصر الله ويترقبون استشهاد السنوار معتقدين أن خطر الحرب الشاملة قد زال تماما عنهم وبلدانهم.. عليهم ألا يأمنون مكر الصراعات وسهولة انزلاقها إلى الانفجار الشامل أو الفوضى التامة.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب